التقيت أحد الأصدقاء من رجال الأعمال، وهو ناشط اقتصادي ويرأس اتحادا صناعيا فلسطينيا، وتطرق الحديث إلى جانب من علاجات الوضع الاقتصادي الفلسطيني وحماية "المنتج الوطني" عبر فرض ضرائب (رسوم جمركية) على السلع المستوردة (من الصين مثلا)، وذلك من أجل تعزيز تنافسية المنتج الوطني في السوق المحلي.
وكان صديقي مع ناشطين آخرين قد "نجحوا" في رفع الضرائب السلطوية (الجمارك) على المنتجات المستوردة، مما يعتبرونه إنجازا كبيرا يسهم في تحريك عجلة الصناعة المحلية وبالتالي زيادة وتجديد فرص التشغيل للعمالة المحلية، وهو أيضا مما يسجلّونه لوزير الاقتصاد السابق لدوره في تحقيق هذا المنجز الاقتصادي الوطني.
وتكمن وجهة النظر (الاقتصادية) للناشطين والصناعيين (المحليين) في أنه عندما يرتفع سعر المنتج المستورد يقترب من سعر المنتج المحلي الذي هو أعلى جودة، فيقبل المستهلك المحلي على شراء المنتج (الوطني) بدافع السعر والجودة، فيزيد الانتاج ويتحسن الاقتصاد الفلسطيني، من ثم يتعزز صمود الناس على الأرض.
هنا تبرز إشكالية فكرية-سياسية في زاوية النظر وفي مصدر العلاجات للمشاكل الاقتصادية وغيرها، ولذلك ارتأيت أن أكمل نقاشي مع صديقي عبر هذا المقال، وهو يصل له ولغيره من أطراف العلاقة الاقتصادية على المستوى الرسمي والشعبي.
***
وكمقدمة لطرح الموضوع، لا بد من التقرير بداية أن القاعدة الفكرية التي تنطلق منها العلاجات لمشاكل الانسان عموما هي وجهة نظره العامة في الحياة، والتي تنبني على عقيدة الانسان (بغض النظر عن صحتها)، ولذلك لا يمكن فصل العلاجات الاقتصادية للمسلمين عن الاحكام الشرعية -حتى تحت ضغط الواقع الصعب وعند صعوبة (أو استحالة التطبيق) ضمن الواقع المعاش- إذ يبقى الحكم الشرعي هو العلاج الصحيح، ويبقى ما يناقضه علاجا باطلا مهما كان له من مسوغات، ومن مبررات واقعية ومصلحية (المصلحة العامة).
وفي هذا السياق، أود التعليق على ذلك الانجاز الاقتصادي من زوايا ثلاثة تسهم في تحقيق رؤية اقتصادية صحيحة، أبدأها بنظرة فكرية عامة، ثم أُتبعها بالمسألة الشرعية، وأختمها بالزاوية السياسية.
أولا- الزاوية الفكرية-المبدئية:
رحم الله سيد قطب الذي سجّل قاعدة فكرية رائعة عندما قال لا تستفتوا الإسلام عن مشاكل لا تظهر أساسا في بيئته الإسلامية، ولذلك يفشل الأفراد والناشطون في إيجاد حلول (صحيحة-إسلامية) لمسائل واقعية هي أصلا نشأت في واقع مشوّه أفرزته الرأسمالية التي تهمين على النظرة الاقتصادية العالمية، وهي مسائل قد لا يكون لها حضور في بيئة إسلامية. لذلك ليس من الاستقامة الفكرية أن نبحث عن حل الإسلام لمشكلات الاقتصاد الرأسمالي الذي تنشأ في بيئته، ومن باب أولى: إنه لمن النكد الفكري أن نبحث عن حل الإسلام لمشاكل السلطة الفلسطينية الاقتصادية، وهي كيان لا يوصف بالمشوّه –كحال بعض البلاد التي تمتلك نوعا من السيادة السياسية وتتحكم في مواردها ولو جزئيا- ولكنه كيان ممسوخ الوجه والبنيان ولا يعيش إلا تحت إنعاش المعونات الدولية، إذ السلطة الفلسطينية هي مجرد دولة على الورق لأناس تعيش تحت الاحتلال، ولا تستطيع أن تفصل حياتها اليومية عنه إلا لتعود وتجبر على الرضوخ له.
إضافة لذلك، فإن الناشطين الاقتصاديين (والسياسيين) لا يرون من الحلول إلا ما تطرحه النظرة الرأسمالية-العلمانية، لأنها تكاد تكون النظرة الوحيدة الحاضرة في المنتديات الاقتصادية والمؤتمرات الرسمية، ولذلك فلا يتمكنون من الخروج من صندوق تلك النظرة، ولا يبدعون في الحل خارج حدود ما تطرحه إفرازات الرأسمالية، التي تكّون الضرائب والجمارك عماد الاقتصاد فيها.
ومن هنا سعى الناشطون الاقتصاديون في فلسطين لدفع (!) هذا الحل الاقتصادي على السلطة الفلسطينية، لأنه هو ما طُرح ودار –ويدور- ضمن اللقاءات الاقتصادية التي يتحدث فيها الخبراء (الغربيون ومن تأثر بهم من العرب). ولعله غاب عنهم أنه حل رأسمالي ضمن منظومة اقتصادية رأسمالية، إذ خلطوا فيه بحث وسائل التنمية الاقتصادية مع بحث المعالجات والنظام الاقتصادي.
إن التنمية الاقتصادية في الجوانب المادية من مثل تحسين جودة المنتجات هي وسائل عامة قد لا يختلف عليها البشر مهما تعددت ثقافاتهم، ولذلك يمكن أن تكون محل نقاش (علمي) ضمن المنتديات الاقتصادية، ولكن أحكام المعالجات الاقتصادية من مثل كيف يمتلك الإنسانُ المالَ المشروع (ومنه موضوع الضرائب والجمارك) هو أمر ثقافي-حضاري لا يمكن أن يُستقى من خبراء غربيين، إذ هو عمل حصري للفقهاء المسلمين (بل المجتهدين منهم على وجه الدقة).
ولا تكتمل هذه النظرة الفكرية إلا بإبراز تميّز نظرة الاقتصاد الإسلامي على نظرة الاقتصاد الرأسمالي: بأن الأولى حددت المشكلة الاقتصادية في توزيع الثروة على الناس، بينما حصرت الثانية الثروة في أيدي القلة من الأثرياء، بعدما حددت المشكلة الاقتصادية في زيادة الإنتاج لا في تحقيق التوزيع للثروة.
والإسلام يحرص على تفتيت المال وتوزيعه توزيعا فعليا ملموسا لا إحصائيا كما تفعل النظرة الرأسمالية، عندما تحسب معدل دخل الفرد عبر القسمة –الرياضية- لمجمل الناتج القومي على عدد السكان، وهو التفاف رياضي على موضوع التوزيع، لا يحقق العدل أبدا.
ولا شك أن فرض الجمارك على الاستيراد نابع من النظرة الاقتصادية (الرأسمالية) القائمة على زيادة الإنتاج، وهو يحدث خللا في توزيع المال بين الناس، ويسهم في حصر الثروة بأيدي القلة من الأثرياء، لأن هذا التشريع الاقتصادي الغربي يسهم في زيادة عائدات المستثمرين (عبر زيادة الإنتاج) على حساب الفقراء من المستهلكين الذين يدفعون تلك الضرائب، فيحرمون من امتلاك حقهم من المال. ولذلك فهو –في الحقيقة- يقود إلى نتيجة عكسية في موضوع تعزيز صمود الناس تحت الاحتلال، ولا أبالغ إن قلت أنه مؤامرة على الناس وعلى اقتصادهم وليس حلّا للمشكلة الاقتصادية.
