جميلة علم الهدى/ ترجمة: عباس صافي
يمكننا ملاحظة العديد من الإشارات المختلفة في الآيات القرآنية التي تتناول حقيقة الإنسان، ولكي نحصل على نتيجة عامّة، سنقوم بدرج بعض الآيات في أدناه وذلك بحسب الموضوع الذي تشير إليه كلّ واحدة منها، وكما يلي:
1- لم يكن تاريخ الإنسان أو ماضيه شيئاً مذكوراً: (أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) (مريم/ 67)، و(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) (مريم/ 9).
2- لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً قبل وجوده: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) (الإنسان/ 1).
3- التراب (أو الطين) هما أصل الإنسان والمادّة التي خُلِقَ منها:
(.. إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ) (ص/ 71)، و(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون/ 12)، و(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر/ 28).
4- الإنسان مخلوق من (ماء دافق): (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (الطارق/ 6-7).
5- يتألّف الإنسان من صور مختلفة ومتنوّعة في مسيرته نحو التطوّر الجسماني: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا...) (المؤمنون/ 13-14).
6- الإنسان خلق آخر متميّز، غير جسماني، أو أنّه مزيج من الروح والأمر: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً...) (المؤمنون/ 14)، و(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص/ 72).
إذا نظرنا إلى الآيات السابقة نظرة فاحصة سنلاحظ من خلالها أنّ الإنسان ليس شيئاً إذا ما استثنينا خلق الله سبحانه له، فلا تتحقّق حقيقته إلا من خلال ارتباطه بخلقة الحقّ تعالى له. وهذا الارتباط الذي يؤدّي إلى الخلق التدريجي والتكاملي للجسم هو الكفيل بصيرورته إلى شيء غير مذكور في حين أنّه لم يكن شيئاً أصلاً، ثمّ إلى تراب، ثمّ إلى سائل (أو ماء) مهين، ثمّ إلى نطفة، ثمّ يتحوّل بعدها إلى أمشاج، وبعد ذلك تُخلق له العظام وتُكسى باللحم، حتى تنتهي هذه العمليّة بإدخال الروح إليه.
لكنّنا، ومن خلال تصنيف بعض الآيات القرآنيّة الأخرى، نصل إلى نتيجة مفادها أنّ المرحلة الأخيرة من خلق الإنسان تختلف وتتباين عن المراحل التي تسبقها، والسبب في ذلك هو أنّ طريقة إيجاد الإنسان هي طريقة أمريّة لا خلقيّة. ومن الناحية الأخرى، فإنّ هذه المرحلة تتزامن مع وصف الله سبحانه ذاته بأنّه (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) وهو ما يشير كذلك إلى كون الإنسان من أحسن المخلوقات وأفضلها. إضافة إلى ذلك، فإنّ عبارة (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) تدلّ على أنّ خلق الروح تزامن مع خلق البدن لا بواسطته؛ بمعنى أنّ الروح هي أمر مجرّد، وإيجادها هو من نوع الإيجاد الأمري، لكنها تتزامن مع خلق البدن وربما كانت مشروطة به أيضاً.
وتصف بعض الآيات القرآنية بدن الإنسان بأنّه (مرآة الحقّ) كالآية (4) في سورة (الجاثية): (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، والآية الأخرى (20) في سورة (الروم): (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ). ولكن، بالنظر إلى الآية الشريفة (53) في سورة (فصّلت) (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، تندرج جميع تلك الآيات ضمن مجموعة الآيات الآفاقيّة لأنّ الإنسان فيها هو عبارة عن مخلوق وأثر في الوقت نفسه كما هو الحال مع الأجزاء الأخرى في عالم الوجود، وباستطاعته أن يصبح دليلاً ومرشداً إلى الله سبحانه وتعالى بمساعدة العمليّات الاستدلاليّة. إلا أنّنا نلاحظ في آيات أخرى أنّ القرآن الكريم يشير باهتمام إلى الهويّة المرتبطة بالإنسان، ومن الواضح أنّ الآية (15) في سورة (فاطر): (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، والآية (88) في سورة (القصص): (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، ومن خلال إشارتهما الصريحة والتامّة إلى الفقر الذاتي لجميع الموجودات، تُعتَبران من أكثر الآيات القرآنية وضوحاً كذلك في ما يتعلّق ببيان الفقر الذاتي للإنسان نفسه. فصفة (الغَني) هي صفة ذات الحقّ سبحانه، وقد جاءت في مقابل (الفقر)؛ إذاً، مع ملاحظة عبارة (إلى اللهِ) تُصبح صفة (الفقر) صفة لذات الإنسان لا حقيقة عارضة على ذاته.
ووفقاً للآية (15) في سورة (فاطر)، فإنّ جميع الناس قائمون بغيرهم لأنّ كلمة (الفقير) لا تعني هنا (الضعيف) أو (المعوز الذي لا يملك مالاً أو نقوداً)، بل تعني (الشخص الذي تكسّرت فقرات ظهره وعجز عن الوقوف على قدميه). وهذا الفقير لا يمكنه العودة والوقوف على قدميه من جديد إلا إذا كان قائماً بالآخرين. ومن جهة أخرى، وبالنظر إلى شمولية اسم (الله) – عزّ وجلّ – مقارنة بأسمائه الأخرى، فإنّ الإنسان محتاج إلى الله سبحانه وتعالى في جميع الأبعاد وليس في ما يتعلّق برزقه وحسب. وتستوجب الذات الفقيرة والفارغة للأشياء وجود الله الصمد الذي يملأ جميع الفراغات بحضوره الواسع، بحيث يشمل ذلك ملء الفراغ الموجود بين عروق رقبة الإنسان والفراغ القائم بين قلبه وبينه. وعلى هذا الأساس، نجد القرآن الكريم ينسب في الكثير من آياته أعمال الإنسان إلى الله سبحانه، ذلك أنّه ليس من إله سوى الله تعالى، وبالتالي لا وجود غير وجود الحقّ سبحانه ولا حول ولا قوّة كذلك سوى حوله وقوّته عزّ وجلّ، فالقوّة والقدرة جميعاً لله سبحانه وحده (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (البقرة/ 165)، وكلّ ما يقوم به المخلوق مهما بلغت قدرته وطاقته المادية والمعنوية والشخصية، ومهما استخدم من آلات وأدوات، إنّما هو مرتبط بالله تعالى بشكل مباشر. فأعمال الخلق هي عين عمل الخالق، كما أنّ وجود الخلق يمثّل عين وجوده تعالى. واستناداً إلى ذلك، يتّضح لنا بجلاء أنّ نسيان النفس وعرفانها يرتبطان ارتباطاً مباشراً بنسيان الرب وعرفانه كذلك. فذات الإنسان فقيرة وهي تفتقر إلى الله، أذاً فهي حقيقة ارتباطيّة، بل يمكن القول بأنّها عين الارتباط (إلى الله). وبناءً على ذلك، فإنّ معرفة حقيقية هذه الذات الجوفاء الفارغة التي تمتلئ بالحضور الشامل للحقّ تعالى، هي عين معرفة الطرف المَعنيّ بالارتباط، والعكس صحيح أيضاً، فنسيان حقيقة الارتباط المتعلّقة بذات الإنسان تعني نسيان الله تعالى من دون أدنى شكّ. ولذلك، فبإمكان نفس الإنسان أن تصبح مرآة لمعرفة الله سبحانه.
ولابدّ لنا هنا من القول إنّ القرآن الكريم أولى كذلك اهتماماً كبيراً بحياة الإنسان الاجتماعية، وأطلق على جوانبها وصورها المختلفة اسم (مرآة الحق). وتُقسَّم هذه المجموعة من الآيات إلى قسمين: القسم الأوّلك ويضمّ الآيات التي تشير إلى العلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد البشر على أنّها رمز ومرآة للحق، مثل الآية (22) في سورة (الروم): (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، والآية (103) في سورة (آل عمران): (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا...). أمّا القسم الثاني من تلك الآيات فيتناول تاريخ الإنسان وسِيَر الماضين وأخبار الأجيال والأُمم السابقة، مثل الآية (42) في سورة (الروم) والآية (11) في سورة (الأنعام) والآية (69) في سورة (النّمل) والآية (86) في سورة (الأعراف). تتّصف هذه المجموعة من آي القرآن الكريم بميزتين مرآتيتين، هما: أنّ تلك الآيات تمثّل مرآة (أو مرايا) الله الخبير والمتكلّم من حيث أنّها تُخبر عن الغيب، وتؤيّد كَون النبي (ص) يتلقّى علومه بواسطة الوحي. وأمّا الميزة المرآتية الأخرى لهذه الآيات فتعود إلى طبيعة الوقائع والأحداث التاريخية. فعلى سبيل المثال، بعد الإخبار عن بعض أحوال النبي داود (ع)، يقول القرآن الكريم: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة/ 252)، ومن ذلك يتبيّن لنا أنّ هذه الحادثة تمثّل بحدّ ذاتها آية من آيات الله سبحانه وأنّ هذا الإخبار بحدّ ذاته هو آية أخرى من آيات الله بصرف النظر عن مضمونه ومحتواه.
المصدر: كتاب (النظرية الإسلامية في التربية والتعليم)
ارسال التعليق