• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإختيار السّليم

أسرة

الإختيار السّليم

مقدمـة

تتعدّد الصفات التي تُخلع على الاختيار السليم، فهو عند أُناس (الاختيار الحكيم)، وعند البعض (الاختيار الصحيح)، وعند آخرين (الخيار الأنسب)، أو (الاختيار الأصلح)، وربما وُصف بـ(الاختيار الأفضل) أو (الاختيار الأمثل)... وما أشبه ذلك. ومهما كانت الصِّفة التي يكتسبها الاختيار المدروس بعناية، فهو في النتيجة اختيار سليم، حتى إذا رآك أحدهم وقد عرف بما اخترت – بين ما هو مطروح من خيارات بين يديك – سارع إلى القول: لقد أحسنت الاختيار. فمتى – يا ترى – أحسن الاختيار ليُقال لي: لقد أحسنت الاختيار؟ وحتى لو لم أجد مَن يقولها لي، فإنّ ما يكفيني أن أكون راضياً عن اختياري. إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب – فيما تتطلّب – معرفة ما هو (الخيار الحسن) وما هو (الخيار السيِّئ).. وكيف (أرجِّح) الأوّل، وكيف (أستبعد) الثاني؟ ولعلّك تعرّضت في حياتك إلى خيارات سلبية أو سيِّئة، وإذا لم يكن هناك مَن قد أعرب لك عن خيبة أمله بالقول، لقد أسأت الاختيار، فقد تكون التجربة ذاتها، التي عشتها ودفعت ثمنها وتركت أثرها في حياتك، هي التي تقول لك ذلك، أو تجعلك تُردِّد مع نفسك: لم أكن موفّقاً. لقد كنت سيِّئ الاختيار.. لم أدرس اختياري بعناية.. اعتراف كهذا يجعلك تتأنّى في اختياراتك المستقبلية. والاختيار فسحة في الانتقاء الذكي.. يتّسع فيه المجال لتقديم خيار على خيار آخر، ولذلك لا نرى مقولة: "مَن خيّرك فقد حيّرك" صحيحة، ذلك أنّ الخيار الوحيد الذي لا خيار غيره هو الخيار المحيِّر؛ لأنّه لا يترك لي فرصة (المفاضلة) و(الترجيح) بينه وبين غيره، أمّا عندكما تتعدّد الخيارات أمامي فإن فرصتي في اختيار الأنسب والأفضل ستكون أقوى وأوفر؛ لأنّني عندها أملك حرِّية أن أختار، وأن أكون قريباً من حدود الاختيار السليم. فماذا يعني أن تكون مختاراً؟ في سوق الملابس.. حينما تريد أن تنتقي قميصاً للعيد، أو تحضر به حفلة زفاف أخيك، أو حفل تخرّجك، سيعرض لك البائع عدّة أنواع من القمصان المحلِّية الصنع والأجنبيّة ذات الألوان والأشكال والأسعار المختلفة.. ومن طبيعة البائع – ترويجاً لسلعته – أن يحاول التأثير – بشكل غير مباشر – على اختيار المشتري فيما يُقدِّمه له من شرح تفصيلي وترغيبي عن جودة هذا النوع من القمصان أو ذاك، وبعد أن ينتهي يغمزك غمزة ظريفة ليبدو حيادياً: أنتَ حرّ.. اختر ما شئت.. المال مالك ومهمّتي أن أعرض عليك بضاعتي! وفي سوق الفواكه والخضار والعقارات، كما في سوق الملابس والأقمشة والسيارات.. المعروضات تحكي عن نفسها أيضاً، وأسعارها المثبّته عليها قد تدلّ عليها، وأنت في الخيار تنتقي ما تشاء، خاصة إذا كنت في وضع مالي مريح يمكنك من الانتقاء والمفاضلة والترجيح، فالاستطاعة المالية تتيح لك أن تكون مختاراً. وكما في السوق، كذلك في حقوق الحياة كلها.. قد تكون الخيارات أمامك مفتوحة، وأنت مهما كان مستواك الثقافي أو العمري لا تختار اختياراً أعمى، فحتّى الصغير حينما يدخل إلى معرض اللعب، يحاول أن يُمارس لوناً من الاختيار.. فأنت تفاضل وتفحص وتسأل ثمّ تُقدم. الحرِّية في الإختيار إذاً هي المساحة التي تتحرّك فيها بين (العَرض) في لغة الاقتصاد أو (المُنبِّه) في لغة علم النفس، وبين الاختيار، أي (الاستجابة).. انظر إلى الرسم الإيضاحي التالي: المُنبِّه                  الإستجابة              الحرِّية                ← (العرض)            (الإختيار) إنّ حركة السهم في هذا الرسم قد تضيق وقد تتّسع، تضيق إذا كانت الإستجابة غير مختمرة، أي سريعة وبدون دراسة ومن غير تأمّل في النتائج المترتِّبة على الاختيار (الخطير). وتتّسع إذا لم تكن هناك ضغوط تُمارَس على الإنسان، أو كانت ثمّة ضغوط لكنه بسببٍ من وعيه وثقافته والتزامه الديني تعالى وتسامى عليها. في الحالة الأولى يمكن أن نُسمِّي المُستجيب بأنّه كان أسيراً للمُنبِّه واقعاً تحت سطوته وتأثيره، لذلك هو مسلوب الحرية إذا كان الضغط خارجياً، أو عبد لشهواته إذا كان الضغط داخلياً. وفي الحالة الثانية يمكن أن نطلق على المُستجيب (إذا كان المُنبِّه خيِّراً) والرافض (إذا كان المنبِّه شريراً) بأنّه حرّ يمتلك زمام إرادته، فهو يقول (نعم) حيث يستوجب أن يقول ذلك. وأن يقول (لا) حيث يتوجّب الرفض والمُمانعة، وذلك هو معنى الحرِّية التي تملك فيها خيارك كاملاً بمعزل عن الضغوط الداخلية أو الخارجية.   في البدء كان الاختيار: جعل الله الإنسان مُختاراً، وعلى ضوء اختياره جعله مسؤولاً، أي أنّ حرِّية الإنسان في الإختيار هي حرية مسؤولة، حيث يتعرض الإنسان في حياته وبعد مماته لمسؤولية اختياراته الإيجابية والسلبية. قال تعالى: (وَهَدَيناهُ النّجْدَيْنِ) (البلد/ 10). والنجد الطريق، والنجدان هما طريقا الحياة السعيدة والشقية، طريق الخير والشر، وكلمة (هديناه) تعني فتحنا أمامه كلا الطريقين، وزيّنا له الأوّل وقبّحنا له الثاني، فإنسانٌ وما اختار. لذلك عبّر سبحانه وتعالى عن نتائج هذا الاختيار بقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3). شاكراً: إذا اختار (طريق الخير). كفوراً: إذا اختار (طريق الشر). وكلٌّ يتحمل مسؤولية اختياره. يقول النبي الأكرم (ص) مشيراً إلى قابلية الاختيار لدى الإنسان: "أيها الناس! إنما هما نجدان: نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبِّ إليكم من نجد الخير"! ولنا أن نترجم هذا القول الذي لم يُقرِّر الحقيقة فقط، بل أرشد إلى أهدى السبل وأفضلها، على النحو التالية: طالما أنكم – أيها الناس – مختارون وعارفون بما هو الأصلح والأفلح معرفة فطرة وعقل ووعي وعلم وترجيح وتجربة، فلماذا تختارون الرديء والهابط والمنحطّ والسيِّئ والفاسد؟ ألسنا نقول لما يأتي من أفراد العائلة ببضاعة رديئة، وكان بإمكانه أن يشتري الأفضل: ألم يكن في السوق غيرها؟ لماذا لم تشترِ أحسن منها؟ هل أنت أعمى.. ألم يعطك الله بصراً تُبصر فيه الجيِّد من الرديء؟ يا لك من مخدوع! إنّ النقطة الحيوية في مسألة الاختيار، هي أنك قادر على اختيار الأحسن وليس الحسن فقط، وذلك بما وهبه الله تعالى من (عقل) و(إرادة) و(فطرة) و(سمع) و(بصر)، ورسالة هادية محبِّبة للخير ومنفِّرة عن الشر، فالخير أحب إلى طبع الإنسان حتى ولو كان شرِّيراً: ألم تسمع بأولئك اللصوص الذين جاءوا بالسرقة إلى رئيس عصابتهم قائلين له: قسِّم بيننا بالعدل؟! ألم تلاحظ أنّ الذي كان يعتدي على عفاف الفتيات في فترة عزوبته، يتحرّك بشدّة عن العفيفة النجيبة إذا قرّر الزواج؟! ألم تر أنّ شخصاً طلب إلى شخصٍ أن يشهد شهادة زور، ففعل، ثمّ مرّت الأيام، وإذا بذلك الشخص يُصبح قاضياً، ويؤتى له بمشاهد الزور الذي سبق أن سخّره في تزوير الشهادة، أتراه يقبل شهادته؟! الخيرُ إذاً أصيلٌ في كل إنسان، فإذا لم يُمارسه في حياته، ولم يتذوّقه شخصيّاً بالفعل والمزاولة، ولم يُعبِّر عنه في أعماله وعلاقاته ومواقفه، فإنّه يطلبه من الآخرين، فحتّى الحاكم الكاذب المخادع يطالب شعبه أن يكونوا صادقين؛ لأنّه يعرف أنّ الصدق ليس كالكذب.    اختيارُ المرء قطعة من عقله: قل لي ماذا أخترت، أقل لك من أنت. دقيق جداً هو القول بأنّ أختيارك يُمثل قطعة من عقلك، لأنّ المفترض بالمختار أن يكون قد أعمل عقله في عملية الإختيار، وإلا كيف رجّح شيئاً على آخر، أو شخصاً على شخص أو موقفاً على ثانٍ؟! نحن لا نتحدث هنا عن الإختيار الذّوقي المزاجي أو الإنتقائي المتعجِّل والمتسرِّع وغير النّاضج، بل عن سلسلة الاختيارات المطروحة والمعروضة على الشّخص (المختار)، وهو عندئذٍ مُخير بالقيام بموازنة وتفضيل وترجيح وفق أسس وقواعد الاختيار سليماً إلاّ إذا كان العقل سليماً. فإختيار الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، ليس إختياراً شكلياً أو عاطفياً فقط، وإنما يفترض أن يكون اختياراً عقلياً أيضاً، يحسب لإمكانات واحتمالات ديمومة شركة الحياة، وإدارة البيت، وتربية الأولاد، ومواجهة المشاكل والصعاب المستقبلية حسابها. واختيار الكتاب الذي تريد أن تقرأه، أو الفيلم الذي تود مشاهدته، أو المواقع التي تدخل عليها في الانترنت، والأصدقاء الذين ترافقهم في رحلة حياتك، والمنزل الذي تريد السكن فيه وما الى هناك من خيارات، كلها مؤشرات على رجاحة أو عدم رجاحة العقل الذي تتمتع به، بمعنى أن وراء كل اختيار سليم عقل أعمل وتم الوصول به اليه. طبعاً لا، فالمؤثرات في الاختيار كثيرة، وستأتي عليها إن شاء الله، ولكن دور العقل فيه كبير، لأن العقل بطبيعته يجبل النظر في الأمر من زواياه المختلفة، أما العاطفة ووسائل الاختيار الأخرى فقد تنظر الى الخيار من زاوية واحدة، فهي أحادية النظرة، ولذلك كان الخيار العقل أنضج الخيارات وأهمها وأكثرها سلامة، والى هذا أشار تعالى بقوله: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم أموالهم) (النساء/ 6). فحتى يكون اليتيم قادراً على التصرف بماله (مختاراً)، لابد من اختيار قدراته العقلية ومدى بلوغه الرشد الذي يمكنه من حسن التصرف وحسن الإختيار، (فإن آنستم منهم رشداً)، أي لمستم لمساً واقعياً نضجهم العقلي، فادفعوا لهم تركتهم المالية، لأنهم أحرار في التصرف بها عندما يبلغوا مرحلة الاختيار.   (الإختيار) من (الخير) حينما تقول مقارناً بين شيئين: هذا خيرٌ من هذا، فقد اخترت خيرية أحدهما لتكون سبباً لاختيارك له، ولذلك نستطيع القول إنّ الاختيار مرهون أو مشروط بالخير، فإذا اخترتَ ما يشير عليك به عقلك، فقد اخترتَ الخير أو الصالح والنافع بحسب اتِّساع عقلك لمعنى الخير، وأمّا إذا اخترتَ الفاسد أو الطالح والرّديء، فكأنّك لم تختر؛ لأنّ المعيار المائز في الاختيار هو الخيريّة، وباختيارك للسيِّئ، فإنّك تكون قد عطّلتَ هذا الشرط. هل تقبل – مثلاً – من شخص يقول لك: إن اخترت السرقة مهنة؟! أو الزِّنا بديلاً عن الزواج؟! أو القتل لبسط سيطرتي على الناس، أو الغشّ وصولاً إلى النجاح؟! أو الكفر والإنحراف لأنّني حرّ؟! إنّ السؤال الذي يُطرح على مَن يقول بذلك: ما هو الخير الذي وجدته في السرقة حتى أصبحت لصّاً؟ أو ما هي الإيجابيّات التي اجتذبتك في البغاء والزِّنا حتى رحتَ تعبث في الأخلاق والعفاف والأعراض؟ ما هو الخير في القتل والغشّ والكفر والانحراف؟ ولا تجرّ إلا المآسي والنكبات؟ أمّا الاعتراض: لماذا إذا قال تعالى مخيّراً الإنسان بين الشكر وبين الكفر: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3)؟! الجواب: إنّ الله تعالى لم يُخيِّرك بين صالحين لتختار الأصلح، ولا بين حسنيين حتى تختار الأحسن، وإنّما خيّرك بين (خير) وبين (شرّ)، ولأنّه سبحانه أودع فيك نزعة حبّ الخير، ومنحك عقلاً يستحسن الخير ويُميِّزه من القُبح والشر، فأغلب الظن أنك لا تؤثر الشر على الخير، إلا إذا أعطيت لعقلك إجازة، أو وضعته في الثلاجة.   وسائل الاختيار: للوصول إلى الخيار السليم، لابدّ من الاستعانة بوسائل الاختيار التي جهّزك الله بها، فكلّما كنتَ أقدر على استخدامها بشكل أفضل، تمكّنت أن تكون قريباً من الخيار السليم، ومن بين وسائل الاختيار المهمّة:   1- العقل: العقل أداة أو وسيلة كبيرة في الاختيار لما يمتاز به من قدرة على الفرز والغربلة والترجيح والحسم، ولذلك قيل: "ثمرة العقل لزوم الحقّ". فالعقل معين ممتاز في النظر ليس إلى الموجودات الآنيّة فقط، بل في (العواقب) أيضاً، ولأنّه لا ينصاع لمرغِّبات الغريزة إلا بمقدار ما يريد له صاحبه أن يكون محكوماً من قبلها، فهو يستفيد من تجارب الآخرين، فبمجرّد أن يستحضر قصّة شخص اختار فأساء الاختيار يتّعظ ويرتدع ويفرض خياراً مماثلاً، والعكس صحيح، أما إذا أراد أحدنا أن يقلب الموازين والأوليات، فقدّم هواه (غريزته) على عقله، فعلى نفسها جنت براقش. العقل ناصحٌ أمين، ومرشد مخلص إلى فعل الحسن والكفّ عن القبيح، وإنّما سُمِّي العقل عقلاً لأنّه (عِقالٌ)[1] من الجهل، وبه استطاع الحليمُ أن يكون حليماً والراشد راشداً، ونظراً إلى هذه القيمة التي يتحلى بها العقل، قال الإمام علي (ع): "مَن قعدَ به العقل قامَ به الجهل"، أي أنّ مَن عطّل عقله أو جمّده أو شطبَ عليه لسببٍ من الأسباب، فإنّه يفسح بذلك للجهل أن يأخذ مكان، وبالله قُل لي متى كان الجهلُ قائدَ خير للإنسان يعينه على اختيار الجيِّد والصالح ويكفّه على اختيار السيِّئ والفاسد؟!   2- العين: البصر نافدة من الفوافذ التي تطلّ على العقل، وبريد فرعي يوصل إليه الرسائل ليفتحها وينظر ما فيها. هو أحد أبرز مساعدي العقل، والعقل يستفيد من خدمات العين استفادة كبيرة، لكنّه وقور يزن ما تنقله له العين بميزانه، فهو لا يتسرّع ولا يكتفي بالرسائل البصرية المجرّدة، وإنما ينتظر أن يأتيه البريد بالمزيد. إنّ العين تعينك في معرفة الشكل الخارجي، والمظهر العام، وهي – إلا المريضة منها – تستحسن الجمال وتستقبح القبيح إما في اللون والمنظر أو في الأداء والحركة، وإذا دققت النظر جيِّداً، فإنّها يمكن أن تنتقل بك من (البصر) إلى (البصيرة)، أي تكون عاملاً مخلصاً من عمّال العقل، ولذلك عبَ الله تعالى على صنف من الناس تعطيلها للبصر كوسيلة للإختيار السليم، فقال: (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا) (الأعراف/ 179)، وربط سبحانه بين (البصر) وبين (البصيرة) بقوله عزّ وجلّ: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46). وعلى أثر ذلك قال الإمام علي (ع): "نظر البصر لا يجدي إذا عميت البصيرة". الأمر الذي يفيدنا في أنّ رسائل الاختيار الأساسية متداخلة ولا يصحّ الفصل بينها. فأنت إذا رأيت فتاة جميلة قد تستحسن مظهرها أو حُسنها الخارجي، ولكنّك إذا تعرّفت عليها من قُرب فقد لا تجد داخلها جمالاً يوازي أو يساوق جمالها الخارجي، وهذه هي الصدمة التي حذّر منها النبي (ص) في اختيار الزوجة الجميلة التي نشأت في محيطٍ منحرف، بقوله (ص): "إيّاكم وخضراء الدِّمَن! فقيل له يا رسول الله: وما خضراءُ الدِّمَن؟ فقال: المرأةُ الحسناء في منبتِ السّوء". هي زهرة جميلة أو نبتة لطيفة الشكل، ولكنها خارجة من مستنقع، ونابتة في وحل، وقد أطلّت برأسها من مزبلة، ولذلك لا يكفي الاعتماد على العين في حسم الاختيار، بل لابدّ من إشراك الوسائل الأخرى معها.   3- السّمع: السمع نافذة أخرى، أو بريد آخر يرفد العقل بما يعينه من معلومات متوفِّرة ودلائل تمكِّنه من اتّخاذ قراره بشكلٍ صائب. فهو ينقل (المسموعات) عن الشيء أو الشخص إلى العقل ليوازن بينها وبين ما لديه من خبرة في تصديق أو تكذيب ما ينقله السمع إليه. إنّ الشاعر الذي قال: يا قومي أُذني لبعض الحيِّ عاشقةٌ **** والأُذنُ تعشقُ قبلَ العين أحياناً كان قد أخذ المسألة من طرفٍ واحد، فالأذن – فعلاً – تعشق قبل العين يقول للأذن: لا تتسرّعي في الحكم، دعينا ننتظر ونرى، فقد يأتي بالأخبار مَن لم تزوّد، ولعلّ الناقل يُغالي أو يُبالغ في وصفه، أو يرى الشيء بعينه التي ترى وفقَ مقاساتها! وكثيراً ما يُصدم بعض الشبان الذي تأتيهم الخاطبة بأوصاف للخطوبة غير دقيقة، وأحياناً مخالفة للواقع، فيوقعنهم في الحرج الشديد بعد أن يكونوا قد ركنوا إلى تقرير الخاطبة، ومثلما يحصل للشبّان يحصل للفتيات في المبالغة بالنقل والمغالاة في الوصف.. ويبقى (مَن رأى) ليس كمَن سمع.   4- السؤال: يُعتبر السؤال وسيلة من وسائل الاختيار غير المباشرة؛ لأنّه أداة كشف، فهو يحاول أن يجلِّي الحقيقة بما يطرحه على الشخص المقابل في أثناء الحوار والمناقشة، فكم من الشّبّان يعدل عن رأيه بفتاة بعد أن يسمع إجاباتها عن أسئلته، وهي كذلك، ولأنّ التجربة علّمتنا أن لا نكتفي بعامل واحد في الاختيار، فإنّ السؤال وحده ليس كافياً كذلك، فقد يجيد البعض القدرة على التمثيل والمناورة والإجابات الدبلوماسية، أو يستعمل التورية في كلامه، ويتلاعب بالألفاظ ليحجب وجهه الآخر.

ولكي نعطي السؤال قيمته المرجوّة ومساحته الأوسع، يحاول البعض لمزيد من الاطمئنان أن يسأل أشخاصاً آخرين عن المُتقدِّم لخطبة فتاة، أو المُتقدِّم لنيل وظيفة، أو الراغب باستئجار دار، وما إلى ذلك، حتى يقارن بين الإجابات التي يحصل عليها من الآخرين، والإجابات التي يستقيها من المصدر المسؤول نفسه، ولهذا يُعتبر (التحرِّي) و(البحث) و(التنقيب) وسائل مساعدة للإختيار الصائب.

5- التجربة: إذا سبق لك أن جرّبت في دنيا العلاقات والمعاملات أصنافاً مختلفة من الناس، فإن خزين التجربة لآثار ونتائج وطبيعة تلك العلاقات، سينفعك عندما تقدم على بناء علاقة جديدة. فإذا كنت في مرحلة سابقة قليل الخبرة في الحياة، وقد خبرت الناس بعد ذلك، فانّ استحضار تجاربك الماضية في أيّة علاقة جديدة سيقيكَ من المزالق حتماً، ولا يعني ذلك بالضرورة أنّ تجارب العلاقات الإنسانية متشابهة إلى حدِّ التماثل والاستنساخ، ممّا يتطلّب الاستعانة بوسائل اختيار أخرى. فالذي اختار شريكاً في العمل، متساهلاً في الشروط والمواصفات، وقد أحسن الظنّ به وغضّ الطرف عن بعض تجاوزاته وأخطائه، ربّما يخونه في يوم ما، فإذا قرّر اختيار شريك آخر، فلابدّ أن تكون تجربة الشريك السابق حاضرة في ذهنه وماثلة أمام عينيه لا ليحمِّل الشريك الجديد تبعة أو وزر الشريك السابق، بل في ضرورة أن يكون دقيقاً في اختياره، وهذه هي قيمة التجربة في أيِّ حقل وميدان.   6- الإستشارة: مهما كان العقل راشداً وراجحاً، فإنّ "مَن شاورَ الناس شاركها عقولها"، وهذا يعني إضافة عقول الآخرين إلى عقلي، وطالما اعتمدنا المستشار الصالح الذي يؤتمن في استشارته، فإنّنا نضيف إلى رصيد اطمئناننا في الاختبار السليم رصيداً آخر. فقبل أن تسكن في منطقة سكنيّة لم يسبق لك أن سكنتَ فيها، يمكنك أن تتّصل بهاتفك النقال لتسأل صديقاً يسكن هناك ليزوِّدك بالمعلومات الميدانية عن المنطقة، كونه أحد سكّانها، وإذا أتيح لك أن تسأل أكثر من ساكن من سكنة المنطقة، فإنّك بذلك تقترب من الخيار السليم أكثر فأكثر؛ لأنّ البعض قد يعيش تجربة خاصة لا يمكن تعميمها أو الاستهداء بها، ولذلك يُفضّل السؤال من أكثر من شخص، سواء كان الموضوع يتعلّق بالسكن كما في المثال، أو في الزواج، أو في العمل.   7- الإستدلال بالقرائن: القرينة هي الدلالة التي بها تستطيع أن تضمّ علامة فارقة إلى علامات أخرى لتقرن بينها في الاستدلال على صحة اختيارك. ففي مثال الخطبة، تعتبر صديقات الخطيبة وأصدقاء الخاطب قرائن يستدلّ بها على معرفة كل منهما، وكذلك الجيران وزملاء الدراسة والعمل، بل إنّ كل ما يرتبط بسمعة الفتاة والعائلة وسمعة الخاطب وأهله وعمله وسوابقه يعطي مؤشّرات إضافية للحصول على درجة أعلى من اليقين والثقة. والسؤال الآن: هل (الذوق) وسيلة من وسائل الاختيار؟ إذا كان المُراد به وسيلة الاختيار طعام أو أثاث أو لباس، فقد يكون له دخل في الاختيار، أما اختيار صديق، أو شريك حياة، أو شريك عمل، أو مرشّح للإنتخابات، أو رفيق للسفر، أو كتاب يُنتفع به، فالذّوق والإستحسان بدون مرجّحات قد يُمثِّل خيبة وصدمة في مجال الاختيارات. ومع ذلك، فاليوم حتى اختيار الطعام والأثاث واللِّباس والمنزل والسيارة، لا يُحدِّد بالذوق فقط، بل بالإستعانة بوسائل الاختيار الأخرى. وإلى هذا نبّه الإمام علي (ع) حينما قال: "سَلْ عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدّار"؛ لأنّ اختيار الجار الصالح يضفي على المنزل وأهله – حتى ولو كان بسيطاً متواضعاً – جوّاً من الأنس والألفة والأمن الاجتماعي، أمّا إذا سكنتَ في (فيلا) وكان جيرانك من المُعربدين وممّن لا يراعون للجار حرمة ولا في ليل ولا في نهار، فهل تكون عندها قد أحسنت الاختيار؟ أمّا وقد تطوّرت المعلومات الصحية وأصبحت ثقافة متداولة، لم يعد اختيار الطعام خاضعاً للذوق فقط، بل راحت السعرات الحرارية ونسبة الدهون والملح والسكر، تؤثِّر ليس على البدانة فقط بل على الإصابة بالسكري والضغط المرتفع، وبالتالي فإنّ اختيارات الإنسان المثقّف صحّياً أصبحت مقنّنة إلى حدٍّ ما، فإذا كان الأمر كذلك، فما أجدر بالإنسان أن يُدقِّق في اختياراته العقلية أكثر فأكثر. يقول الإمام الحسن بن علي (ع): "عجبتُ للإنسان يُفكِّر في (مأكوله) ولا يُفكِّر في (معقوله)". فإذا كنتَ حريصاً على اجتناب الملوّثات والمسرطنات وأكل البائت والمكشوف والذي قد يُسبِّب التسمّم، أو يرفع هذه النسبة، وتلك في الدم، فما أحرصك وأحراك أن تُفكِّر فيما يؤذي صحتك الروحية والنفسية والأخلاقية، كما تبتعد لما يؤذي صحّتك البدنية. أليسَ مستقبلك الصحي المُعافى من الويلات والعثرات والصدمات يتطلب اعتناء بما تحمل من أفكار وتمارس من أعمال وتقيم من علاقات؟!   هل اختياراتنا حرّة دائماً ليس هناك اختيار حرّ مطلق إلّا في النادر، فالمؤثِّرات الخارجية على قراراتنا كثيرة.. تحاصرنا في كلّ قرار إلّا ما رحم ربِّي، فأنت حينما تسمع رسول الله (ص) يقول: "كلّ مولود يُولَد على الفطرة وأبواه يُهوِّدانه أو يُمجِّسانه أو يُنصِّرانه"، تفهم أنّه حتى الاختيار العقيدي الديني لا يخلو من تأثير، ولذلك فالشخصية المستقلة، التي تحاول أن تتصرّف بمعزل عن الضّغوطات الخارجية محدودة جدّاً. ولأجل أن نكون موضوعيِّين أكثر، فإنّ اختياراتنا لا تتأثر بالعوامل الخارجية فقط، بل بالعوامل النفسية الداخلية غير المنضبطة، أي بانفعالاتنا وحماستنا الزائدة، فقد يكون اختياري ردّة فعل، أو استجابة لنزعة أو نزوة ذاتية، لا امتثال فيها لحكم العقل. وعلى أيّة حال، فإننا إذ نذكِّر بالمؤثِّرات الخارجية في صياغة اختياراتنا، نحاول – ضمناً – أن نلفت عناية المختار إلى ضرورة أن يكون صريحاً مع نفسه على الأقل في اختياراته، فيطرح عليها أسئلة من قبيل: هل اختياري هذا هو اختيار حرّ فعلاً، أم أنّه استجابة لمؤثِّر أو ضاغط خارجي؟ هل أقوم به بمحض إرادتي أم أنني أفعله خجلاً من البعض؟ هل هو فعل أم ردّة فعل؟ ولو تأمّلنا في اختياراتنا، لرأينا أنها واقعة في كثير من الأحيان تحت واحد أو أكثر من المؤثِّرات التالية:   1- حُبّ المال: إنّ اختيار الكثير من الاختصاصات والمهن وتغييرها، راجع إلى هذا العامل، فقد يختار البعض منّا المحاماة أو الطب أو التِّجارة أو الهندسة حتى ولو لم تنسجم كثيراً مع تطلعاته وميوله النفسية، فقط لأنّه يرى أنّ الدّخل الذي يُحقِّقه هذا الاختصاص أو هذه المهنة أكثر من غيرها. وليس في ذلك عيب، إذ كلّ إنسان يطمح إلى أن يعيش حياة مرفّهة، إلا أننا نتحدّث عن المؤثِّرات في الاختيارات وانعكاساتها المستقبلية على العمل، فليس كلّ مَن انخرط في سلك الطب أو المحاماة أو غيرهما، كان ذلك بمحض اختياره، وإنّما بناءً على رغبة الأب أو العائلة، أو للسّمعة والشّهرة التي يحقِّقها الطبيب في المجتمع، ولقد رأينا أنّ بعض الذين أُرغموا على دخول اختصاصات معيّنة، كيف انقلبوا فيما بعد عليها، أو – في أحسن الأحوال – كانوا ازدواجيِّين يُراوحون بين المهنة المختارة، وبين الرغبة الأصلية في اختصاص معيّن، أي أنهم اختاروا أن يعودوا إلى خيارهم الذي يجدون أنفسهم فيه.   2- التّقليد: الإنسياق وراء العقل الجمعي في العديد من اختياراتنا واضح وصريح، فليست كلّ الأيادي التي ترتفع في مجلس للتّصويت تُعبِّر عن قناعة ذاتية عند أصحابها، ولكن البعض – من ضعاف الشخصية – ينتظر إلى أن ترتفع أيادي الكبار (ممّن يحسبهم كباراً)، حيث يرفع يده تبعاً لهم. إنّ النّزوع إلى رأي الجماعة المخالف إلى القناعة الذاتية، ليس دائماً دليل لزوم الجماعة، فقد يكون عرفاً عشائريّاً أو قبلياً، ينطلق من تقليد الآباء والسادة والرّؤساء، وربّما يكون تقليداً جاهلياً في اختيار ما تختاره العشيرة حتى ولو كان خطأً أو ظلماً. وربّما امتدّ تأثير التقليد في اختياراتنا إلى تقليد الشعوب النامية الراقية في المظاهر والشكليات من منطلق الشعور بالدونية.   3- الموضة: كثيراً ما تلعب الموضة أو التقليعة أو الصرعة دور المؤثِّر في اختيارات الناس، خاصة في الأزياء وقصات الشعر، واستعمال مفردات بعينها، أو في آداب اللياقة أو ما يُصطلح عليه بـ"الأتكيت"، وفي العديد من هامشيّات الحياة. صحيح أنّ بنطال (الجينز) عمليّ كما يؤكِّد صانعوه ومروِّجوه ومصمِّمو الأزياء، وكما تبين من ارتدائه في مجالات العمل التي تتطلب لباساً سميكاً لا يتأثر بالعوامل الخارجية، إلا أننا نلاحظ أنّ (الجينز) شاعَ حتى في الصالونات والجامعات والحفلات وكأنّه لباس الترف أيضاً، وما ذاك إلا لتأكيد الموضة في الاختيار، والجينز للمثال لا للحصر.   4- السّمعة واللّقب: يدخل حبّ الشهرة أو السمعة في اختيارات بعضنا، خاصّة في مجال العمل والزواج. فقد يختار البعض الحقل الفني لما فيه من أضواء الشهرة والإشارة بالبنان والبحث عن المُعجبين، وقد يُصاهر البعض عائلة التاجر الفلاني أو السياسي البارز أو الأديب المشهور ليفوز بالنسبة إلى لقب العائلة، وربّما حرص البعض على العمل في وسط اجتماعي بسيط، فقط لأنّ أبناء ذلك الوسط يرونه شيخهم وينادونه بـ(الأستاذ). نعم، إنّ الانتساب إلى النّبلاء والشرفاء والملوك والرؤساء والوجهاء، يُضفي – في المجتمعات المخملية – صفة الشرف على المُنتسب إليها، لكنه في التقييم الموضوعي لم يفعل شيئاً يستحقّ به لقب الشرف سوى أنّه صاهر الشرفاء، وليس غريباً أن يفعل البعض ذلك من باب تغطية عيب أو نقيصة أو ذلّة يجدها في نفسه، أي أنّه يستتر بالعنوان واللّقب ليخفي وراءه سوءاته أو سيِّئاته.   5- القرابة والعشائرية: لا تزال الأسر الكبيرة والقبلية والعشيرة تلعب في العديد من بلداننا دورها المؤثِّر في خيارات أبنائها لا سيّما في الزواج والعمل، بحيث لا يشعر الأبناء – إلّا الذين تحرّروا من قيودها – بالحرِّية الكافية في اختياراتهم، وإن كانت الحياة العصرية قلّصت وأضعفت هذا المؤثِّر إلى حدٍّ ما، ولكنه لا يزال سارياً يفعل فعله في المجتمعات الرّيفية والقروية الضّيِّقة أو المغلقة. إنّ الانتماء الضاغط للأسرة أو العشيرة، الذي هو في حقيقته خضوع لأعرافها وتقاليدها، انسحب إلى بعض الأحزاب والتيارات، حتى عدّ خروج العضو فيها عن سياقاتها التقليدية خروجاً عن النص، أو عن الدِّين حتّى.   6- الاستجابة إلى نداء الدعاية والإعلان: لا يخفى أنّ تأثيرات الإعلام ووسائل الدعاية والإعلان على اختيارات الناس اليوم عظيمة، حتى أنها راحت تخلخل سلّم الأوليات، فتقدِّم الكمالي أو الترفي لتجعله ضرورياً، وتبرز غير الحاجة الأساسية على أنها حاجة أساسية، وأنّ ما ليس جزءاً من الشخصية على أنّه جزء لا يتجزأ منها، وذلك بما تزيِّنه وتزوِّقه في الترويج للبضائع الاستهلاكية، وتترك المشاهد (أي المستهلك) في دوّامة من اللّهاث وراء الجديد أو المُستجدّ والمريح والأكثر راحة، وما كان في عام 2000 يُمثِّل ذوقاً أرستقراطياً رفيعاً لم يعد في عام 2010 كذلك، وهلمّ جرّاً، حتى أن المتأثِّرين بالدعايات أو قُل ضحاياها، قد يكذِّبون كل شيء، ولكنهم يُصدِّقون (جُهينة)[2] الإعلام، و(حَذام)(2)[3] الدِّعاية. ولا تقتصر الدعاية المؤثِّرة في خيارات الناس على البضائع والسلع والمنتوجات فقط، بل امتدّت إلى الدعاية للمرشِّحين إلى الانتخابات الرِّئاسة أو البرلمانية، حتى باتت وسامة المُرشّح أو لباقته في الكلام أو شهادته العُليا هي المعيار في اختياره أو انتخابه حتّى لو لم يكن برنامجه الانتخابي لائقاً، وفي بعض الأحيان حتى لو لم يكن برنامجه انتخابي واضح. إنّ اختيار المُرشّحين في الكثير من البلدان – بما فيها الراقية والمتحضِّرة – يشبه إلى حدٍّ ما برامج النجوم في الفضائيات، فالتصويت لا يعتمد على صلاحية المُرشّح بل على سعة جمهوره. ولم يعد سرّاً أن اختبارات الأفضلية في الوظائف الشاغرة لا تمثِّل إلّا شكلاً مزيّفاً من أشكال العدالة الاجتماعية، فلو تقدّمت للوظيفة اثنتان إحداهما جميلة وقليلة الذكاء، والأخرى أقلّ جمالاً وأكثر ذكاءً، لاختيرت الأولى، أما اختيار القريب والنّسيب وصاحب الوساطة في الوظائف المُعلَن عنها أو التي تدّخر للمحظيين، فهو من رواسب التأثير القبلي والعشائري وتبادل المنفعة، أي اقبل من عشيرتك وتقبل من عشيرتي، وبالتالي فما يبدو في الظاهر اختياراً في الخفاء صفقة.   7- الإغراء: لا نريد بالإغراء معناه الجسدي، فهو من مؤثِّرات الاختيار الغريزي، ولكننا نعني به إغراء الناس لك من نفسك، بحيث يُشكِّل اغراؤهم أشبه شيء بـ(اللّوبي)، فتراهم يؤثِّرون على قرارك – سلباً أو إيجاباً – بالدخول إليك من مداخل حسّاسة كالقول: إنّك الأفضل والأخبر والأقدر والأجدر والأكثر أمانة وإيماناً، حتى ليرغِّبونك في الدّخول بما ليس لك رغبة في الدخول فيه، وقد يكون ذلك بحسن ظنّ وسلامة نيّة، وقد يكون من باب التوريط والإيقاع بك كما وقع الآخرون من قبلك. سُئل الإمام علي (ع) ذات مرّة: أيُّ الناس أثبتُ رأياً؟! فقال: "مَن لم يُغرهِ الناس من نفسهِ، ولم تُغرهِ الدّنيا بتشويقاتها"!   قواعد الاختيار السّليم: أصول وقواعد الاختيار الصّائب السَليم هي خلاصة ورشحات لتجاربنا الحياتية، فلقد اختار البعض منّا فأحسن الاختيار، فكانت تجاربه الاختيارية درساً لغيره من العُقلاء، واختار البعض فأساء الاختيار، فكانت تجاربه في الاختيار أيضاً درساً للعقلاء. ولاشكَ أنّ الاختيار (قوّة) وأنّه (صناعة) وأنّه (حكمة) تحتاج إلى استكمال جملة من العوامل الكفيلة بأن يكون اختيارك سليماً، ومن ذلك:   1- اختيارك مسؤليّتُك: أنتَ مُختار يعني أنّك حرّ، وأنتَ حرّ يعني أنّك مسؤول، ولذلك لا تستطيع أن تدافع عن الاختيار الآخرين لك، ولكنّك تستطيع الدِّفاع عن اختيارك، فالأوّل لا حول لك فيه ولا قوّة، وأمّا الثّاني فهو حصيلة درس وتفكير، ولذلك فإذا اخترتَ غير الصّالح وجاءت النتائج سيِّئة أو سلبيّة، فأنتَ الملوم لأنّك ستعلن عن نفسك بأنّك متعجِّل في قرارتك واختياراتك، أو أنّك لا تدرسها بعناية، ولذلك يجدر بكلِّ مختار أن يتذكر أنّه مسؤول أمام الذّوات التالية: 1- الله سبحانه وتعالى الّذي يُخاطب ملائكته ﴿وَقِفُوهُم إنّهُم مَسْؤُولُون﴾، لأن له يوماً موعوداً مشهوراً يُحاسب النّاس فيه على ما قدّموا وما أخّروا. 2- أنتَ نفسك باختبارك صاحب الاختيار المُكافَى على حسن اختياره والمُلام على سوء اختياره. 3- أمام المجتمع باعتبار انتمائك له صغيراً كان هذا المجتمع كالأسرة، أو أكبر كالمؤسّسة، أو كبيراً كالأمّة. إنّ مسؤولية الاختيار عاصم من العواصم الّتي تقيكَ الوقوع في المُنزلق، فالّذي يشعر أنّه سيُحاسب من قِبَل نفسه (وهي أوّل ناقدٍ له) أو من قِبَل مجتمعه ومحيطه على اعتبار «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته». ومن قِبَل الله تعالى باعتبار محكمته الكُبرى يوم الحساب، لابدّ للعشرة أو أكثر من العشرة حتّى يقدم على اختياره.   2- اختيارك قطعة من عقلك عندما يكون الأمر كذلك في اختياري، فإنّه يتطلّب منِّي شرطين: أن أُعمل وأستعمل عقلي وحكمتي حتّى أصل إلى أفضل خيار وأنسب قرار، ثمّ استحضار حكم الآخرين عليَّ ممّن أحترم وأقدِّر وأحسب أنّ أمري يعنيهم. ربّما يقول البعض: أنا صاحب الاختيار وأنا مَنْ يتحمّل تبعات اختياره، وهذا كما بيّنّا في قاعدة (الاختيار مسؤوليّة) صحيح، لكنّنا ثبّتنا كذلك أنّ اختياري له انعكاسات على مَنْ حولي بهذه النّسبة أو تلك، وحتّى لو لم يكن هذا شرطاً، فإنّ من أدّب الإنسان المسلم الّذي لا يرى نفسه (حيّ بن يقظان) أو (روبن هود) اللّذَين عاشا في جزيرتين منعزلتين، وإنّمت هو ابن أسرة، وابن مجتمع، وابن أُمّة، واختياراته – لا سيّما المصيريّة أو المفصليّة – شاء أم أبى ستؤثِّر بدرجة أو بأخرى على هذه الدّائرة الاجتماعية الّتي ينتمي إليها أو تلك ولو من النّاحية الاعتبارية.   3- إختيارك بنتائجه: لا شكّ ولا جدال أنّ الاختيار الصّحيح ينتج نتائج طيِّبة على الصّعيدين الفردي والإجتماعي، لأنّه نتاج الشّعور بالمسؤوليّة وبالعقلانيّة أيضاً، والنّتائج عادةً تتبع مقدّماتها، فإذا كانت المقدّمات سليمة، جاء الاختيار سليماً، والعكس صحيح. وقد يعترضنا هنا سؤال: لماذا نجد في تجارب بعض النّاس أنّ المقدّمات فيما أرادوا اختياره كانت صحيحة ومرضيّة لكنّ النّتائج لم تأتِ مرضيّة؟! سنأتي – بإذن الله – إلى معوّقات الاختيار أو الأمور الّتي لم تكن في الحسبان، ولكنّنا بصفة عامّة نقول، أنّك قد تدخل في صفقة تجاريّة رائجة، ومن حيث المقدّمات فإنّها مشجِّعة، ولكن حصول ركود مفاجى في السّوق؛ بسبب بعض الهزّات غير المتوقّعة، أو نشوب أزمة ماليّة عالميّة تؤثِّر على أسواق المال والتجارة، وما شابه ذلك، تقلب الأمور رأساً على عقب، غير أنّ ذلك هو الاستثناء، أمّا القاعدة فإنّك بقدر ما تحسن استخدام أدواتك، وتدرس مقدّماتك جيِّداً، وتتوطّن للسّيِّى واحتمال الأسوأ، فإنّ النّتائج المرتّبة على اختيارك ستكون مرضية، هذا في عالم المال. أمّا في عالم الزّواج، فقد يعترض البعض فاهماً قوله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور/ 26)، على أنّ ذلك أمرّ إلزاميّ، وحتميّة اجتماعية لا فكاك منها، فيتساءل: لماذا إذاً نرى بعض الطّيِّبين متزوِّجون من خبيثات، أو بعض الطّيِّبات متزوِّجات من خبيثين؟! والإجابة عن هذا السؤال أو التساؤل بسيطة جدّاً: فالمسألة هنا هي مسألة الاختيار الصّائب والمدروس بعناية، والاختيار غير الصّائب وغير المدروس بعناية، أي أنّ الآية في مقام التّنبيه إلى ضرورة الاختيار التّوافقي، أو التّجانس النّوعيّ، فالطّيِّب – كونه طيِّباً – لابدّ أن يختار لحياته امرأة طيِّبة مثله، والطّيِّبة يجب أن تختار رجلاً من جنسها في الطّيِّبة، أمّا إذا عاند أحدهما هذه الضّرورة وكسر هذا النِّظام، فالمُلام هو أو هي لأنّهما لم يُحسنا الاختيار، ولذلك تراهما يدفعان ضريبة سوء اختيارهما بكلِّ ما ينتجه من نتائج مأساويّة.   4- لا توكل اختيارك لغيرك: لا تجعل الآخرين يقومون بالاختيار عنك، ما دمتَ حرّاً، ومسؤولاً، وصاحب عقل راجح، وإرادة كاملة، وتحترم نفسك باختيار الأفضل. ولا ينبغي الخلط بين استشارة الأخرين واستخراج الرأي معهم، وتنقيح الأفكار الّتي لديك على ضوء ملاحظاتهم، وبين إيكال الأمر إليهم كلِّيّاً. فقد تذهب أمّك أو أختك لتخطب لك، ولكنّك في النّهاية أنتَ مَنْ يُقرِّر صلاحيّة الزّوجة كشريكة حياة لك، سواء بطلب اللِّقاء بها، أو بتعدّد مصادر السّؤال عنها، أو بذلك كلّه، ممّا يوفِّر لك شهادات اطمئنان إضافيّة إلى ما تنقله والدتك أو أختك أو الخطابة من صورة أو تقرير عن الفتاة موضوع الخطبة. إنّ الّذين يُردِّدون في التّظاهرات كلمات أو شعارات ارتجاليّة تُخالف الخطّ العام للتّظاهرة، قد يكونون مندسِّين يحاولون الإساءة للمُتظاهرين، وقد ينساق البعض تحت تأثير العقل الجمعي والجوّ الحماسي إلى ترديد ما يُردِّدون، ولكن كَوْني فرداً في المجموع لا يعفيني من مناهضة الشّذوذ الّذي يصدر عنه أو عن متسللين إليه، فإنّما ارتضيتُ أن أكون فرداً في الجماعة لقناعتي أنّها تُمثِّلني وتحمل توجّهاتي، أمّا إذا استغلّت وجودي فيها لمآرب خاصّة، فهذا أمرّ خارجٌ على الاتِّفاق وضدّ روح الجماعة، ولابدّ من التصدِّي له حتّى لا أُعدَّ من الرّاضين على ما حصل السّاكتين على ما جرى.   5- وازِن بين الإيجابيّات والسّلبيّات: من بين الطّرق العلميّة للإختيار السّليم، هو أن توازن بين الإيجابيّات والسّلبيّات، فإذا رجحت كفّة الإيجابيّات فهذا يعني: (أقدم)، وإذا رجحت كفّة السّلبيّات فهذا يعني: (أحجم)، خاصّة وأنّ الحياة بطبيعتها قائمة على مبدأ النِّسبيّة، فليس فيها شيء مُطلق الإيجابيّة، وليس فيها شيء مُطلق السّلبيّة، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة/ 219). وقد استدلّ الفقهاء من ذلك على أنّ كلّ عمل إثمه أكبر من نفعه فهو حرام، وكلّ عمل نفعه أكبر من إثمه فهو حلال، ممّا يتيح أو يوفِّر لك قاعدة اجتماعيّة عمليّة مهمّة في الحسم بين خياراتك المتزاحمة بعد حساب دقيق لإيجابيّات وسلبيّات كلّ منهما، والتّرجيح بينهما.   6- قدِّم في اختياراتك الأهمّ: عندما يكون هناك تزاحم بين خيارين أو أكثر، قدِّم الأهمّ والأولى، فالمهم سيأتي وقته، وحتّى لو لم يأتِ وقته، فإنّك تكون قد أحرزتَ اختيار الأهمّ الّذي إذا فاتَ وقته فقد تلحقك خسارة كبيرة. في مرحلة الشّباب قد يكون التّزاحم بين الزّواج وبين إكمال الدِّراسة، أو بين العمل وبين الدِّراسة، ولأنّ الدِّراسة يترتّب عليها الحصول على فرص عمل أفضل، وتحقّق لك دخلاً يمكنك من إنجاز مشروع الزّواج، فإنّ الأولويّة تكون للدِّراسة، وما لم يكن هناك من مانع اضطراريّ لترك الدّراسة والإنشغال بكسب العيش – كما يحصل في ظروف خانقة – فاللدِّراسة أولويّة، وقد يجمع بعض الشبّان بين الاثنين ولا يجد تعارضاً. أمّا إذا كانت الظّروف المادِّيّة والعائليّة والشّخصيّة مؤهّلة للجمع بين مشروعي الدّراسة والزّواج، فلا بأسَ من أن يتزامن المشروعان، أو يسيران بخطّين متوازيين، إلّا أنّ ظروف الحياة اليوم نادراً ما تسمح بذلك. وحينما يتزاحم عملان خيِّران، كأن تعود أمّك المريضة لتتفقّد احتياجاتها، أو أن تزور قريباً لك لم تزورهُ منذ مدّة، فإنّ الثّاني يحتمل الّتأخير، فالأوليّة للأوّل لا لأنّه لا يحتمل التّأخير فقط، بل لأنّ برّّ الوالدين مقدّمٌ على صلة الأرحام.   7- رجِّح اختيارَك السّليم بإيمانك بالقِيَم: كلّما كنتَ مؤمناً بالقِيَم الأخلاقيّة أكثر، رجِّح اختيارك الأفضل، لانّك حينئذٍ توازن بين ما تتطلّبه القيمة وبين ما يفرضه الواقع، أو تمليه النّفس، أو ما يضغط الآخرون به عليك، فإذا اندفعتَ نحو اختيارك بدافع القيمة، فإنّك تكون قد اخترتَ الأحسن والأصلح. فعلى سبيل المثال، عندما يتنازعك شعوران: شعور بضرورة الإنفاق على المحتاج والإحسان إلى الفقير أو المسكين، وبين البُخل بمالك، لا يحلّ إشكاليّة النِّزاع إلّا وعيك للقيمة في أنّ القليل الفاني لا يرجح على الكثير الباقي، وأنّ رضا الله أعظم من رضا نفسك، وأنّ الرّحمة بالمسكين تستجلب الرّحمة لك من الله، وأنّ المال مال الله إن شاء أتلفه لأبسط سبب، فلماذا لا أدّخره في الرّصيد الّذي يزيد ولا يبيد، وهكذا. إنّ استحضار قيمة القِيَم وتفعيلها وتفاعلها في النّفس والإحتكام إليها، يقضي بين الشّعورين المُتنازعين أو الخيارين المُتضادين بحسمها لصالح الإختيار السّليم.   8- أثبت على اختيارك ولا تلقِ بالاً لسخرية الآخرين: لو أنّ نوحاً (ع) كان قد اعتنى بسخرية قومه من بنائه السّفينة، وعطّل المشروع بناءً على ذلك، ثمّ جاء الطّوفان، فماذا كان يمكن أن تكون النّتيجة؟ إنّ الّذين يُقلِّلون من قيمتك أو قيمة اختياراتك موجودون دائماً وعلى طول الطّريق، فإذا لم تكن كالحصان الملجّم تنظر إلى الأمام وباتجاه خيارك، أتاك الطّوفان حتّى لو كنتَ على جبل. إنّهم يهزأون ويسخرون بك وبما أنتَ مُقدِم عليه: حسداً من عند أنفسهم، أو جهلاً بقيمة ما اخترت، أو لعجزهم أن يصلوا إلى مستوى اختيارك، أو لأنّ اختيارك يُعاكس اختيارتهم. والفرق بين شخص يهتزّ لسخرية واستهزاء واستخفاف الآخرين فيهمل اختياره أو يصرف النّظر عنه، أو تقلّ قيمته في نفسه، وبين آخر مُقتنع تمام الاقتناع بما اختار، هو أنّ الأوّل يرى أنّ سخرية الآخرين حقّ – وهي ليست بحقّ – فيما يراها الثاّني واقعة ضمن واحد أو أكثر من الأسباب الأربعة الّتي ذكرنا، فلا يهتمّ لسخرية السّاخرين، ولا يأبه باستخفاف المستخفِّين، حتّى إذا جاء الطّوفان وقد انتهى من بناء السّفينة، فإنّ السّاخرين سيكونون من المسخورين. 9- إسْتَشِر لترشيد اختيارك: لا تناقض ولا تعارض بين دراستك لاختيارك وبين استشارة العُقلاء وأصحاب الخبرة والتّجربة فيما هو مطروح عليك من خيارات، فحتّى لو وصلتَ إلى قناعة كبيرة في أنّ الاختيار هو (س)، ثمّ استشرتَ ذوي الرّأي وأشاروا عليك به، فإنّك تزداد بذلك قناعة ويطمئنّ قلبك وتُقدِّمه راشداً مهديّاً. وكما قلنا فيما سبق، فإنّ الاستعانة بالصّديق أو طلب المُساعدة منه ليس في برامج المُسابقات فقط، بل في الحياة العلميّة أيضاً، لحلِّ التّزاحم بين الخيارات، أي أنّه أسلوب يستخدمه العُقلاء حيثما شعروا بتساوي كفّتي الخيارين، وشعار كلّ منهم:"ما خابَ من اسْتَشار". ولذلك خُذْ قسطك الكافي من السّؤال والمشورة، واركن إلى مَنْ تثقُ بهم لتنضيج وترشيد اختيارك حتّى يأتي سليماً.   10- إخْتَرْ ما يمكنك أن تُبدعَ فيه: إنّ الّذين يختارون الأشياء الّتي يستمتعون بها، وتشعرهم بالرّضاء النّفسي، واحترام الذّات، ولا تخاف قيمهم وتعاليمهم الدِّينية، والّذين ملتزمون خطّاً فكريّاً معيّناً، يسكبون عليه من أرواحهم، هم المُبدعون حقّاً. فإذا أحببتَ مهنة أو اختصاصاً ما، واخترته، وتمخّضتَ فيه، وأعطيته من وقتك وفكرك وقلبك، أعطاك زمامه، فإذا أنتَ تتفنّن في الإنجازات الّتي تحصل على يديك، لأنّك اخترتَ ما تعشق وتتفاعل معه وتخلص له حُبّك، فيُبادلك حُبّاً بحبٍّ وعطاءً بعطاء. إنّك قد تستمع من بعض المُبدعين الكلمة المأثورة التّالية: أنا أجد نفسي في هذا.. في التّجارة أو الرّسم، أو الشِّعر، أو صناعة التّحف الفنِّية، أو في التّعليم، أو في الكتابة، أو في خدمة النّاس، وما إلى ذلك. وكلمة (أجد نفسي) تعبير مكثّف عن أنّ المُتحدِّث قد حسم خياراته فكان اختياره السّليم هو ما يُمارسه من حرفة أو هواية أو اختصاص. وقد ينجح أحدنا في غير حقل اختصاصه أو مجال اهتمامه، ولكن ذلك الاستثناء.   11- الحياة لا تعطيك كلّ ما تطلب.. غيِّر وحوِّر اختياراتك أحياناً: عندما تطلب من الحاسوب (الكومبيوتر) معلومات في بحثٍ ما على (الانترنت)، فإنّه قد يتعذّر إليك بأدب بأنّ الموضوع المُراد بحثه، بصيغة العنوان المطروح، غير موجود، ولكنّك يمكن أن تُحوِّر الطّلب أو تُصيغه بعبارات أخرى لتظفر بمطلوبك. في ميدان الحياة، الأمر ذاته، فقد تطلب شيئاً باعتباره خيارك الأفضل، وتحول دون تحقيقه موانع وعوائق تجعل منه مستحيل التحقيق، فإذا بقيتَ مُصِرّاً عليه، وبقيت العقبات رازحة في طريق تنفيذه أو بلوغه، فقد تُضيِّع وقتاً ثميناً، أمّا إذا خفّفتَ من شروطك وتنازلتَ قليلاً، فإنّك يمكن أن تنال مرادك ولو بمواصفات أدنى. قيل لرجل كان قد وضع أربعين شرطاً أو صفةً للّتي تُريد أن تكون زوجةً أو شريكةً لحياته، وكان في كلِّ عامٍ يتنازل عن بعض تلك الشّروط، إلى أن تقدّم به العُمر ولم يجد المرأة المناسبة بالمواصفات والشّروط الّتي وضعها. قيل له بعد أن تجاوز الأربعين من العمر، ما تقول الآن؟ قال: كان لي فيما مضى أربعون شرطاً، أمّا الآن فلي شرط واحد فقط، وهو أن تقبل بي أيّة امرأة!! إنّ الّذي يتمنّى أن يتزّوج ابنة السّلطان وإلّا بقي أعزباً، قد تتزوّج ابنة السّلطان ويبقى هو أعزباً، أمّا الّذين يغرونه بأنّه سيتزوّجها وأن هناك شيء مستحيل، فمخادعون، قد تزوّجوا بحسب إمكاناتهم المُتاحة وراحوا يضحكون عليه؛ لأنّ سقف مطالبه أعلى من رأسه! من هنا، فإنّ طرح (البديل) أو (البدائل) الممكنة هو اختيار أيضاً، وهو تعبير عن موضوعيّة المختار وعقلانيّته.   12- رحم الله امرءاً قدرَ نفسه، وعرفَ حدّه فوقفَ عنده، فقد يرتفع سقف المطالب الذّاتيّة إلى ما فوق الاستحقاق وخلاف الحقّ والشّريعة، إمّا بتزيين الشّيطان، أو الإعجاب المُفرط بالذّات، أو بإغراء الآخرين، أو بالإنبهار بالدّعاية والإعلان. فكثيراً ما يتعرّض الشّاب الأعزب إلى مقولة مُغرضة ودنيئة وشيطانيّة أيضاً من قبيل: استمتع بشبابك.. قبل أن تتزّوج وتنكسر رقبتك، إعطِ شبابك حقّه.. تنقّل بين أحضان النِّساء واغترف ما شئتَ من اللّذّات من قبل أن تلقي برحالك عند المرأة الأخيرة.. وما شاكل ذلك. إنّ الإستجابة إلى هذا اللّون من الإغراء المسفّه، أو لأيِّ إغراء آخر بالتّدخين أو لعب القمار أو الحصول على المال بطرق غير مشروعة، هو إغراء شيطانيّ، يلقيه الشّيطان في داخلك، أو على ألسنة أصدقاء السّوء ليوقعوك في الشِّباك، فإذا أردتَ الخروج تعذّر عليك ولم يجد فيهم مَنْ يُسعفوك لأنّهم هم أيضاّ قد التفّت الشِّباك عليهم، فلا مخرج. يقول الشاعر: دخولُ المرءِ في الشّبكاتِ سهلٌ ولكنّ المصيبةَ في الخروج كما أنّ الفتاة الّتي تغريها صويحباتها في أن تفعل ما يشينها بذرائع شتّى كتلك الّتي يواجهها الشّباب أو ما يشابهها، قد تعاني من ضغوط نفسيّة متصارعة، وقد يُقال لها: كلّنا يفعل ذلك، فلماذا تعزلين نفسك أو تحرمينها من التمتّع بالملذّات، أو تعيشين العقدة.. سرِّي عن نفسك وعن شبابك؟! إنّ الإجابة بـ: حتّى لو فعل الجميعُ ذلك فأنا لا أفعله، قد يكون خفيفاً على اللِّسان ثقيلاً في الموقف، لكنّه المخرج الوحيد من شرنقة الحرير الّتي تحيكها صديقات السّوء لتتحوّل من (خيوط حرير) في أوّل الوقت إلى (قيود حديد) في وقتٍ لاحق. ألم تسمعوا قول الله تعالى لكلِّ المعترِّضين إلى أمثال هذه الضّغوط من أجل استدراجهم نحو الحرام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة/ 105). قيل لشابٍّ اعتزل جماعة من الشّبّان كانوا يقترفون الفواحش من زنا وشرب خمر: (إنّكَ معقّد)!! فقال: إذا كان الامتناع عمّا حرّم الله تعالى (عقدة) فأنا من أكبر المُعقّدين!! وحاصرت امرأة فاسقة شابّاً متديِّناً ليرتكب معها الفاحشة، قائلة له: لقد رأيتك في المنام وأنت نائمٌ معي! فقال لها: تلك أضغاث أحلام، وتركها ذليلة ومضى! ولذلك (لنتعلّم) ونقول لنتعلّم لأنّ المسألة تحتاج إلى تعلّم وتدريب وثبات، لنتعلّم كيف نقول (لا) للخيارات السّيِّئة والمهينة والمشينة، فالرّفض والممانعة اختيار أيضاً.. هو اختيار (الأبطال) و(الشّجعان) و(الأقوياء) وأصحاب الإرادات القويّة. أنتَ في شهر رمضان تقول (لا) للحلال، فما أقدرك على أن تقولها لـ (الحرام)! نعم، نحن معك.. أصحاب الإرادات القويّة قليلون.. الّذين لا يضرّهم مَنْ ضلّ إذا اهتدوا قليلون.. الّذين هم مع الصّادقين قليلون.. لكنّهم القلّة النّوعيّة.. وإلّا مَنْ قال لك إنّ (الذّهب) كثير، وإنّ (الماس) كثير، لنتعلّم أن نكون من (النّدرة الفاخرة) لا الكثرة الّتي هي (غثاء السّيل).

في الأمثال: "كن الواحد في المليون لا واحداً من المليون"!

13- أهونُ الشّرّين: إذا كنتَ في حرِّيّة من الإختيار، فرفض الخيار السِّيىء هو الموقف، وإذا خُيِّرتَ بين سيِّئين، ولم يكن أمامك إلّا أن تختار، أي كنت مُرغماً على الاختيار بحيث تأخذ بأحدهما وإلّا قُتِلْت، أو طُرِدْتَ من عملك، أو حُرِمتَ من فرصة ثمينة، فاختر أهون الشّرّين، هذا إذا اعتبرنا اختيار (الكرامة) شرّاً، وهو بالتأكيد ليس بشرّ. لقد عاشَ الشّاب المسلم (عمّار بين ياسر) في صراع بين خيارين: أن يتحمّل العذاب الأليم من قريش، أو ينطلق بكلمة الكفر، فاختار الثّانية ليحفظ حياته طالما أنّ قلبه مطمئنّ بالإيمان. لقد كان خياراً مؤرقاً بالنِّسبة لشابٍّ مؤمنٍ كعمّار، ولكنّه حينما أخبر النّبيّّ (ص) بما فعله، وسأله كيف يجد قلبه، فأخبرهُ أنّ قلبه عامر بالإيمان، قال له:"إن عادوا فَعُدْ"! ورُويَ أنّ (مسيلمة الكذّاب) أجبر رجلين من المسلمين على الإقرار بنبوّته وهدّد المُعْرِض بالقتل، فأقرّ له أحدهما بالنّبوّة فسلم من القتل، وأنكرها الآخر فقُتِل، فلمّا بلغ ذلك رسول الله (ص)، قال:" أمّا المقتول فمضي على يقينه، فهنيئاً له"، أي أنّه تعجّل الشّهادة، "وأمّا الآخر، فقد قبل رخصة الله، فلا تبعة عليه"، أي أنّه حقن دمه.

وفي بعض دول الإستبداد، كانت مسرحيّة الإنتخابات لذرِّ الرّماد في العيون، وكانت مخابرات الدّولة تُتابع وتُراقب المصوِّتين وتجبرهم على ذلك، فلم يجد بعض المصوِّتين مهرباً من المأزق إلّا أن يختار أقلّ المرشّحين حظوظاً ليعطيه صوته، ليعفي نفسه من مسؤولية صعود الفاسدين والمفسدين.

14- خيار الانسحاب – في بعض المواقف – إيجابيّ: إنّ الشّابّ الّّذي اعتزل جماعته المنحرفين – في المثال الّذي مرّ بنا قبل قليل – اختار الإنسحاب، وكان خياراً موفّقاً، وقد اعتزل الفتية أصحاب الكهف قومهم الّذين كانوا يعبدون الأصنام، وكان خياراً سليماً أعانهم الله تعالى عليه. وفي عالم السِّياسة قد يعترّض العامل فيها إلى المهانة والإضرار بسمعته أو بدينه إن بقيَ ضمن المؤسّسة الّتي يعمل فيها، فيختار الإنسحاب ليحفظ لمبدأه نصاعته. ولعلّك شاهدت كيف يخرج بعض السِّياسيِّين من قاعات الاجتماع والمؤتمرات التي يُساء فيها إلى بلده ولا يجد إمكانيّة الرّدّ إلّا بالإنسحاب من الجلسة لإشعار المتحدِّث والحاضرين برفضه للإهانة. والقرآن الكريم يعتبر قرار أو خيار الإنسحاب من المجالس المُريبة والمُسيئة والبذيئة خياراً إيجابيّاً، بل ويُمثِّل موقفاً. يقول تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام/ 68).

وبحسب ثقافتنا وتربيتنا الإسلامية، فإنّنا إذا لم ننسحب من المجالس المهينة والمُحرّمة، فإنّنا سنكون مشمولين بالعقوبة الّتي تشمل المُسيئين في ذلك المجلس حتّى ولو كنّا صالحين، لأنّ بقاءنا يمثل حالة أو علامة رضا، وطالما أنّ خيار الإنسحاب والمُقاطعة بأيدينا، فلماذا العقود؟!

15- إطرح على نفسك الأسئلة الجادّة: إذا تعرّضتَ إلى ضغوطات الخيار السّيِّى، كُنْ صارماً في طرح الأسئلة الجدِّيّة على نفسك، واصدق في الإجابة ما استطعت.. إليك بعض تلك الأسئلة. أ- ماذا يقول لي عقلي وضميري عن هذا العمل؟ ب- هل هذا العمل من العدل أم الظّلم؟ ت- هل هذا العمل يخلّ بسُمعتي ويُسيء إلى كرامتي؟ ث- ما هو شعوري لو فعله شخص آخر معي؟ ج- ماذا يقول العُقلاء الّذين أحترمهم لو رأوني أفعله؟ ح- ماذا يقول النّبيّ (ص) – أسوتي الحسنة – لو رآني أعمله. خ- ماذا يقول الله الّذي يراني أفعل ذلك ويسألني عنه؟   بين التردّد والإختيار: هذان نموذجان لشخصيّتين تأريخيّتين يمكن أن نجد لهما نماذج مماثلة في واقعنا المعاصر، بل في كل حين: أحدهما شخصية مُتردِّدة ثمّ لا تلبث أن تختار الخيار السيِّئ، وشخصيّة – في نفس الموقف – مُتردِّدة ثمّ تختار الخيار السليم. سنعرض لهما أوّلاً، ثمّ نحلِّل خياراتهما على ضوء ما تقدّم من فهم لطريقة الاختيار السليم.   - الأولى: شخصيّة (عُمر بن سعد): هذا الرجل كان قائداً عسكرياً للجيش الذي خرج لقتال الإمام الحسين بن علي (ع) في كربلاء عام 61هـ، كان آمره الأعلى (عُبيدالله بن زياد) قد منّاه بمُلك الرّي[4] إن هو قتلَ الإمام الحسين (ع) على الرّغم من القرابة التي بينه وبين الإمام، وعلمه أنّه ابن بنت رسول الله. يُروى أنّه قال شعراً يكشف عن حالة من التردّد، ثمّ حسم هذا التردّد، يقول: فوَ الله ما أدري وإنِّي لحائرٌ **** أُفكِّر في أمري على خَطَرَينِ أأترك ملك الرّي والرّي مُنيتي **** أم ارجع مأثوماً بِقَتْلِ حُسينِ حُسينُ ابن عمِّي والحوادثُ جَمَّة **** لعمري ولي في الرّي قُرّة عَيْنِ يقولون إنّ الله خالقُ جنّةٍ **** ونارٍ وتعذيبٍ وغلّ يَدَينِ فإن صدقوا فيما يقولون أنّني **** أتوب إلى الرحمان من سَنتينِ وإن كذبوا فُزنا بِدُنياً عظيمةً **** ومُلكٍ عقيمٍ دائم الحجلين   - الثانية: شخصيّة (الحرّ بن يزيد الرِّياحيّ): هو أيضاً قائد عسكري من قادة الجيش الأموي المُكلّف بقتال الإمام الحسين (ع)، وقف يوم عاشوراء بين مفرقي طريق: إما أن يُقاتل الحسين (ع) فيدخل النار، وإمّا أن ينحاز إلى معسكره ويُقاتل دونه يدخل الجنّة. رمقهُ أحد رفاقه في الميدان، وقد رآهُ ساهماً يُفكِّر؛ قال له: أراك مُتردِّداً، ووالله لو قيلَ مَن أشجع أهل الكوفة لما عَدَوْتك؟! قال الحرّ: إني أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار، ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً! ثمّ اندفع نحو معسكر الإمام الحسين (ع) تائباً، ومقاتلاً معه حتى استشهد.   - المقارنة بين الشخصيّتين: 1- شخصيّة (عمر بن سعد) تبدو لأوّل وهلة متردِّدة، ولكنّها سرعان ما حسمت تردّدها لصالح الخيار الدنيوي (مُلك الرّي). أمّا شخصية (الحر بن يزيد الرِّباحي) فهي وإن بدت مُتردِّدة لبعض الوقت، لكن تردّدها كان تخييراً بين الجنة والنار، وحسمت خيارها باتجاه الجنّة. 2- (عمر بن سعد) وضع الخيارين في كفّتين متوازنتين متساويتين: كفّة (ملك الرّي) وكفّة (دماء الحسين وأصحابه)، وكلاهما بالنسبة له أمرٌ خطيرٌ (أي مهم)، وبحسب أبياته فإنّ ملك الرّي عنده أغلى من دم الحسين (ع)، وقد بدا مستعدّاً لقتله على الرغم من معرفته أنّ قتله إثم عظيم، ولكنّ شهوة المُلك أعمت بصره وبصيرته. أمّا شخصية الحرّ فقد وضعت خياريها في الميزان أيضاً، فرجحت كفّة المقاتلة مع الحسين وليس ضدّه، لأنّ مقاتلة الحسين (ع) عنده تعني النار، وأمّا القتال معه فيعني الجنّة، وهو لا يؤثر النار على الجنّة. 3- (عمر بن سعد) تبدو جاحدة ومنكرة لوجود الله أو شاكّة بوجوده، ولعلّه يؤمن بوجوده لكن نفسه تسوِّل له نكرانه لتسوِّل له قتل الحسين فلا تشعر بثقل الجريمة. أمّا شخصية (الحرّ بن يزيد الرِّباحي) فهي شخصيّة العارف بالله وبأنّ النار حقّ وأنّ الجنّة حق، وهو عارف بمقام الإمام الحسين (ع) ومنزلته عند المسلمين، وأنّ الإنضواء تحت لوائه يعني اختيار الجنّة. والشخصيّتان في حياتنا تُمثِّلان شخصيّة الذي يوكل اختياره لهواه ويؤثر دنياه على آخرته، وشخصيّة الذي يُحكِّم عقله في اختياراته فيختار الخلود والنّعيم والرِّضوان على جهنّهم والنِّيران. وإذا رجعنا إلى الرّسم التوضيحي في مطلع هذا الكتاب، فإنّنا نلاحظ: أنّ العَرض أو المنبّه بالنسبة لـ(عمر بن سعد) هو (ملك الرّي)، أنّ الإختيار أو الإستجابة هي (قتل الحسين). وبالنسبة لـ(الحرّ) فإنّ العرض أو المنبّه هو (الجنّة)، وأنّ الإختيار أو الإستجابة هي المقاتلة مع الإمام الحسين (ع). فما هي مساحة حرِّية كلّ منهما؟ إنّ حرِّية (الحرّ) أوسع من حرِّية (عمر) لأنّه ربط استجابته بالخلود (أوسع الحرِّيات على الإطلاق)، أمّا عمر فقد ربط استجابته بمتاع الحياة الدنيا (أضيق الحرِّيات على الإطلاق). وعلى ضوء هاتين الشخصيّتين أو النموذجين، يمكن أن نُصنِّف أنفسنا في أيِّ المعسكرين أو المدرستين نحن، بحسب ما نُحدِّده من اختيار: اختيار نجد الخير لنكون من الشاكرين، أو اختيار نجد الشرّ لنكون من الكافرين!!   موانع الإختيار: لسنا دائماً في فسحة أو بحبوحة من اختياراتنا، فكما سبقت الإشارة، فإنّ هناك مؤثرات خارجية تعيق حرِّية الاختيار في بعض الأحيان، أمّا إذا عوّقت حرِّية أحدنا أو حجبت أو قيّدت فإنّه يُحكم عليه بـ(الموت) وهو حيّ، ذلك أنّ مجال الحياة هو مجال الإختيارات. فـ(الطفولة) مانع من موانع الإختيار، لأنّ الطفل لم يرشد ولم ينضج عقليّاً بعد، فقد يتصرّف بالمال بسفاهة، أي لا يحسن التصرّف فيه، وقد يؤذي نفسه من حيث يريد إمتاعها، ولذلك يبقى تابعاً في اختياراته حتى يبلغ سنّ التكليف وعندها يُطلق له الاختيار، ولا يعني ذلك أنّ الطفل مُقيّد تماماً، بل هو يُخيّر في الأمور الهيِّنة البسيطة التي لا تؤثِّر على المجرى العام لحياته. و(السّجن) كذلك مانع من الإختيار، فالسّجين يعيش في أزمة فقدان الاختيار، فليس له أن يأكل، أو يشرب، أو ينام، أو يتخلّى، أو يلتقي بأحد أقربائه أو ذويه إلا ما يختاره له سجّانه أو جلّاده. و(الابتسداد) مانع من الاختيار أيضاً، وعائق كبير من العوائق التي تقف في طريقه؛ لأنّه مُكبِّل للحرِّية، فإذا كتم الحاكم المُستبد أنفاس الناس وكمّم أفواههم وقطع عليهم الطريق إلى الله، وضيّق الخناق فهدر حقوقهم ومنعهم حرِّياتهم، أصبحوا كالسجناء، ولكن يحيون في السجن الكبير: أحراراً ظاهريّاً وبدون اختيار واقعيّاً. فالحاكم هو الذي يختار لهم وعليهم أن يطيعوه حتى فيما يخالف اختياراتهم. يقول تعالى – كمثل على الحاكم المستبد – على لسان فرعون لقومه: (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى) (غافر/ 29). فإذا اختار لهم أن يفرحوا – حتى في حزنهم – فليفرحوا، وإذا أراد لهم أن يحزنوا لحزنه – حتى ولو كانوا فرحين – فليحزنوا، وإذا أراد لهم أن يموتوا جوعاً فليس لهم أن يُطالبوا بالرغيف، وإذا قرّر – بسبب حماقاته – أن يرميهم في المحرقة، فعليهم أن يكونوا مستعدِّين لأن يكونوا حطبها! و(المرض) مانع للإختيار كذلك، لأنّ المريض يُمنع من أكلات ومشروبات كان أيّام عافيته يتناولها، وإذا هو اليوم محروم منها بحسب توصيات الطبيب ورعايته لصحّته، فما كان بالأمس حلالاً هو اليوم حرام، وربّما يُخالف المريضُ الطبيب فيختار بعكس ما أوصاه، ولكنّه بذلك لا يضرّ الطبيب بل يضرّ بصحّته، ولذلك قيل: "رُبّ أكلَةٍ مَنَعَت أكَلات"، وقيل أيضاً: "إذا أنتَ لم تُسرِف في ممارسة حرِّيتك لا تنضب"! الأمر الذي ينتهي بنا إلى أنّ الموازنة والإعتدال والوسطية ليست خيارات، بل هي واجبات لأزمة، ولم يكن التطرّف في يوم من الأيّام خياراً إلا لِمَن لم يفهم في عالم الإختيارات أنّ "خير الأمور أوسطها". وقد يظنّ البعض أنّ (العبادة) أو الطاعة لله من بين موانع الاختيار، لأنّها بحسب ظنّ هذا البعض تُحدّد لي ما يجب عليّ عمله، وما يجب عليّ تركه، وبمعنى آخر، فإنّها تختار لي، فلا يكون لي خيار في أمري. وينسى هؤلاء كلامنا عن الطفولة التي تقل خياراتها لأنّها لا تتعقّل الأمور، ولذلك كان الوالدان – باعتبارهما عاقلين – هما اللّذان يختاران للصّبي والصبيّة، وللتقريب نقول إنّ العقل المُدبِّر والحكمة الكُبرى والعدل المُطلق إذا اختار لنا فليس لنا أن نختار، لا لأنّه يُصادر حرِّيتنا – كما قد نتصوّر – بل لأنّه يختار لنا وفق أكمل العقل وأبلغ الحكمة ومُنتهى العدل. ولتوضيح هذا الإشكال أو الإلتباس الذي يقع فيه الكثيرون، نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى كلّفنا بتكاليف (فرائض) بواسطة أنبيائه ورُسله، فأمرنا ببعض الأفعال ونهانا عن بعضها الآخر، ليتعبّدها بذلك فيرى المُطيع منّا من العاصي، بعد أن منحنا القوّة والإدارة على (الفعل) و(التّرك)، وجعل لنا الاختيار في ما نفعل دون أن يجبر أحداً على الفعل، والاختيار في الترك دون أن يرغم أحداً على التّرك. ولقد بسّط الإمام جعفر الصادق (ع) حقيقة التكليف الإلهي فيما نطيق وما لا نطيق من خلال وسيلة الإيضاح التالية: "ما استطعتَ أن تلوم العبد عليه فهو (منه) أي من الإنسان نفسه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو (من فعل الله). يقول الله للعبد: لِمَ عصيت؟ لِمَ فسقت؟ لِمَ شربت الخمر؟ لِمَ زنيت؟ فهذا (فعل العبد). ولا يقول له: لِمَ مرضت؟ لِمَ قصرت؟ لم ابيضضت؟ لِمَ اسوددت؟ لأنّه (من فعل الله تعالى)". من ذلك نستنتج أنّنا نفعل ما نفعل باختيارنا، ودليلنا على أنّ الله جعلنا مختارين أمور ثلاثة: 1- لقد أرشدنا تعالى بواسطة أنبيائه كيف نؤمن بالحق. 2- هدانا عزّ وجلّ إلى الصالح النّافع في ما نفعله، ورغّبه إلينا وزيّنه في قلوبنا، وحذّرنا من الضارّ منه، وقبّحه إلينا حتّى نجتنبه. 3- أمدّنا بطاقات فكريّة وجسديّة تتعقّل المعنوي الرفيع، وتتعاطى المادي السليم. ولذلك فإنّ فلسفة الاختيار – في الطاعة – تتلخّص في أنّ: أ- المختار هو الذي يملك القدرة على الفعل وعلى الترك. ب- المختار لا (قاهر) يقهره على فعل، ولا (مانع) يمنعه عن فعل. ت- المختار حرّ بطبيعته، وإلا ما كان مختاراً. ث- المختار يمكن أن يُسْلَب اختياره فيملكه غيره (تذكر أمثلة السجين والمستضعف والمريض والطفل). ج- لا خيارَ للمختار إذا اختار الله له (سنوضِّح ذلك بإذن الله لاحقاً). ح- اختيار الله لا يتعارَض مع المصلحة لأنّه عالِم بالخفايا والظواهر، وبيده كلّ شيء، وهو أعلم بوجوه الحكمة، وهو أرحم الراحمين، وأعدل العادلين. ومن موانع الاختيار أيضاً (الشيطان) المسلّط على الإنسان ليغويه ويوسوس له ويدعوه إلى فعل الشر. وقد أجاب تعالى على إشكالية: كيف أكون مختاراً والشيطان يؤثِّر في اختياراتي؟ بتعريفنا بحقيقة قوّة الشيطان، بقوله: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء/ 76). وقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر/ 42). وقد حذّرنا من ألاعيبه وأساليبه ومؤامراته في أكثر من موضع لنتنبّه ونحذر. ومن بين موانع الاختيار (البيئة الفاسدة) التي يولد الإنسان وينمو ويترعرع، فكيف يكون مختاراً وقد فتح عينيه في محيط غارق في الشّرور والمفاسد؟ الجواب: لقد أثبت القرآن الكريم أنّ الإنسان يمكن أن يعلو على بيئته ولا تعلو عليه، فضرب لنا مثلاً بـ(يوسف) (ع) وبـ(مؤمن آل فرعون) وبـ(آسية بنت مزاحم) وبالمؤمنين الذين عاشوا في الأوساط المنحرفة ولم ينحرفوا. ثمّ أنّ الله سبحانه لا يُعذِّب إنساناً حتى يبعث إليه رسولاً: سواء كان هذا الرسول من الخارج (نبيّاً أو داعية إلى الله)، أو رسولاً من الداخل (العقل)، فالذي يعيش في (أدغال أفريقيا) أو (مجاهل سيبريا) ولم يجد نبيّاً مُرسَلاً ولا داعية بالحقّ، فإنّ رسوله الباطن حجّة عليه، لقد وهبه الله عقلاً يهديه لمعرفته، وفطرة تهديه لمعرفة الخطأ والصواب، وفي كلّ الأحوال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286). أخيراً، فإنّ (الغفلة) وعدم التنبّه تعتبر مانعاً من الاختيار أيضاً، فإذا ذهب العقل (وليس بالسكر وحده يذهب العقل) استشرت الغفلة وراحت تختار اللّهو والزّهو والبطر والطغيان والإستغراق في الرّذائل والشهوات، فهي كما في القول الشهير (غاب القطّ إلعب يا فأر)! بقيَ أن نتساءل – كما وعدنا – ماذا يعني أن يختار الله لي وقد جعلني مختاراً؟! إنّنا إذ نعجز عن أن نطال (الخير) أحياناً، ندعو الله ونتضرّع بين يديه أن يمنحنا ما نتصوّره خيراً بحسب حساباتنا الدنيوية للخيريّة، وننسى أنّ الله تعالى أرحم بنا من أنفسنا، فهو قد يمنع ومنعه خير أيضاً لحكمةٍ بالغةٍ لا نعلمها، ولكنّنا – بموجب معرفتنا بحكمته – نقرّ ونعترف ونؤمن أنّه إذا أعطى فعن حكمة وإذا منع فعن حكمة. الإمام علي بن الحسين (ع) صاغَ وبلورَ هذه الفكرة في بعض أدعيته بلورةً جميلة، حيث يقول على لسان كلّ منّا: "فإن أبطأ عنِّي (جواب مسألتي) عتبتُ بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عنِّي هو خيرٌ لي لعلمكَ بعاقبةِ الأمور"! وعبّر عنها الإمام جعفر الصادق (ع) بتقريبها على نحو الافتراض، فقال لرجلٍ قد اسودّ وجهه من ولادة بنت له، وهو يكره الأنثى: لو أنّ الله تعالى قال لك: تختار أم أختار لك، فماذا تقول له؟ قال: أقول له بل اختر لي يا ربّ! فقال الإمام الصادق (ع): وها هو قد جعل (أي اختار لك البنت والخيرُ فيما اختاره الله).   اختيار الأحسن: إختيار الأحسن في شؤون الحياة كلّها، أدب من الله نتأدّب به، وخلق عظيم من أخلاقه نتخلّق به، حتى عدّه البعض شعاراً للمسلم أينما كان، فكيف علّمنا المُربِّي الأوّل وهو الله سبحانه وتعالى الذي أتقن وأحسن صنع كل شيء، أن نختار الأحسن؟   1- العمل الأحسن: قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (هود/ 7). في تفسير الآية عن الإمام الصادق (ع): "ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة (خشية الله) و(النيّة الصادقة)". ثمّ قال: "الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدكَ عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ". أي: اختر أحسن الأعمال وأصوبها.   2- إتِّباع الأحسن: قال عزّ وجلّ: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الزمر/ 55). أحسن ما قاله المفسِّرون في معنى الآية: إنّ أوامر الله تعالى متعدِّدة ومختلفة، البعض منها (واجب)، والآخر (مستحبّ)، والآخر (مُباح)، والمُراد من (أحسن) هو اختيار الواجبات والمستحبّات.. أي: اختر أحسن العبادات.   3- التحيّة الأحسن: قال سبحانه: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) (النساء/ 86). المراد من التحية بالأحسن، هو أن نُعقِّب السلام بعبارات مثل (ورحمة الله) أو (ورحمة الله وبركاته). جاء في (الدر المنثور): إنّ شخصاً أتى النبي (ص)، وقال: السلام عليكم ورحمة الله. فأجابه (ص): وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه ثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال النبي (ص): وعليك. فلمّا سُئل عن السبب في هذا الجواب القصير. قال: "إنّ القرآن يقول: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا)، ولكنّه لم يُبقِ شيئاً"! أي: إختر أحسن التحية.   4- إتِّباع أحسن القول: قال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر/ 17-18). ورد عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية: "هو الرجل يسمع الحديث فيُحدِّث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص". أي أنّ من علامات اتِّباع القول الأحسن أو أحسن القول هو أن لا تضيف له من عندك شيئاً. بل تنقله بذاته وكما هو للآخرين.   5- إختر قول الأحسن: قال جلّ جلاله: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء/ 53). الأحسن: من حيث (المحتوى) و(البيان) ومن حيث التلازم بين مكارم الأ×لاق والأساليب الإنسانية.   6- المجادلة بالتي هي أحسن: قال عزّ وجلّ: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125). المجادلة بالأحسن: هي التي يحكمها الحقّ والعدل والصحة والأمانة والصِّدق، وتكون خالية من أيّة إهانة أو تحقير أو تكبّر أو مغالطة، وأن تحافظ على كلّ الأبعاد الإنسانية السليمة عند الحوار والتعايش والمناظرة.   7- الدّفع بالتي هي أحسن: وقال سبحانه: (لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34). إدفع الباطل بالحقِّ، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة، وقابِل الإساءة بالإحسان، فلا تردّ الإساءة بالإساءة والقُبح بالقُبح، لأنّ ذلك يؤدِّي إلى الانتقام ويقود إلى عناد المنحرفين، أمّا الدّفع بالتي هي أحسن فيزيل الأحقاد والعداوات ليترك مكانها للحبِّ والمودّة.   الاختيارات الخاطئة أغلب الاختيارات الخاطئة تقع تحت واحد أو أكثر من الأسباب التالية: 1- الاختيارات المتعجِّلة المُتسرعة، غير المدروسة بعناية، ففي العجلة الزلل، وفي التأنِّي يُنال الظّفر. 2- الاختيارات غير المُقارنة، الناقصة، فقد تدرس خياراً وتُركِّز عليه وتهمل الخيارات الأخرى، والحال أنّ دراسة جميع الخيارات قد يفتح لك باباً من الخير لم تكن بغير المقارنة لتحصل عليه. 3- الاختيارات التوكيليّة، فاعتماد اختيار الوكيل كلِّياً، يعني أنّك تعتمد ذوقه ومقاساته ومعايير اختياره التي قد تختلف عن معاييرك. نعم يمكن التوكيل، ولكن دراسة الاختيار والبتّ فيه تكون من قِبَلك أنت، فقد تقبل وقد ترفض. 4- الخيارات الواقعة تحت تأثير الدعاية، فقد تحسب أن مُمثِّل أو مُمثِّلة الإعلان زبون مثلك، اشترى وجرّب وجاء ليشهد بجودة البضاعة، وقد تعمد بعض شركات الدعاية إلى هذا الأسلوب الإيهامي، حيث تجلب زبائن وهميين (مُرتزقة) ليشهدوا أنّ البضاعة هي أحسن ما في السوق بناءً على تجربتهم، وربّما كانت بعض تلك الدعايات صحيحة، ولكنهاكثيراً ما تجعلك تلهث وراء استهلاك غير الضروري بتصويره ضرورياً، ولذلك يجب العمل بالمثل السائد: "قد يأخذك البعض إلى النهر، لكنّه لا يستطيع أن يُجبرك على شرب الماء". أو كما قال ذلك المُعلِّم الهندي لتلميذه وهو يعظه: "إنّ الطيور قد تُحلِّق فوق رأسكَ، لكنّها لا تستطيع أن تبني أعشاشها فيه"!! أمّا الذين يدورون على البيوت، حاملين حقائب البضائع، فليسوا كأصحاب الأسواق والمتاجر، فإذا غشّوكَ في بضاعةٍ فقد لا ترى لهم وجهاً بعدها، فلا تختر من الباعة المتجولين؛ لأنّه الخطأ الأوّل معهم هو الأخير. 5- الاختيارات التي تهمل الإستشارة بناءً أو اعتماداً على الدراسة الذاتية للإختيار، فحتى لو حقّقت نسبة 70% من القناعة في اختيارٍ ما، فلا تزهد في زيادتها ولو 5% أخرى باستشارة مَن تثق فيهم وبوعيهم وبدينهم وبرجاحة عقلهم وثراء تجربتهم في الحياة. 6- أخيراً، وليس آخراً، لا تختر بليلٍ، فاللّيل بظلمته وبأضوائه الخافتة خدّاع يخفي العيوب، ولذلك يُنصح الراغبون بالزواج أن يختاروا نهاراً ويتزوّجوا ليلاً، لأنّ ضوء النهار أكثر صراحة وكشفاً للمعايب والثغرات.   نماذج من الإختيارات العملية 1- إختيار شريك الحياة المُناسب: في وقت مبكِّر من عمر الإسلام، أكّد رسول الله (ص) على أهمّية الاختيار في الحياة الزوجية، سواء اختيار الرجل للمرأة أو المرأة للرجل، فقال في اختيار الرجل: "تخيّروا لنُطَفِكُم، فإنّ العِرْقَ دسّاس"(1)[5]، وفي موضع آخر: "تخيّروا لنُطفِكُم، فإنّ الخال أحد الضّجيعين"، وهذا ما يتداوله الناس من أنّ ثُلثي الولد على خاله. وسأله أحد الشبان: بِمَن أتزوّج يا رسول الله؟ فقال له: "عليك بذات الدِّين تَرِبَت يداك". وأمّا في اختيار الشابة أو المرأة لشريك حياتها، فقد وجّه (ص) الخطاب بضرورة الاختيار السليم في الفتاة وإلى وليّ أمرها، بالقول: "إذا جاءكُم مَن تَرضون دينهُ وخُلقه فزوِّجوه، ألا تفعلوا تكن فتنةٌ وفسادٌ كبير". فالشّرف الأساس في الاختيار، هو التقاء الإيمان بالإيمان والخلق النّبيل بالخلق النّبيل، وما عدا ذلك فتفاصيل، ولا نُقلِّل من قيمة أو شأن التفاصيل، لكنّا في صدد الإشارة إلى (الشّرط الأساس) في اختيار الزّوجين. يُحكى أنّ شخصاً مسلماً استشارَ شخصاً مجوسيّاً في زواج ابنته من جارٍ له، فقال المجوسيّ: رئيس الفُرس (كسرى) كان يختار (المال)، ورئيس الرّوم (قيصر) كان يختار (الجمال)، و(رئيس العرب) كان يختار (الحسب)، ورئيسكم (محمّد) كان يختار (الدِّين)، فانظر لنفسّك بِمَنْ تقتدي؟ فيقول الشاعر: لا تخطبنّ سوى كريمةِ مَعْشَرٍ **** فالعِرْقُ دسّاسٌ مِنَ الطرفَينِ!!   2- إختيار الصديق المُناسب: لم نجد تفصيلاً روائياً في علاقة حيويّة – بعد الزواج – كما في اختيار الصديق المناسب، فلقد أشبعت الروايات هذا الاختيار شرحاً وتوضيحاً، ولكنّنا نضع أو ننتقي الشروط الأساسية لاختيار الصديق الصالح، فصلاح الإنسان كثيراً ما يرجع إلى صلاح صديقه وفساده كثيراً ما يرجع إلى فساد صديقه، ولذلك دعا النبي (ص) إلى ضرورة تحرِّي الدِّقّة في اختيار الصديق بقوله: "أخوك دينك، فاحتط لدينك". قال (ص): "المرء على دينِ خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالِل". وكما وعظ القرآن بضرورة اختيار الطيِّب للطيِّبة شريكة للحياة، ونهى عن اختيار الطيِّب للخبيثة، فكذلك تستوي الضرورة هنا في اختيار الصديق لمثله. ولقد عبّر الإمام علي (ع) عن ذلك، فقال: "لا يصحب الأبرار إلا نُظراؤهم". وقال في نصيحة عمليّة: "قارِنْ (أي صاحِب) أهل الخير تكن منهم، وبايِن (فارِق) أهل الشر تبل (تختلف) عنهم". وإليك أيضاً بعض ما يُعينك في الاختيار السليم للصّديق الحميم: 1- يقول الإمام الصادق (ع): "لا تُسَمِّ الرجل صديقاً سمة معرفة حتى تختبره بثلاث: تُغضبه فتنظر غضبه يُخرِجه من الحقِّ إلى الباطل، وعند الدِّينار والدِّرهم، وحتى تُسافر معه". لأنّ الغضب كاشِف عن السريرة، ولذلك قال الشاعر: "اغضب صديقك تستطلع سريرته". وأمّا الدِّينار والدرهم، فمعرفتك واختيارك له عند الضِّيق والحاجة: يعينك أم يخذلك، وعند السفر؛ لأنّ السفر إنما سُمِّي سفراً لأنّه يُسفِر عن رأي يكشف القناع عن الأخلاق والسيرة والطِّباع. 2- ويقول (ع): "إصحَب مَن تتزيّن به، ولا تَصحَبْ مَن يتزيّن بكَ". والمراد: إصحب مَن مصاحبته زينة لك وله، ولا تصحب مَن يتزيّن بك ولا تتزيّن به، ولا يكون ذلك إلا بين المؤمنين وأصحاب الأخلاق الكريمة، ولذلك كان الإمام علي (ع) يقول: "مَن دعاكَ إلى الدّار الباقية، وأعانكَ على العملِ لها، فهو الصّديق الشّفيق"! وطالما أنّ الحديث عن الصديق المناسب، تجدر الإشارة إلى (المستشار المناسب)، لأنّك تحتاجه في حسم خياراتك وترشيدها وتأكيدها، ولأنّك إذا استشرتَ ونجحتَ امتُدحتَ في فعلك، وإذا استشرتَ وأخطأت عُذِرْتَ في خطأك: أمّا مَن تنبغي مشاورته، فهذه نصائح أهل العلم والعمل، فانظر فيها: 1- قال رسول الله (ص): "استرشدوا (العاقل) ولا تعصوه فتندموا". 2- وقال الإمام علي (ع): "مَن شاوَرَ ذوي الألبابِ (العُقلاء) دُلَّ على الصواب". 3- وقال (ع) أيضاً: "شاوِرْ في أمورك (الذين يخشونَ الله) ترشد". 4- وعنه (ع) كذلك: "أفضل مَن شاوَرْتَ (ذو التجارب)". من ذلك نخلص إلى أن أصول الإختيار في المشاورة: (العقل) و(الدِّين) و(التجربة).   3- إختيار الموقف المُناسب: راجع أوّلاً الأسئلة التي تطرحها على نفسك عند أيّ اختيار لتتأكّد بأنّ اختيارك سليم، وأنك تقف الموقف الصحيح. والموقف من أيّ اختيار لا يتعدّى الحالات التالية: 1- الخيار الإيجابي الذي تأكّدتَ إيجابيّته، من الطبيعي أن يكون الموقف منه إيجابيّاً. 2- الخيار السلبي الذي يُمثِّل إملاءً أو ضغطاً خارجيّاً، أو إساءةً إلى كرامتك وسُمعتك ودينك، فالقول (لا) فيه، هو الموقف. 3- إختيار الممكن، فحينما تتعذّر الاختيارات الأخرى، ويتعقّد سبيل الوصول إلى الخيار الأفضل، يكون اختيار الممكن هو الموقف: (تذكّر صاحب الشروط الأربعين للزواج). وبمعنى آخر: خُذْ وطالِبْ.. وكَنْ لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، وكما تقول النصيحة العمليّة: إغبل بالعمل الذي يقبل بك إلى أن تحصل على العمل الذي تقبل به. 4- إختيار الإمهال: من حقِّك إذا عرض عليك خيارٌ ما أن تستوفي وقتك الكافي لدراسته حتى لا تتعجّل الموافقة فتندم، قُل للمُقتَرِح أو العارِض: أمهلني بعض الوقت حتى أفكِّر، هذا يعطيك الوقت أن تدرس الاقتراح أو العَرْض أو المشروع من قِبَلَك شخصيّاً، كما يعطيك الفرصة في مشاورة مَن تثقُ بهم في الأمر. 5- إختيار التأجيل: حينما ترى أنّ الوقت أو الظّرف غير مناسب حاليّاً للبتّ في خيار عُرِضَ عليك، وهو يحتمل التأجيل إلى ما بعد مرور الأزمة وانتهاء الظّرف الاستثنائي، أطلب التأجيل وابق الباب مفتوحاً أو موارباً، فعسى أن يتغيّر الظّرف ويُتاح لك الأخذ بالخيار المطروح. 6- إختيار الانسحاب أو المُقاطعة: فقد تدرس خياراً طُرِحَ عليكَ وتقبله على ضوء دراستك الأوّليّة له، لكن بعض المُلابسات التي تطرأ ولم تكن ادخلتها في الحسبان، وهي تؤثِّر على صوابيّة وسلامة اختيارك، فإنّ الموقف هو الانسحاب في مرحلةٍ مُبكِّرة، إذا يأستَ من علاج الخَلَل وإصلاحه، لئلا يتعقّد الأمر لاحقاً، وقد قال العُقلاء: "اعبر النهر ما دامَ ضيِّقاً"!   4- إختيار المُرشّح المُناسب: بعد أن شاعت بعض الأساليب الديمقراطية في بلدان العالم الإسلامي، وأصبحت الانتخابات عُرفاً أو تقليداً مُتّبعاً في اختيار الرئيس ومُرشّحي البرلمان والمجالس البلدية، بل حتى في الدوائر الأضيق، كان لابدّ من مراعاة شروط اختيار المُرشّح المُؤهّل والتدقيق في سيرته ومتابعة مسيرته. إنّ العمليّة الانتخابية ليست تصويتاً فقط، بل هي عمليّة من ثلاث مراحل تكامليّة: أ- التدقيق والتأنِّي في دراسة المُرشّح، والسؤال عنه، وعن سيرته الذاتية وخلفيّته الثقافية والسياسية والعملية، وعدم الاكتفاء بالإستماع إلى خطاباته التحضيرية أو التمهيدية. ب- الانتخاب، بمعنى الإدلاء بالأصوات. ت- المُتابعة والمُساءلة، حتى لا يجد المُرشّح نفسه مُحصّناً بأصوات مُنتخبيه فيتسوّر بالشرعيّة، فلابد من نقد ادائه وتقييمه بين الحين والآخر. ولا نجد خبيراً إسلامياً في اختيار أفضل المُرشّحين كالإمام علي (ع) في عهده الشهير لـ(مالك الأشتر) حينما أراد توليته على مصر، حيث يمكن تلخيص شروطه في الاختيار بما يلي: أ- إنّ شرّ الوزراء (أسوأهم) مَن كان للأشرار سابق (الحكّام الظالمين) وزيراً؛ لأنّ المُعيِّن للظالم ظالمٌ مثله، أو شريك له في ظلم. ب- آثر المُرشّحين (أفضلهم) أقولهم بمرِّ الحقّ، أي لا يهاب في الله لومة لائم، يقول الحقّ ولو على نفسه. ت- إبحث عن أهل الصِّدق والوَرَع والمُروءة والسمعة الطيِّبة. ث- إبحث عن أهل السوابق الحسنة المشهودة (لهم تاريخ مُشرِّف) وأصحاب النجدة والشجاعة والسخاء والسّماحة. ج- استعمالهم اختباراً، أي يُوَلّون المناصب والأعمال بالامتحان، كما في البلدان المُتحضِّرة التي تُجري امتحاناً لقبول المُتقدِّم إلى وظيفةٍ ما. ح- لا تختر محاباة (ميلاً منك لشخص). خ- لا تختر بلا مشاورة، ولا تعتمد في الاختيار على فراستك (قوّة الظنّ والحدس). د- توخّ أهل التجربة ممّن له قِدَم (سابقة) في الإسلام. ذ- كُن عَيْناً مُراقبة لأدائهم وأمانتهم وإخلاصهم لشعاراتهم وبرامج عملهم ووعودهم الانتخابيّة.   5- إختيار الوقت المناسب: التوقيت المناسب نظام رباني نتعلّم من الله سبحانه وتعالى الذي جعل (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (الرعد/ 38)، والذي نظّم أوقات الصلاة، بقوله سبحانه: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النساء/ 103)، كما حدّد للصّوم شهراً معيّناً، وللحجِّ أيّاماً معلومات، وللمرأة المُطلّقة أو الأرملة عدّة تعتدّ بها.. وهكذا. فعلى سبيل المثال، إذا أردتَ أن تطرح موضوعاً ومُقترحاً مهمّاً على شخص يهمّك رأيه فيه فلا تطرحهُ عليه وهو منشغل بعمل، أو في وقت نومه، أو عند عودته من العمل مُتعباً، وعندما يكون على أهبة الخروج، فإنّه حتى إذا أعطاكَ رأياً فإنّ رأيه لن يكون الرأي المُناسب. وقد تلحّ على أمرٍ يحتاج إلى مقدّمات حتى يكتمل فتأكل ثمرته فجّة، يقول الإمام علي (ع): "المُتعجِّل الثمرة قبلَ وقت إيناعها، كالزّارع في غيرِ أرضِه". إنّ اختيار الوقت المناسب يعني: أ- إختيار الوقت الذي تكون فيه مُهيّأ لطرح المشروع بثقة عالية. ب- إختيار الوقت الذي يكون فيه الآخرون أكثر استعداداً للإستماع إليك وإبداء المشورة. ت- إختيار الوقت الذي تكون فيه ظروف العمل والإنتاج متيسِّرة.   - قبل الوداع: قبل أن نختم معك هذه الجولة في أصول الاختيار السليم، دعنا نضع بين يديك هذه المانشيتات العريضة، استكمالاً للفائدة: 1- صلاتك تذكير دائم بالإختيار السليم: ألم تقل كلّ يوم خمس مرّات: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6).. (خيار). (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).. (خيار). (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).. (خيار). (وَلا الظّالِّين).. (خيار).   2- أدعُ دائماً بهذا الدعاء الذي يعينك على الاختيار السليم: يقول الإمام زين العابدين (ع): "اللّهمّ... ووفِّقني إذا اشتكلت (بدت شكلاً واحداً) عليَّ الأمور لـ(هداها).. (خيار). وإذا تشابهت الأعمال لـ(أزكاها).. (خيار). وإذا تناقضت المِلَل لـ(أرضاها)".. (خيار).   3- إتّكل على الله في حُسنِ الإختيار: يقول الإمام الحسن بن علي (ع): "مَنِ اتّكلَ على حُسْنِ الإختيارِ من اللهِ لم يَتَمنَّ أنّه في غير الحال التي اختارَها الله"!   4- لو خُيِّرتُ كنتُ المهذّبا!! يقول (بشّار بن بُرد): خُلِقْتُ على ما فيَّ غيرَ مُخيّرٍ **** هوايَ، ولو خُيِّرتُ كنتُ المُهذّبا! أريد فلا أُعطى ولم أُرد **** ويقصرُ علمي أن أنالَ المُغيّبا!! نتمنّى أن يكون قوله: (ولو خُيِّرتُ كنتُ المُهذّبا)، قد لقيّ صدىً في نفسك كما يلقاه في أنفسنا.. فحتّى لو لم تكن (جنّة) ولا (نار): لو خُيِّرتُ كنتُ (المُهذّبا).. لو خُيِّرتُ كنتُ (الصّادق).. لو خُيِّرتُ كنتُ (الأمين).. لو خُيِّرتُ كنتُ (الصالح المُصلح).. لو خُيِّرتُ لاخترتُ (طاعة الرّحمن) على (طاعة الشيطان).. لو خُيِّرتُ.. لاتّخذتُ مع الرسول سَبيلاً.. لو خُيِّرتُ.. لكنتُ عبداً شكُوراً!  
........................................................ [1] العِقال: الشيء الذي تربط الدابة أو الحيوان حبلاً أو غيره لئلا تفلت ويصعب إرجاعها الى الحضيرة، وذلك قال النبي (ص) لِمن ترك ناقته خارج المسجد من غير عقل :"إعقلها (اربطها) وتوكل"! [2] (جُهينة) نسبة للقول الشائع: (وعند جُهينة الخبر اليقين) [3] (حَذام) طبقاً للمثل السائر: (إذا قالت حَذامِ فصدِّقوها) [4] الرّي: بلاد فارس [5] في الحديث إشارة الى مسألة الوراثة، فلقد ثبت علمياً أن بعض المورثات الجينية تنتقل من الآباء الى الأبناء. ولذلك حُذِّر من رضاعة الطفل من إمرأة حمقاء مثلاً، أو حٌذِّر من الزواج من السِّكيِّر. لما لذلك من تأثيرات سلبية على الجنين.

ارسال التعليق

Top