ولذلك هذه دعوة للناشطين الاقتصاديين أن يميّزوا حدود النظرة الإسلامية والغربية للوقائع الاقتصادية، وأن لا يرضخوا لحالة الغلبة الفكرية والاقتصادية أمام الغرب، فينحصر فكرهم فيما يَطرح، ومن ثم يغيب عنهم البعد الحضاري الإسلامي الذي تعرضه الزاوية التالية هنا.
ثانيا - الزاوية الشرعية:
يدرك من يفقه شيئا من مسائل الاقتصاد الإسلامي أن فرض الضرائب الجمركية على الرعايا أمر شدد الإسلام على حرمته، وتوعد صاحبه بعقاب شديد، كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ" (رواه أحمد)، والمكس هنا هي الجمارك على البضائع.
ولذلك قام النظام الاقتصادي الإسلامي على تحريم أخذ الجمارك على البضائع من رعايا الدولة الإسلامية (من المسلمين وغير المسلمين)، إذ لا يجوز أن يؤخذ من مال المسلم شيء إلا بحق شرعي، وهو تشريع في الحقيقة يسهم في تخفيض أسعار السلع، ولا تؤخذ الجمارك إلا من رعايا الدول الأخرى التي تفرض على الدولة الإسلامية (الخلافة) جمارك، وذلك تحت قاعدة المعاملة بالمثل.
وإن من عدل التشريعات الإسلامية أنها حرمت الضرائب عموما إلا ما كان واجبا على المسلمين القيام به لقضاء مصالحهم، وعندما لا تكف موارد الدولة لتحقيقه، فأوجب عندها أخذ ضريبة من أغنياء المسلمين (فقط)، فلا ضريبة على الفقراء ولا على رعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين، وهذا تشريع ليس كمثله على وجه الأرض في العدل والرقي. وفي الغالب فإن موارد الدولة من ملكياتها ومن الملكيات العامة كالمصادر الطبيعية مثل البترول والمعادن تكفي وتزيد، فلا ضرائب عندها تستحق، لا على الأغنياء ولا على الفقراء.
ولذلك فإن ذلك الإنجاز الاقتصادي (الفلسطيني)، هو أخذ لمال الناس بغير حق: يطال إثم هذا الأخذ غير المشروع كل من أدلى بدلوه في تشريع وتمرير هذه الزيادة الجمركية.
وهنا لا بد من القول أن التنمية الاقتصادية قد تُزين للقائمين عليها والمستثمرين استباحة الأعراض والاتجار بمفاتن النساء، مثلما تزيّن لهم فرض الضرائب، وكلا الأمرين حرام، ولكنهم قد يستبيحون الثاني لأنه حديث "الخبراء" من ذوي الهندام وربطات العنق، ويرفضون الأول لأنه "عيب" اجتماعي، مع أن الإثم عند الله عظيم في الحالين: في حالة فتح المواخير للدعارة وفرض الجمارك للجباية. بل ورد في حديث توبة الغامدية التي رُجمت من الزنا ما قد يجعل جريمة فرض الجمارك (المستحسنة عند بعض الاقتصاديين) فوق جريمة الزنا (المستقبحة عند الناس عموما)، حيث رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له" (رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي).
وهذا الحكم الشرعي ليس رأيا حزبيا يحمله الكاتب، بل هو حكم شرعي راسخ عند العلماء (ومنهم الرسميون من أصحاب الفتاوى الرسمية)، كما أفتت لجنة الإفتاء في السعودية في فتوى رقم ( 4012) من فتاوى اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز، والتي شبّهت من يفرض الجمارك بقاطع الطريق وباللص، وجاء فيها: "والمكّاس من أكبر أعوان الظلمة، بل هو من الظلمة أنفسهم، فإنه يأخذ ما لا يستحق، ويعطيه لمن لا يستحق". واعتبرت الفتوى جابي المكس وكاتبه وشاهده وآخذه -من جندي وشيخ وصاحب راية- شركاء في الوزر. ولا شك أن هذا الأمر يشمل من دفع السلطة لفرضه وروج لهذا الأمر على إنه انجاز اقتصادي.
ولا شك أن هذه الفتوى تدق ناقوس خطر عند الناشطين الاقتصاديين (ممن يحرصون على آخرتهم)، وتقرع قلوبهم للعودة عن مطالباتهم تلك، فقد كانوا –من حيث لا يعلمون- من أعوان الظلمة، بل ظلموا العباد بأخذهم مال المستهلك مما لا يستحقونه، ووضعه في جيب السلطة التي لا تستحقه.
ثالثا- الزاوية السياسية:
لا شك أن وزير الاقتصاد الفلسطيني الذي أسهم في تحقيق ذلك المنجز الاقتصادي كان يدرك طبيعة المشروع السلطوي القائم على إنشاء سلطة تشغل بأموال الناس، ولذلك فهو كان ليتركب جريمة في حق سلطته لو منع تمرير هذا الطلب الاقتصادي القادم من رجال الأعمال المحليين. بل لا يُستبعد أنه كان يعمل من خلف حجاب لتمرير هذه الزيادة الجمركية بحيث تأتي كمطلب من رجال الأعمال، بدل أن تكون بالجبر من الحكومة فتتصدى لها الناس، وهذا إبداع في الباطل يُسجّل لوزير الاقتصاد السابق، ولسلطته التي تمرست في نهج جباية الأموال من الناس.
ولذلك فإن البعد السياسي في تمرير فرض الجمارك هو في الحقيقة يخدم السلطة الفلسطينية التي أعفت الاحتلال من مسؤولياته تجاه الأرض التي يحتلها، وحمّلتها للناس ممن يرضخون تحت الاحتلال، وأجبرتهم على دفع تكاليف الاحتلال وتكاليف تشغيل السلطة تحت الاحتلال.
وهذه الرسوم الجمركية التي أنجز رجال الأعمال إقرارها تُسهم في زيادة مصادر تمويل السلطة الفلسطينية، وهم الذين تطاردهم الضابطة الجمركية السلطوية عند كل إرسالية (للبضائع) يقومون بها، وهي تقيم أمامهم الحواجز على الطرقات تماما كقطّاع الطرق. وقد أسهم رجال الأعمال عبر تلك المطالبة الاقتصادية في تشغيل تلك الضابطة الجمركية التي تحاربهم في أرزاقهم.
***
إن خلاصة الموقف الفكري والشرعي والسياسي لزيادة الضرائب الجمركية على السلع المستوردة أنها شر بنكهة رأسمالية لا خير فيها، وباطل سياسي بنكهة سلطوية لا أجر فيها، بل هو إثم كبير لا ينجو من ارتكبه وروّجه إلا أن يستغفر الله فيغفر له، كما غفر للغامدية من الزنا وهي محصن.
ولا شك أن صديقي دعاني لبحث الموضوع الاقتصادي الفلسطيني كحزمة متكاملة، من مثل حرمة الإضرار بالناس عبر استيراد منتجات ذات جودة سيئة تضر بالصحة، ولم أتمكن من إجابة طلبه في هذا المقال -الذي طال- وقد اقتصر على تفصيل موضوع الرسوم الجمركية.
وأود أن أشكر صديقي مرتين: مرة لأنه شغلني بتحضير هذا المقال فجعل لوقتي قيمة أكبر، ومرة لأنه اتصل بي بعد النقاش (الساخن) مبديا استعداده للنزول للصواب والحق. ولا أستبعد أن يرجع عن تبني مطالباته تلك (مع أنه يعتبرها منجزات لقضية يحملها)، بل إني لم أستبعد -وأنا أكتب هذا المقال- أن يسبقني بمقال قبل أن يخرج هذا، يبيّن فيه ما استجد عنده من رؤية شرعية. ولعل ذلك يدفع لتحريك الماء الراكد فوق هذا الموضوع بمتابعة إعلامية، فيعود الفضل له ثالثا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق