قال الله سبحانه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30).
كرَّمَ الله الكائن البشري بمركز متميّز عن باقي المخلوقات الكونية وشرَّفَه بالخلافة على الأرض، ومنحه القيمة الإنسانية، والتي هي أساس البقاء البشري، بعيداً عن نوازع الغرائز الحيوانية الفتاكة، والتي لا تعرف من واقعها غير إشباع ميولها القاتلة، وإخماد حسها التسلطي الجامح. ولما كان هذا الكائن البشري هو المختار من بين مخلوقاته للخلافة التي توفر العدالة، والسعادة، والأمن لبني الإنسان فلابدّ أن يضفي على هذا المثل شيئاً من صفاته، ومنها الإنسانية التي تمثِّل الكمال من الخير، والرحمة، والمحبّة، ومن هنا نعرف معنى قول رسول الإنسانية محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق». وبالأخلاق يسود الإنسان، ويعمر المجتمع، وتسعد الأُمّة، ويصلح الحال، نظراً لكون مفهوم الأخلاق أوسع من أن يحد.
إنّ الدِّين دستور الله سبحانه للإنسان في كلّ مجالات حياته الخاصّة والعامّة، فليس من اللُّطف الإلهيّ أن يخلق هذا الكائن ولا يضع له منهاجاً لحياته، وبناء مجتمعه. والدِّين حيث يكون رسالة سماوية، طبيعي أن يتضمن كلّ أغراض البناء الإنساني، ليربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان، وحبّ الذات المتركز في فطرته.
فإنّ الدِّين يوحِّد بين المقياس الفطري للعمل وللحياة، وهو حبّ الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يُقام للعمل والحياة ليضمن السعادة والرفاه والعدالة. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «جعلَ اللهُ سبحانه مكارم الأخلاق صلة بينه وبين عباده. فحسب أحدكم أن يتمسّك بخلق متصل بالله». وهذا الدِّين الذي يستطيع أن يوحِّد بين المقياسين، الفطري والعملي، لابدّ له من مبلِّغ ورسول يعي هذه الحقيقة الأساسية في الحياة، ويعمل من أجل التوفيق بين ذاتية الإنسان والقيم، أو الدوافع الاجتماعية. كما لم يتأثر بالمصالح الشخصية، أو العاطفية، أو المشاعر التي تدفع به إلى الانسياب وراءها بحيث تسبّب له الانحراف عن المهمّة التي بعث إليها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الأحزاب/ 45).
ولاشكّ أنّ الخلافة التي أشار إليها الله سبحانه في الآية الكريمة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً...) لم يقصر حصر الخلافة على شخص آدم (عليه السلام)، بل لكلّ خليفة يختاره الله، من الجنس البشري كلّه، كما لم تقتصر على فئة دون فئة، إنّما الامتداد التاريخي للبشرية جمعاء، بداية من خليقتها إلى هذه الدُّنيا، وهذا الإنسان هو المُكلَّف برعاية الكون، وتدبير أمر مجتمعه والسير به في الطريق المرسوم له من الله. والإسلام هو خاتم الديانات، وقد اختاره الله سبحانه لعباده، جعل فيه قابلية الديمومة والاستمرارية للحياة، منسجماً مع تطوّرها المعقول وحاملاً كلّ مقومات الإنسانية التي هي أساس الدِّين، والتي ترمي إلى رعاية الفرد، والجماعات، وبناء المجتمع الإنساني وفق المقياس الخلقي، الذي يتحلّى برضا الله سبحانه ليوجّه الناس إلى الحقّ، والعدل، والكرامة، والخير، وإبعاد النزعة الذاتية والمصالح الشخصية من القاعدة المركزية للتشريع، ولذا يفسّر الإسلام على أنّه عقيدة: معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية يرسم لها شوطها الواضح المحدود، ويضع لها هدفاً أعلى من ذلك الشوط، ويعرِّفها على مكاسبها منه. وفي هذا الضوء المشرق دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام، ومن هذا المنطلق الإنساني أقام دولة حضارية عالمية، رسمت خطّ الحياة ونظامه.
لا يمكن لله سبحانه أن يحاسب أحداً وهو لم يهيئ له مقومات الإدراك، والتفكّر في هذه الحقيقة، لأنّها تصطدم مع طبيعة اللُّطف الإلهيّ: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام/ 12). وحين يكون الإنسان واعياً لهذه الحقيقة، مدركاً بإيمانه بالله لواقعية العدل التي هي إحدى صفاته الأساسية، حينذاك يمكن أن يبني نفسه نحو إنسانيته الأصلية التي تجرده من نزعاته الخارجية، وتصقله نحو التكامل لأنّ الله يريد له الكمال، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل/ 118).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق