مناسبة رأس السنة لو أردنا تحليلها ووعيها في عمقها، لرأينا أنّها تعني في الحقيقة خسارة الإنسان لسنة من عمره، يصبح معها الإنسان أقرب لأن يغادر هذه الحياة، وأن يقف بين يدي ربّه ليواجه مسؤوليّته، حين يأتي النداء: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24)، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/ 115)، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) (النحل/ 111)، (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) (الجاثية/ 28). نعم، قد يكون الفرح أمراً طبيعياً ومفهوماً، وندعو إليه عند الذين أحسنوا في السنة الماضية وقاموا بأعمال جليلة، ولم يرتكبوا فيها أعمالاً سيِّئة أو معاصي صغيرة أو كبيرة، وإن قاموا بها سارعوا إلى محوها بالتوبة وبالأعمال الصالحة، أو عند الذين يقبلون على سنة جديدة بعد أن خطّطوا لها جيِّداً على مستوى الدُّنيا وعلى مستوى الآخرة، حتى تكون السنة القادمة مليئةً بالخير، ومضمونة في نتائجها الإيجابية عند الله وأفضل من سابقتها؛ ولكنّ هذا ليس حال الكثيرين من الذين فرّطوا في أعمارهم بارتكاب الخطايا، وقصّروا في ماضيهم، فلم يستفيدوا منه بأعمال الخير، حيث يمرّ العام عليهم من دون مراجعة حساباتهم، ومن دون أن يخطّطوا بعد لمستقبلهم.
فرأس السنة في واقعها، وكما ينبغي أن نتعامل معها، لابدّ من أن تكون هي واحدة من محطات المراجعة المطلوبة من الإنسان دائماً، حتى لا يتيه في الحياة، ولا يضيِّع الطريق الصحيح، ولا يبتعد عمّا يدعو به الله في كلّ يوم، عندما يقول في صلاته: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الحمد/ 6-7).. فبدون هذا الحساب، يصبح الإنسان مشرّعاً على الرياح الآتية إليه من كلّ صوب، والأخطار المحدقة به، ممّا يحيط به من خارجه من أجواء تريد أن تدفعه إلى مهاوي الانحراف، أو من داخله، حيث الشيطان الذي يوسوس له في نفسه الأمّارة بالسوء، أو يثير أهواءه وشهواته بعيداً من الإيمان والأخلاق. إنّ محاسبة النفس عنوانٌ من عناوين شخصية المؤمن الملتزم، فلا تكاد تمرّ لحظة أو مناسبة أو موقف، إلّا ويتحرّك في سبيل محاسبة نفسه، هل أخطأ أم أصاب؟ كثير من الناس تستهويهم الدُّنيا وما فيها من متاع، فيستغرقون فيها في البحث عن كلِّ المتاع والمظاهر، ويعيشون بالتالي الغفلة عن محاسبة النفس ومراجعتها، وتصويب ما فيها من ثغراتٍ تضعف إرادة الإنسان، وتسقط حرّيته ووجوده أمام سطوة المال والجاه والمنصب والمال والأولاد. وفي الحديث الشريف: «مَن عرف نفسه فقد عرف ربّه»، فمن ينتبه إلى تركيب النفس والجسد من عظمة ودقّة، ويعرف خصائص ذلك كلّه، يعرف الربَّ العظيم الذي وهب للإنسان كلَّ ما يلزم في حياته.. ومن هنا، يدرك المرء أهميّة الالتفات إلى النفس، ليرى ما فيها من ضعفٍ واعوجاج، ومن حسدٍ أو غلٍّ أو حقدٍ أو أمراضٍ نفسية أُخرى، فيعمد إلى معالجتها، ويعمل على مراقبة نفسه.
مَن يحاسب نفسه لا يغضب ربّه، بل يلتزم بمراقبة نفسه في كلّ حركة وتصرّف، ويرتبط بالله على الدوام، فلا يقدِّم رجلاً ولا يؤخِّر أُخرى، إلّا ويحسب حساب الله في كلِّ ذلك، فيعمد إلى زرع المحبّة بين الناس، ويزرع الإحسان والبرَّ في قوله، فلا يقول إلّا خيراً، ولا يقف إلّا موقف الحقّ، فيواجه الظلم والظالمين، ويخلص في عبادته لربّه، فلا يشرك به أحداً، ويعيش التذكّر على الدوام، ويلهج بذكر الله على الدوام، فلا ينسى الله في شيء، وكما يقول الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) (الحشر/ 19). إنّ محاسبة النفس تعتبر قوّة دفعٍ معنوية وروحية وأخلاقية للإنسان، ليعيد ترتيب حساباته مع نفسه ومع ربّه ومع محيطه، بما ينسجم مع روح الإيمان والالتزام. وكم نحتاج اليوم، وفي كلِّ يومٍ، إلى محاسبة النفوس، كي نعيد الاستقامة الفعلية إلى ربوع علاقاتنا وحياتنا، ويعود الجميع إلى إحياء ذكر الله وعدم تكرار الأخطاء، كي نعزّز واقعنا، ونبعد عنه الفوضى والباطل والفساد.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق