نبقى مع الإمام الحسين (عليه السلام) في الوجه الآخر للصورة، لأننا في المجالس الحسينية نحدّق في الإمام (عليه السلام) في صورة المأساة، ولنحاول أن نراه في صورة الإمام الداعية الواعظ المرشد الذي يحدِّد للناس المسار الصحيح ومسيرتهم الرشيدة، لأن القليل من الناس من يعرفون الحسين (عليه السلام) في كلماته الإرشادية والوعظية. ومن كلماته (عليه السلام)، ما نقله الإمام الباقر (عليه السلام) عن أبيه قال: «لمّا حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره ثمّ قال: يا بنيّ، أوصيك بما أوصاني به أبي _ الحسين بن علي _ حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه (عليه السلام) أوصاه به: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مراً»، وفي كلمة أخرى له، قال فيها: «اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحق، واصبر عما تحب في ما يدعوك إليه الهوى».
يريد الإمام (عليه السلام) في هاتين الكلمتين، أن يؤكد على موقف الإنسان في حياته، سواء كان ذلك في حياته الذاتية الفردية مع نفسه، أو في موقفه مع ربه، أو في موقفه مع كل الناس، فالقضية لا تختصر بما يعيشه الإنسان من مشاعر اللذة أو الألم، بحيث يُقبل على ما يلتذّ به، ويتجنّب ما يؤلمه، بل أن يعمل على أن يكون موقفه هو الموقف الذي يحقّق له الثبات والاستقرار والنجاح في المستقبل، باعتبار أنَّ بدايات اللذّة قد تغري الإنسان، ولكن نهايتها قد تكون مكلفة ومتعبة ومميتة، فربما يحس الإنسان بلذة شيءٍ فيأخذ به، ولكن ما إن تتفاعل عناصر هذه اللذة في موقعها، حتى تخلق له ما يفقده حلاوتها، ويفقده الكثير من ذاتيته، وهناك مثل يقول: «رب أكلة منعت أكلات»، وهناك مثل آخر يقول: «السمّ في الدسم».
لهذا، لا بد للإنسان من أن يفحص كلَّ ما يأكله، وكل ما يعمله، لأن العناصر السلبية قد تكون خفية، بحيث لا يشعر الإنسان بها. وهكذا حدّثنا الإمام الحسين (عليه السلام) عندما شبَّه إقدام الناس على الدنيا واستغراقهم في ملذاتها على حساب مبادئهم بالعسل، لأن الإنسان عندما يضع العسل على لسانه، فإن لسانه يبقى يتحرك ما دام العسل موجوداً عليه، وإذا ما استهلك، فإنه يفقد الإحساس بأي شيء. وبذلك يقول (عليه السلام): «الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم _ أي إن بعض الناس يتعلقون بالدين ما دام منسجماً مع أطماعهم ولذَّاتهم، ولكن عندما يخضعون للتجربة التي يقفون من خلالها بين الحق والباطل، بين الدين والدنيا، كما وقف الحرّ بين الجنة والنار _ فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون _ فإنهم يسقطون، لذلك يقول الإمام (عليه السلام): «اصبر على الحق»، قد يكون الحق صعباً، لكن نتائجه على مستوى الدنيا والآخرة قد تكون عظيمة جداً.
وفي الحديث الآخر: «اصبر على ما تكره في ما يلزمك الحق»، فالحق يترتّب عليه مسؤوليات كبيرة قد تفرض على الإنسان الخسارة المادية في الدنيا، ولكن النتائج سوف تكون لصالحه عندما يواجه الربح الكبير في رضوان الله. «واصبر عمّا تحبّ في ما يدعوك إليه الهوى». فهوى النفس ربّما يدعو الإنسان إلى معصية الله، فيحصل على اللذة والشهوة، ولكن النتائج لا شك سوف تكون ألماً وشقاءً.
فالإمام الحسين (عليه السلام) كانت رسالته إلى النّاس أن يكونوا مع الحقّ حتى لو كان الحقُّ مراً، والحق كلمةٌ تتحرَّك في جميع الاتّجاهات، فالحقّ في العقيدة هو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، والحق في الشريعة هو ما شرَّعه الله ورسوله، والحق في السياسة هو ما تحرك من أجل العدل، والحق في المجتمع هو ما تحرك في أداء حقوق المجتمع في علاقاته، وفي الوحدة وفي المحبة... وهكذا يجب على الإنسان أن يجعل كل حياته تتحرك على أساس الحق لا على أساس الباطل.
الصبر عن المعصية
في كلمةٍ أخرى له (عليه السلام) عندما جاءه رجل وقال له: «أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية _ عندما تتهيَّأ ظروف المعصية أندفع إليها، سواء كان ذلك في القضايا الجنسية أو في القضايا المالية أو في القضايا الاجتماعية أو ما إلى ذلك _ فعظني بموعظة، فقال (عليه السلام): إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت، فأول ذلك لا تأكل رزق الله وأذنب ما شئت، والثاني اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت، والثالث اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت، والرابع إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت».
كأنه يقول له إنك تأكل رزق الله، وتعيش في سلطانه، وأنت بعين الله في كل مكان، والله هو الذي يملك حياتك وموتك، والله هو الذي يملك عقابك ومثوبتك، فكيف تعصي الله؟! وقد وعظه بطريقةٍ عرّفه من خلالها ما هو عمق المعصية، إذ كيف يعصي الله الذي هو سر وجوده في البداية، وسر وجوده في النهاية، وسر كل حياته؟!.
المعروف دوماً
وقال رجلٌ: «إنَّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع»، أي إنّ على الإنسان أن يؤدي المعروف إلى من يستحقّه، أما الشخص الذي لا يستحقّه، فلا ينبغي فعل المعروف معه لأنه يضيّعه، فأجابه الحسين (عليه السلام): «ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البر والفاجر»، وذلك أنك عندما تعيش الأخلاق التي تؤمن بها، وهي تمثِّل القيم التي تحكم حياتك، فإنّ عليك أن تكون في أخلاقيتك وقيمك كالمطر، ينـزل على الأرض الجدباء والخصبة، وكذلك فإنَّ المعروف ينـزل على الإنسان الذي يعصي الله ويكفر به، وينـزل على الإنسان الذي يطيع الله ويؤمن به. فكن كالنبع، كن كالشمس، كن كالمطر، حتى تندفع الأخلاقية والخير من نفسك للناس كافة، تماماً كما ينطلق الينبوع. ليكن الخير نبعاً في قلبك، ولا تحسب حساب الربح والخسارة في هذا المجال، وهذه قمَّة الإنسانية التي يؤكِّدها الإسلام في تربية الإنسان.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق