إمامي أيها الحسين العظيم، يا سيد الشهداء، يا سلالة الأنبياء أيها الوصي الأمين، قد عجز الكلامُ ولو بلغَ ذروة حكمته عن مسّ كنهك، رغم الذي امتلأ منه ضمير الزمن منذ ثلاثة عشر قرناً ونيفاً مضت على يومِك العظيم الذي استشهدتَ فيه، وفيه كُنتَ على الناس شاهداً، فلا غَروّ فأنت مُعجزةٌ من معجزات جدّك رسول الله (ص)، من معجزات الإسلام، من معجزات تلك الشجرة الإبراهيمية المباركة، شجرة محمّدٍ وآل محمّد (ص). يا سيد الشهداء، بدمك الزكي قد خططت الفارق بين الحقّ والباطل، وخططتَ الطريق بين الإسلام الحقيقي، الإسلام الرسالي الأصيل، الذي سنّه الله تعالى ليكون للإنسان تحرّراً من الظلم والعبودية والطغيان والقهر، وللبشرية خلاصاً من آفاتها. وبين الإسلام المحرَّف نهج «الارستقراطية» القرشية التي ركبت موجة الإسلام لتحكم المسلمين. بدمك الزكي، ودمِ أصحابك وأهل بيتك رسّخت معالم الطريق القويم طريق الإسلام الأصيل، بعد أن أدّيت أمانة توضيحه في حياتك قولاً وسلوكاً قبل ترسيخه باستشهادك. تلك الصورة هي صورة الإنسان المؤمن التي نستقرئها من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله العظيم وآل بيته، قد تجلّت في أصحاب وأهل بيت الحسين تجلياً كاملاً، فكان كلّ واحد منهم حسيناً مصغراً.. لكن صورة الحسين العظيم حَجَبَتْ لعظمتها صورة أصحابه، لأنّها في واقعها تتجاوز ذلك الحدّ إلى مرتبة واقع كونه الإمام والوصيّ على ميراث الإسلام بعد أخيه وأبيه عن جدّه ميراث الإسلام بعد أخيه وأبيه عن جدّه محمّد (ص)، إلى واقع كونه في شخصيته وخصوصياته المُفْصِح عن حقيقة الإسلام ومضمون القرآن، فما أعجزنا عن أن نُحيط، مهما بلغ بنا الكلام عن تلك الشخصية، بكلّ جوانبها امتداداً وعمقاً. فحسبُنا اليوم ولأصحابه الحقُّ علينا بحقّ الحسين نفسه (ع) علينا، أن نتكلّم، ولو بإيجاز، عن شخصية هؤلاء النفر من كبار المؤمنين الذين ساروا خُطى الحسين (ع) وشاركوه إحساسه وقناعاته وآلامَه، واستشهدوا معه، وإن كان هو (ع) قد احتوى كلّ ما لديهم في بعض ما كانَ لديه، وكلّ ما عانوهُ في بعض ما عاناه. وكان كلُّ واحدٍ منهم حَريّاً في ذاته سواء مَن كان من أهل بيته أو من صحبه أن يكون قائد أُمّةٍ، بل كلُّ واحدٍ منهم بما هو نسخة حسينيّة مصغّرة كان أمّة في ذاته. ولو أردنا أن نبحث في صحب الحسين لاقتضانا مؤلّفات، ولكن نكتفي باستشفاف جانبٍ واحدٍ من شخصية هؤلاء الأبرار، وهو معالم شخصية المؤمن التي تجلّت فيهم لما في ذلك من فائدةٍ عملية لنا في حاضرنا كمؤمنين محاصرين في عالمٍ ضالٍ، مختلّ القيم، مشوّه المعالم والموازين. إنّ المؤمن هو إنسانٌ فذٌّ، له صفات تجعله مميّزاً عن غيره ببصيرته وأخلاقيّته وسلوكه، أي بمحتوى في شخصيته وما يصدر عنها في واقع الحياة. المؤمنُ هو الإنسان المستبصرُ ذو البصيرة، وهذا ما يقوده أصلاً إلى الإيمان فيكون قادراً على أن يتجرّد في عقله عن المادة ليدرك خالقها، على عكس المنكر الذي يعجز عن الامتداد ببصيرته خلفها فيقف عندها ويظنّها البداية والنهاية. وهذه الميزةُ إن كانت الطريق إلى الإيمان فهي ملازمة للإنسان المؤمن مما يجعله بعيد الإدراك يسبق إلى الحقِّ عموم