• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأمية الثقافية في عصر العولمة

سلوى الجراح

الأمية الثقافية في عصر العولمة
◄عزيزي القارئ إنّ المتتبع لما يجري في المجتمعات العربية يدرك دون أدنى مجال للشك تفشي الأمية الثقافية خاصة بين النشئ الجديد.

فالشباب العربي اليوم معني جدّاً بكلّ ما يجري في الغرب.. معني فقط بما يتصل بآخر الأزياء والمكياج والصيحات والصرخات.. لكنّه لا يتابع ولا يهمه أن يتابع التيارات الفكرية والأدبية في الغرب.. لا يهمه المسرح والسينما الجادة.. فهذه سماجة وثقل دم.. المهم أفلام تضحك ومسرحيات خفيفة الظل.. أما الحديث عن التيارات الفكرية والفهم العميق للسياسة وشؤونها فأمور لا يحتاجها إنسان العصر الحديث.. عصر الإنترنت والهاتف النقال.

فالشباب العربي بشكل عام نسي شيئاً اسمه الكتاب.. وهذه ظاهرة خطيرة جدّاً.. وأنا لا أرمي كلامي جزافاً.. فقد حاورت العديد من الشباب حول مسألة القراءة.. قالوا.. وببساطة وجرأة.. وماذا نفعل بالكتب فالكومبيوتر يوفر لنا كلّ شيء.. كلّ ما نريده من معلومات متوفر في الكومبيوتر وما علينا سوى أن نضغط على بضعة أزرار وتكون هذه المعلومات طوع "بناننا" وهنا صار لكلمة بنان معنى جديد.. عظيم.. ولكن هذه المعلومات يجب أن تقرأ.. أن يتم استيعابها والإلمام بما جاء فيها.. نعم سنقرأ جزئيات منها.. فالعصر الحديث أصاب الإنسان منا بالملل.. وعليه يجب أن تكون المعلومة قصيرة وموجزة وإلّا فلا أحد يهتم بها..

وكنت أحاور هؤلاء الشباب بغباء ورثته عن أبناء جيل كان الكتاب متعتهم الوحيدة.. جيل كان يتسابق لاقتناء الكتب.. ومتابعة مؤلفيها.. بل كان الكتّاب والشعراء مثل نجوم هوليود.. نتابع أخبارهم وحكاياتهم وكان لنا آراء فيهم.. كنا نتناقش في سن الرابعة عشرة حول إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي.. ثمّ صرنا نتابع إنتاج نجيب محفوظ ونقارن بين ما قرأناه وما قدم من أعماله على شاشة السينما.. وطبعاً مَن منّا لم يقرأ أيام طه حسين ومغامرات الحكيم.. وحتى قصص "أرسين لوبين" التي كان أهلنا يرون فيها فضائح فنقرأها سراً.. فماذا كانت النتيجة تراكم للمعرفة والفكر.. خاصة أنّ القراءة كانت موضة العصر فكنا في سني الشباب أيام الدراسة الجامعية نتنافس على متابعة آخر ما صدر ومعرفة أسماء الكتاب الشباب..

أرسطو يقول هناك فرق كبير بين مَن يعرف "الكيف" ومَن يعرف "الماذا" مع الاعتذار لأرسطو على هذا التبسيط في نظرية المعرفة.. فجدتي الطيبة كانت تعرف أنّها إن أرادت للماء أن يغلي بسرعة عالية أن لا تضع فيه الملح إلى أن يغلي..

ومَن تعلّم منا يعرف "لماذا".. لأنّ إضافة الملح إلى الماء يجعله محلولاً من الملح والماء ويرفع درجة غليان الماء إلى أكثر من درجة غليانه العادية المئوية..

هل المعرفة عيب وثقل دم..

هل الفضول المعرفي تخلف؟ يا ناس..

لولا فضول الإنسان لما قامت حضارة.. ولا رحل رحالة.. ولا اخترع العقل البشري شيئاً ولما كتبت يد البشر.. ولا تطورت اللغات.. ولا عرفنا الشعر والموسيقى والأدب والفلسفة والفلك.. ولما اخترعنا الكومبيوتر والإنترنت والهاتف النقال..

قولوا لي ماذا يحدث في عالمنا.. لمَ اختفى منها حب المعرفة واحترامها.. لمَ صار مجال التنافس الوحيد بين جيل اليوم متابعة آخر صيحات الموضة وصراخ الموسيقى الحديثة..

جيل اليوم لا يخشى من الجهل

 

والأدهى من كلّ ذلك أنّ الجهل صار موضة.. ثمّ ماذا أنا لا أعرف.. ماذا يهم.. أن أعرف عن تأريخ أُمّتي أو تأريخ مَن حاربني.. أو أن ألمّ بالأدب والشعر ما قيمته..

هل سمعت شاباً من شباب اليوم يستشهد في حديثه ببيت من الشعر.. مع أنّنا شعب عرف بحبه للشعر.. ولنا في كلّ موقف من مواقف الحياة بيت من الشعر نردده ونستشهد بحكمته..

وإن كان الجهل أو الأحرى إن صار الجهل اليوم شيئاً لا يعيب الإنسان فماذا سيكون حال جيل المستقبل؟ طبعاً لن تكون هناك طبقة من المثقفين التي تحرك الفكر وتنقد السياسة وتحلل ما يجري حولها. وتقود التيارات الفكرية والسياسية وبما أنّ جيل اليوم لا يكتب ولا يقرأ.. فهو يكتفي "بالإيميل" وسيلة للاتصال.. فلن يترك للأجيال القادمة.. لا رسالة العشاق أو رسائل الأدباء "هذا إن كان هناك أدباء".

سيكون في العالم العربي عالم من المقلدين للغرب.. أناس استعبدتهم العولمة في ظاهرها دون التوغل في طبيعة المجتمعات الغربية التي ما زالت تقرأ وتستعيد الماضي وتعرف جيداً تأريخها وتسعى جاهدة للحفاظ على تراثها ولغتها وتعتز بأدبائها وشعرائها وفنانيها.. فالسائح إلى بريطانيا يجد كلّ تأريخ بريطانيا بين يديه.. يجد مَن يحكيه له ويمتعه به.. أما في العالم العربي فإن ظلّ الحال على ما هو عليه الآن.. فسيأتي يوم لا يجد السائح الأجنبي مراكزنا التأريخية من يهتم بشرح شيء له.. سيقولون له.. تابع المعلومات على الإنترنت.. فليس لدينا وقت لك.. نحن لا نحب التفاصيل.

هل قسوت على جيل اليوم.. لا أظن ذلك.. فجيل اليوم لا يعنيه هذا الكلام.. ولا يرى فيه قسوة لأنّه لا يخجل مطلقاً من الجهل وعدم المعرفة.. فمعظم ما يقدم على شاشات الفضائيات يكرس فكرة الجهل.. فكرة الكسل في البحث وتقديم اللهو الساذج الذي لا يخاطب أبداً العقل.. لذلك فجيل اليوم يخجل من أن يتخلف عن آخر صيحات الموضة أو من السيارة الأولدفاشون Old Fashion أو ربما من رقم الهاتف المحمول غير المنسق سهل الحفظ في أرقامه.. أما ما عدا ذلك.. فلا مبرر للخجل.. وأهلاً بالعولمة وعلى الدنيا السلام.►

ارسال التعليق

Top