حسني الفار
◄في شتاء 1963م سقطت طائرة الطيار فلورز الخاصة.. وكان معه زوجته "هيللين كلاين".. غاصت الطائرة في مجاهل شمال كولومبيا البريطانية، ولم يكن لديهما من الأطعمة بعد هذا الإرتطام المفاجئ سوى بضع قطع من البسكويت المملح والثلج، وعاشا خلال سبعة أسابيع قبل إنقاذهما، وحين إنتهت محنتهما وجدا أنهما في حالة صحية ممتازة لافتة للإنتباه، ومن الطبيعي أن يفقد كل منهما الكثير من الوزن، فقد خسر الزوج 25 كجم وفقدت الزوجة 20 كجم.
وفي بلدان شمال أوروبا كان على سكانها خلال الحرب العالمية الثانية أن يخفضوا من إستهلاكهم للطعام، وعندما نفد السكر من السوق نفاداً كاملاً، لوحظ إنخفاض عدد حالات مرضى القلب والشرايين والسكري.
وعندما خففت وقننت إمدادات طعام الجنود البريطانيين في أثناء الحرب العالمية الثانية صاروا يتمتعون بلياقة بدنية تلفت الأنظار، وبعدما خفت حدة أزمة الطعام وعادوا إلى مخصصاتهم الطبيعية، حدث إنخفاض في مستوى الصحة واللياقة كما حدثت زيادة في حالات المرض.
وفي النرويج خففت إمدادات القمح بصورة حادة خلال الحرب، فلوحظ تناقص مذهل في عدد حالات مرض إنفصام الشخصية – الشيزوفرنيا – والأمراض العقلية.
- الصوم يعيد بناء الحياة:
يقول الدكتور آلان كوت مؤلف كتاب "الصوم الطبي": إنّ الصوم هو إعادة بناء للحياة، ويمكن أن يفقد الأشخاص المفرطون في البدانة ما يقارب من 50% من أوزانهم بفضل سلسلة من عمليات الصوم المراقب طبياً.
ويرى المؤلف أنّ التنظيم الغذائي بالصوم ما هو إلا الطريق لإعادة بناء الحياة، فلقد صام أنبياء العهد القديم والعهد الجديد، حيث صام كل من موسى وعيسى مدة 40 يوماً تهيؤاً لتلقي الوحي السماوي.
وصام قدماء الأغريق ليطهروا أجسادهم ويشحذوا نشاطهم العقلي.
وفي روسيا صام تولستوي ومعاصروه ليحموا العقل من التقوقع ضمن إطار الاهتمامات المادية وليريحوا المعدة والجسم، مؤكدين أن نبذ الطعام والشراب ليس متعة فحسب، بل هو سعادة الروح أيضاً.
كذلك صام الإنجليز والهنود الحمر والأميركيون طالبين للرؤى والأحلام ولإرضاء آلهتهم.
وصام الإنجليز المهاجرون إلى أميركا لتوفير الأغذية وضبط النفس.
وفي آخر القرن التاسع عشر صام الناس في الولايات المتحدة الأميركية من أجل القيام بعملية تنظيف الجسم.
ومن الأسباب التي صام الأميركيون من أجلها: تحسن الصحة والشعور الجيد وتهدئة الأعصاب والتخلص من إرتفاع نسبة الكوليسترول والدهون الثلاثية.
- الصوم.. طبيب داخلي:
يعد الصوم طبيباً داخلياً لأنّه يساعد على:
· مكافحة الكثير من الأمراض المزمنة والمستعصية.
· إكتساب عادات جديدة أفضل في تناول الأطعمة.
· علاج القلق العصبي والإكتئاب والإحباط والتوتر النفسي.
· تلافي زيادة المصروف نتيجة زيادة أسعار المواد الغذائية.
· الإستمتاع بحمام داخلي ينظف خلاله الجسم مما فيه من ترسبات وسموم وشحوم، فالصوم هو أحسن دش للجسم والنفس.
· الوصول إلى وزن ملائم ومناسب مع أعمار الصائمين وأطوالهم وطموحهم للسمو الروحي وتخليص أنفسهم من آثار ماضٍ حافل بأنواع عديدة من الأطعمة والتخلص من الشراهة.
· الإحساس بالآخرين المحتاجين.
· الإقلاع عن عادات سيئة كالتدخين والخمر والمخدرات.
· إحساس الصائمين بالآخرين، خاصة الفقراء والمحتاجين.
- الصوم يطيل من العمر:
رأى "أبوقراط" أنّ المعالجة بالصوم هي أحسن إجراء لمكافحة الأمراض، يقول:
"كل واحد يوجد في داخله طبيب، وما علينا إلا أن نؤازره في عمله".
ثم راح "أبوقراط" يؤيد كلامه هذا بقوله:
"إن متابعتك كثرة تناول الطعام خلال فترة مرضك ليست إلا تغذية لمرضك".
ويرى المؤلف أن "أبوقراط" نفسه كان يستعمل هذا العلاج (التطبيب بالصوم) الأمر الذي أتاح له فرصة ليعيش حتى التسعين من العمر، وهو صحيح معافى.
فالصوم سعادة وصحة وأحسن وسيلة لتخفيف الوزن وأفضل مهدئ عصبي، والصوم يطيل العمر. يقول بعض العلماء: "كُل قليلاً تُعمر طويلاً" و"لا تحفر قبرك بأسنانك".
- الصوم يدعو للرحمة بالجائعين:
قيل ليوسف (ع): لم تجوع وفي يديك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع، فذكر الجائعين والمحتاجين إحدى فوائد الجوع أو الصوم، فإن ذلك يدعو إلى الرحمة.
- الصوم يكسر الشهوات.. والإستيلاء على النفس:
أكبر فوائد الصوم الروحية والنفسية هي كسر شهوات المعاصي كلها، والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى ومادة القوى والشهوات الأطعمة.
إذن.. فإن تقليلها يضعف كل شهوة وقوة، وإنما السعادة كلها في أن يملك المرء نفسه بشهواتها، والشقاوة والتعاسة هي أن تملكه نفسه وشهواته ورغباته.
قال ذو النون:
ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بمعصية.
وقيل لبعض الرجال المعمرين:
مالك مع كبرك لا تتعهد بدنك وقد أنهد؟
فقال: لأنّه سريع المرح فاحش الأشر، فأخاف أن يجمع بي فيورطني، فلأن أحمله على الشدائد أحب إليَّ من أن يحملني على الفواحش.
- الشبع يؤدي إلى جموح النفس البشرية:
إنّ القوم لما شبعت بطونهم جمحت منهم نفوسهم إلى هذه الدنيا الغرورة، ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى، وأقل ما يندفع بالجوع شهوة الفرج وشهوة الكلام، فإنّ الجوع لاتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به من آفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة، فيمنعه الجوع من كل ذلك أما شهوة الفرج فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها، وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه، وإن منعته التقوى فلا يملك عينه، فالعين تزني كما أنّ الفرج يزني، فإن ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره، والجوع يساعد على كبح الشهوة.
- فوائد أخرى للجوع:
تيسير المواظبة على العبادة والصلاة والقيام بالتهجد والتسبيح، وصحة البدن والخلو من أمراض التخمة والبطن، والبطن أصل الداء والحمية أصل الدواء، وعوِّدوا كل جسم ما إعتاد، صدق رسول الله (ص) حين قال: "صوموا.. تصحوا".
· فوائد نفسية وروحية للصوم:
يقول "أبو حامد الغزالي" في كتاب "إحياء علوم الدين" في بيان فوائد الصوم وآفات الشبع:
إنّ للصوم عدة فوائد:
- إنّه صفاء القلب وإنفاذ البصيرة.. يقول الرسول (ص): "احيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصف وترق"، ويقول أيضاً: "من أجاع بطنه، عظمت فكرته، وفطن قلبه".
وقوله: "من شبع ونام قسا قلبه.. ثمّ قوله: "لكل شيء زكاة، وزكاة البدن الجوع".
ويقول الحكماء: "الجوع سحاب فإذا جاع العبد أمطر القلب الحكمة".
ويقول الرسول (ص): "نور الحكمة الجوع والتباعد عن الله عزّ وجلّ الشبع، والقربة إلى الله تعالى حب المساكين والدنو منهم، لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم، ومن بات في خفة من الطعام بات والحور العين حوله حتى يصحو".
- الإنكسار والذلل وزوال البطر والفرح والشر، وهو مبدأ الطغيان والغفلة، فلا تنكسر النفس ولا تذل كما تذل بالجوع، فعنده تسكن لربها وتخشع له، فالبطن والفرج باب من أبواب النار وأصله الشبع والذل والإنكسار باب من أبواب الجنة وأصله الجوع.
ومن أغلق باباً من أبواب النار، فقد فتح باباً من أبواب الجنة.
- الصائم لا ينسى بلاء الله وعذابه، ولا ينسى أهل البلاء، فإنّ الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع، والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة.►
ارسال التعليق