الناس.. وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، قال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ...) (يس/ 20)، وتجعل منه إنساناً لا يسهُل خداعهُ فهو واعٍ ناضج يمثّله قول رسول الله (ص): «لا يكن أحدُكم إمّعة» أي تابعاً للآخرين، لذلك ليس بمقلّدٍ في مواقفه ولا ينساقُ مع الناس إن كانوا مبطلين، بل ينطلقُ من ذاته وقناعاته الإسلامية بمعزلٍ عن قناعات الآخرين، لذلك فهو أصيلٌ، ومبدع، ثمّ إنّه مؤثّرٌ في الآخرين، فبعد حصانته من الانخداع والتضليل، وحصانته من الانسياق والانقياد فإنّه يحاول تبصير الآخرين ولو كانوا المجتمع كلّه (الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة/ 112)، «مَن رأى منكم منكراً فليغيّره...»، والمؤمن بعد ذلك إنسانٌ قويٌّ بكلّ ما تعني القوة «المؤمن القويّ أحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وكلٌّ خير». ونظنّ أنّ القوة المقصودة بقول رسول الله (ص) هي القوّة العامة وليس قوة الإيمان فقط. وهو قويٌّ في نفسه لإيمانه، فلا يخاف من كان أقوى منه، ولا يتنازل عن حقّه حين يكون في موضع الضعف كما لا يتجاوز على الآخرين إذ يكونُ في موضع القوّة. (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى/ 39). ألم ترَ إلى عليّ (ع) يوم (صفّين) إذ منع جندُ معاوية جندَهُ من ماء الفرات فَصَبَر عليهم ثلاثة أيّام يعظهم للكفّ عن ذلك، فلمّا أصرّوا عن بغيهم قال: اللّهمّ اشهد أنّهم بغوا علينا وبعث بالحسين ومالك بن الأشتر على جيشه فردوا جيش معاوية عن الفرات حتى ملكوه وحينئذٍ سمح لهم أن يشربوا من جانبه بعد أن كانوا منعوه منه. إنّ المؤمن لا يضعف أمام عدوّه وفيه قول عليّ (ع): «إنّ المؤمن إذا ضعُفَ أمام عدوّه لا يُسلم نفسه إلّا إرباً إرباً»، ولا يقبلُ بالذلّ وفيه قول الحسين (ع): «لا يحلُّ لمؤمن أن يذِلَّ نفسه»، وإنّ المؤمن لا يهابُ في الحقّ ولو اجتمع الناس كلّهم مع الباطل، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران/ 173). وباختصار، المؤمن هو ذلك الإنسان الفذُّ في شخصيته ذو البصيرة، العميق الإدراك والوعي، الذي لا يسهل انخداعه، ولا يقلِّد ولا ينقاد، بل هو أصيل ومبدعٌ، ومؤثّر في الآخرين قويٌّ في نفسه لا ينقادُ للضلال الاجتماعي، لا يخضعُ للظلم ولا يقبلُ التجاوزَ على الحقِّ، ولا يظلم الآخرين، ولا يخاف الموت ولا يخاف ممن هو أقوى منه ولو كان وحيداً في وجه أمةٍ بكاملها. هذا هو النموذج الكامل للإنسان المؤمن. إنّ أصحاب الحسين (ع) لكونهم مستبصرين قد تخلّصوا من الضلال الاجتماعي العام، وأدركوا حقّ الحسين وحقيقة ما يعو إليه فساروا معه، بعد أن ارتفعوا فوق المستوى العام للمجتمع، فتحرّروا من موبقاته، فلم تُغرّهم الدنيا وممالأةُ السلطان وأعطياته وإقطاعاته، ولم ترهبهم أيضاً سطوته وظلمه، ومن عرف ما آل إليه المجتمع في هذا المجال في عهد معاوية حتى آل الأمر ليزيد لَعَرَف مدى الاختلال الاجتماعي والإرهاب العام الذي مارسته تلك السلطة على الأُمّة. فعليٌّ (ع) الذي يُسبُّ على المنابر، ويُلعَنُ في الصلاة ويُقطع لسانُ من يذكره بخير ويقتل من اسمه عليٌّ حتى حرّموا على الناس ذكر اسمه فلم يعد يدعى إلّا بأبي تراب، وأصحابه، أولئك البقية من المدرسة الإسلامية الرسالية الواعية لحقيقة الإسلام، البقية الباقية في وجه إسلام الأرستقراطية القرشية المزيَّف، هؤلاء شُرِّدوا وقُتِّلوا حتى استأصلهم معاوية إكمالاً لمحاولته استئصال ذكر عليّ وجذوره من المجتمع، ليقضي على ما تبقّى من نهج الإسلام الأصيل، وفوق ذلك كان الإغراء وشراء الضمائر على أوسع باب، فوزعت الثروة والأرض توزيعاً إقطاعياً أعادَ المجتمع الإسلامي من المساواة والتكافل إلى مجتمع طبقي، وأجّجوا الأحقاد الجاهلية بين القبائل ليشغلوا الناس عنهم، فأعادوا المجتمع من التوحيد الإسلامي إلى القبلية والعلائق القبلية. ولم يشتروا الضمائر فحسب، بل اشتروا الكذب على رسول الله فوضعوا الأحاديث في فضائل القرشيين لخلق رموزٍ جديدة يزايدون بها على آل محمّد ليحجبوا مكانتهم بها، والأحاديث التي تضمن لهم ولاء الناس ولاءً دينياً رغم ما هم عليه من إصرار على مخالفة الدين، فوضعوا الأحاديث التي ابتكرت مذهب المرجئة، والأحاديث التي تنُصُّ على وجوب طاعة أولي الأمر ولو كانوا فاسقين؛ من مثل هذا المجتمع الذي أفرغ من روح الثورة باستئصال تلامذة عليّ وصحبه، ممّن تبقّى من صحابة رسول الله (ص) وتابعيهم، وبالإرهاب المُبالغ فيه، من هذا المجتمع المضلّل الممزّق الذي أخلّت موازينه وشُوّهت قيمه وعُفِّيَت معالمُ الحقّ فيه، تحرُّر أصحاب الحسين من كلّ موبقاته، تحرّروا من الضلال الاجتماعي، من الإغراءات، من الخوف والإرهاب، واستبصروا الحقّ وآزروا الحسين، على علم بأنّهم إلى الموتِ سائرون، والدليلُ على علمهم هذا أنّ كلَّ واحدٍ منهم لما كان يلتحق به كان يطلِّقُ حرائره ويوزّع أمواله ويودِّع دنياه، فلو كانوا طامعين بدنيا أو بملك لما فعلوا ذلك، ثمّ الدليل كذلك حين إصرارهم على اللحاق به وملازمته بعد العلم بمقتل مسلم بن عقيل، ثمّ الدليل ليلة عاشوراء لمّا لم يعد هناك من شك بأنّ القتل هو المآل، حين جمع الحسين (ع) صحبه وقال لهم بأنّ القوم إنّما يريدونه هو فإن ظفروا به فلا حاجة لهم بأحدٍ منهم، فطلب إليهم أن يأخُذ كلّ واحدٍ منهم بيد واحدٍ من أهل بيته وينسحبوا في جوفِ الليل، فرفضوا، وقال حبيب بن مظاهر وغيره «إذن علامَ طلّقنا حرائرنا، وعزفنا عن دنيانا». كم يبدو لنا هذا الموقف عظيماً لو رأينا نقيضه. فلنسمع محاورة الحسين (ع) لعمرو بن سعد قائد عسكر يزيد، إذ يقول له الحسين (ع): «ذَر هؤلاء القوم وكُن معي فإنّه أقربُ لك إلى الله»، فقال ابنُ سعد: أخافُ أن تُهدَم داري. فقال الحسين (ع): «أنا أبنيها لك»، فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعَتي، فقال الحسين (ع): «أنا أُخلِفُ عليك خيراً منها من مالي بالحجاز»، فقال ابن سعدٍ: لي عيال وأخافُ عليهم! فهذا لعمري الإنسان الذي قد استبدّ به الخوف والهوى والتعلّق بالحياة، إلى أن جعله إنساناً منحرفاً في بنائه النفسي ومحاكماته العقلية ومقاييسه الأخلاقية والسلوكية. فإذا كان هذا حالُ القائد فما حالُ الأتباع؟ هؤلاء نموذج المجتمع الذي أخذ بالإغراء والإرهاب فخضع للظلم والطغيان، وتمادى في الضلال ورفض الحقّ، في مقابل صحب الحسين الذين تحرّروا من الضلال العام ورفضوا الباطل حتى وقفوا في وجه المجتمع كلّه. وما فعله الحسين (ع) في تخطيط المعركة بأن جعل كلّ واحدٍ من أصحابه وأهل بيته ينازل الجيش الضال وحده هو إظهارٌ لهذه الحقيقة: أنّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء المؤمنين البَرَرةِ على بيّنةٍ تامّة وبصيرة وأنّه مُصِرٌّ على إنكار الباطل ولو كان الناس كلّهم عليه، ومصرٌّ على الحقّ ولو كان بمفرده معه، لا يهابُ فيه الموت، ولا يتراجع أمام الكثرة الضالة ولا يتردّد في مقابلة ومقاتلة الناس جميعاً لأجل الحقّ ولو كان فيه وحيداً. فأيُّ معنى هذا المعنى العظيم أن ينازل واحدٌ جيشاً من ثلاثين ألفاً فلا يكفّ عن قتالهم حتى يُقتل!!؟. الله أكبر، الله أكبرُ، لا إله إلّا الله هي هذه الحقيقة التي كانت شُعلَةَ الحياة الدافقة في قلوبهم، والمعجزة التي حرّكتهم مع الحسين العظيم من البداية حتى النهاية. نعم، لقد وعى هؤلاء البررة خطّة الحسين (ع) وفهموها منذ البداية وساروا على خطاه. فلمّا استلم يزيد المُلك من أبيه وحال المجتمع على ما هي عليه مما وصفنا سابقاً هذه الحال التي آل إليها المجتمع بممارسات «الأرستقراطية» القرشية التي ركبت موجة الإسلام لتحكم باسمه زوراً، وبفعل من أسلم من قريش بعد الفتح، وهذا يزيد منهم.. الذين كانوا عتقاء رسول الله أو طُرَداءه وكانوا يتحيّنون الفُرص للانقلاب على الإسلام.. ظنُّ يزيد هذا وهو المُعلِنُ بالفجور والفسق أنّ الوقت مُؤاتٍ للانقلاب، ولم يُخف قوله أن لا وحي نزل ولم يُخف إهانته للقرآن الكريم ودَوْسَهُ بقدمِهِ، فأصبحت نيّتُه الانقلابية واضحة، ولم يكن أمام الحسين إلّا أن يفعل المستحيل في مثل هكذا ظروف والأمر عنده بين البيعة والرضوخ، أو القتل، فلئن كان الموت لابدّ منه فأراد أن يكون بأكبر قدرٍ ممكن من المكاسب لمبادئه مع أكبر قدرٍ ممكن من السلبيات على عدوّه، ولذلك كان خروجه من مكّة إلى العراق ومثابرته على السير رغم إمكان العودة حين علم بمقتل مسلم بن عقيل فتلك كانت مسيرة الإعلان والاحتجاج قبل الولوج إلى الموت، ولذلك أيضاً أراد لموقفه أن يكون على النحو الذي كان من منازلة كلّ واحدٍ من صحبه بمفرده جيشَ الكفر والفسوق بكامله، ليسطّر ملحمة لا ينساها التأريخ وليظهر المأساوية التي آلت إليها حالُ المسلمين والإسلام بضخامةٍ تهزُّ ضمير المجتمع النائم، فجعل دمه الزكي ودم أهل بيته وأصحابه فداءً للدين، وأساله ليحقنه في جسم الأُمّة الجريح دواءً له عساه يتحرك قبل أن يموت. وهكذا كان فسرعان ما تحرّكت ضمائر الناس وصَحَتْ على هول ما حدث، وما لبث يزيد أن قُتِل بعد عامين قتلةً مجهولة غريبة أخفت آثاره، وسرعان ما اندلعت الثورات ضدّ الأمويين من العراق إلى الحجاز حتى أصبحت هناك قناعة لدى الانقلابيين بأنّ الإسلام أقوى من أن يُهزم وأنّ عليهم التراجع عن النهج الانقلابي والعودة إلى نهج التلطّي بالإسلام لأجل حكم المسلمين!. فتركّز اهتمامهم على صياغة ملكهم وتجاوزوا عن التعرّض المباشر للإسلام ككيان، وتُركت بذلك الفرصة للإسلام كعقيدة وأخلاق وتشريع حتى يتفاعل على الصعيد المجتمعي رغم ما فعلوا أحياناً من تحريف فيه في حدود ما يلزم لضمان ملكهم وولاء الناس لهم. لكنّ المهمّ أنّ الإسلام أصبح في مأمنٍ من الانقلاب ضدّه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق