• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التحابب في الله جلّ جلاله

التحابب في الله جلّ جلاله

حبّ الشيء أو الشخص ينبسط وينسحب على ارتباطاته ومتعلقاته وتفريعاته، فحبّك لإخوانك المؤمنين نتيجة طبيعية لحبّك الله تعالى وحبّك لرسول الله (ص) ولسائر الأنبياء والأولياء الصالحين، فالحبّ لا يتجزّأ، هو وحدة واحدة ونسيج متكامل، أي أنه يشرب أو يستقي من منبع واحد، تماماً كما هي الأشجار شرابها وغذاؤها واحد؛ لكن نتاجها ومحصولها متعدد.

كان النبي (ص)، وهو حبيب الله، يقول في بعض دعائه: "أللّهمّ ارزقني حبّك، وحبّ مَن يحبّك، وحبّ كلِّ عملٍ يُقرِّبني إليك".

فالحب لله وفي الله كلٌّ متكاملٌ، إذ لا يمكن أن أحبّ الله ولا أحبّ رسوله، أو أحبّ رسوله ولا أحبّ أهل بيته (ع)، والنبي (ص) نفسه يُعلِّمني أصلاً من أُصول الحب، إذ يقول كما يُحدِّثنا الله عن ذلك: (قُل لا أسألَكُم عليهِ أجراً إلّا المودّة في القُربى) (الشورى/ 23).

ولا يستقيم حبّ هؤلاء جميعاً في قلبِ مؤمنٍ لا يكنّ لإخوته في الله حبّاً عظيماً. ففي (حديث المعراج): "يا محمد، وجبت محبّتي للمُتحابّين فيَّ، ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيَّ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيَّ، ووجبت محبّتي للمتوكِّلين عليَّ، وليست لمحبّتي عَلَمٌ ولا غايةٌ ولا نهاية، وكلّما رفعتُ لهم عَلَماً وضعتُ لهم عَلَماً".

كما لا يستقيم حبٌّ إلهي في قلب مؤمنٍ يوادد مَن حادّ الله ورسوله والمؤمنين، لأنّ الله تعالى ما جعل لرجلٍ من قلبين في جوفه، بحيث يحبّ الله ويحبّ أعداء الله ويداهنهم في نفس الوقت.. فهذا ليس من سقم المودّة وفساد الحب، بل هو من عمى البصيرة وفقدان البوصلة.

أمّا مَن هم المتحابّون في الله، العاملون على الاستزادة من حبِّه، فهاهو النبيّ (ص) يُعرِّفنا بهم، فيقول: "ودُّ المؤمنُ للمؤمنِ في اللهِ من أعظمِ شُعَبِ الإيمان، ألا ومَن أحبَّ في اللهِ، وأبغضَ في الله، وأعطى في اللهِ، ومَنَعَ في الله، فهو من أصفياء الله"!

فأن تحبّ في الله الأصناف الخيِّرة المُحبّة لله من الشاكرين والمحسنين والصابرين والعاملين والتائبين، فهذا بحدِّ ذاته عامل من عوامل حبّك له وحبّه لك، مما يتضح معه أنّ حبّ الله ليس تهويمات صوفية يهيم فيها العارفُ أو السالكُ في صومعةٍ بعيداً عن الاتصال بدائرة أو أسرة المحبّين لله، العاملين في سبيله، الشادِّين بعضهم أزر بعض، المتعاونين على البرِّ والتقوى، المتناصرين إذا أصابهم البغي، الذين يعطون في الله، ويمنعون في الله، فحبّ الله في قلوب هؤلاء يفيض لطفاً ورأفةً ومحبةً وإغاثةً وإصلاحاً لعباد الله، إخوتنا في الإنسانية حتى ولو لم يكونوا إخوتنا في الدين، وأمّا هؤلاء فلهم حقان بدلاً من حقٍّ واحد.

إنّ المعيار في حبّ الآخرين هو حبّهم لله، فبمقدار ما يكون الآخر قريباً من الله، محبّاً له، مخلصاً له، مستحياً منه، راجياً له، خائفاً منه، عاملاً من عُمّاله وجندياً من جنوده، فهو أخي في الله وإن لم تلدُه أُمِّي، وهو يحمل همومي واهتماماتي وإن اختلفنا لغةً وجغرافيةً وأعراقاً، فلقد وحَّدنا الحبّ الإلهيّ تحت رايته أو مظلّته فأصبحنا بنعمته إخواناً.

ولقد عُدّ الحبُّ في الله من أعظم شُعب الإيمان، لأنّه الأساس المتين الذي تُشاد عليه أركان المجتمع الاسلامي، والذي به يمكن مواجهة التحديات التي يتعرّض لها المسلمون، وبه يمكن بناء أو صناعة الجنّة الأرضية التي تُمهِّد لمجتمع الجنّة الأكبر، فلا غرابة أن يدخل المتحابون في الله إلى الجنّة بغير حساب.

ففي القيامة يُنادي المُنادي: "أين المتحابون في الله؟ فيقوم عنق (جماعة) من الناس، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب! فيعترضهم بعض الملائكة ممن لم يسمعوا بالحكم، فيقولون لهم: إلى أين؟ يقولون: إلى الجنّة بغير حساب! فيقال لهم: ما كان عملكم في الدنيا؟ فيقولون: كنّا نُحِبّ في اللهِ ونُبغِضُ في الله. فيقال لهم: ادخلوها بسلامٍ آمنين".

ووردَ أنّ من بين مَن يظلّهم الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه "رجُلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه".

ارسال التعليق

Top