إنّ التربية موضوع واسع لا يرتبط بحياتنا الشخصية فقط، بل بالأفراح والآلام الجماعية للإنسان أيضاً. والتربية الصحيحة قد تقود إلى الفرح وتوسيع مدارك الطفل وانفتاحه على الحياة، لكنّها قد تقوده أيضاً إذا ما تمت بطريقة خاطئة إلى تقلص إمكانياته، وإلى المرض والإخفاق في حياته.
وثمّة اتجاه يذهب إلى القاء التبعة على المربّين المباشرين، ومثل هذا الاتجاه يوصف بأنّه ضيق. فالتربية سلسلة غير محدودة ولكلّ مُرَبٍّ حصيلةُ تربيته، وهذه المحصلة هي مآل تربيات سابقة، وهكذا بشكل متواتر، الأمر الذي يعطي أحياناً نتيجة مأساوية. لذلك ينبغي للمرء أن ينظر إلى المشكلة بعقلية تتصف بالشمول، واسعة قدر الإمكان، لا من خلال ثقب ضيق يلائمني (أنا) أو يلائمك (أنت). ينبغي علينا الانطلاق من رؤية إنسانية عامّة، ثمّ الانتقال إلى الذات.
تربية الأخرين تبدأ من تربية ذاتك:
لا يوجد أي استثناء لهذه القاعدة. إنّها قانون لا يعرف الرحمة. فماذا تقول عن طبيب يداوي الجسم وهو لا يعرفه؟ أو كاهن يعظ الناس وقلبه زاخر بالعداوة؟ ستقول عنهما أنّهما في المكان الغير مناسب لهما. وكذلك التربية ليس بوسع أي شخص أن يصبح مربّياً في فترة قصيرة من الزمن.
حيث أنّ دور كلّ مربّي يجب أوّلاً أن يقوده إلى معرفة ذاته، وإلى تحقيق التوازن ومعرفة الحقيقة، وعليه أن يوسع استعداداته النفسية، ومن أجل تحقيق هذا عليه أوّلاً أن يكون هو ذاته، ثمّ يصل إلى الحكمة والتوازن. فكيف بمقدوره أن يشير إلى الشمس إذا كان يجهل وجودها؟ فإذا لم يكن المربّي يملك هذه الحكمة وهذا التوازن، عليه أن يعرفهما بوضوح، وألّا يتظاهر بما ليس فيه. وسيكون ذلك بداية الطريق لتربيته الخاصّة ولتربية عقله.
وليس في وسع الإنسان إلّا أن ينقل ما في حوزته من التربية. وهو أمر آلي. لذلك من الضروري أن يبحث الإنسان في ذاته عن معنى للحياة، وذلك ما يدفعه إلى معرفة ذاته، وبديهياً سيرى الأُمور عبر ذاته، وعليه يجب أن تكون هذه الذات شبيهة بزجاج نقي، لا بزجاج معتم يحول دون نفاذ أشعة النور. وإلّا فإنّنا نطلب من الطفل أن يصبح ما نريد أن يكون، لا ما هو عليه.
تربيتنا تتقدّم على تربية طفلنا:
تجمّد كثير من الناس في نمط حياتهم وتفكيرهم. وذلك ما هو إلّا نتيجة آلاف التربيات الناقصة أو الفاشلة. فكلّ يوم بالنسبة لكثير من الناس ليس سوى تكرار آلي لليوم الذي يسبقه، وذلك لأنّهم تلقوا تربيتهم بهذا الشكل من ناحية، ومن ناحية أُخرى لأنّ آلاف التبلّرات قد تصلبت على انحرافاتهم وضروب كبتهم وعُقدهم، وحياتهم بذلك قائمة على تراكمات نفسية وشعارات صدئة ربّما تمنحهم ظاهراً من الأمن، لكنّهم يطبقونها للأسف على أطفالهم. وقد يكون من المخيف أحياناً أن ننصت إلى بعض التوجيهات التي يعطيها بعض الآباء لأطفالهم، ويقولون إنّ ذلك إنّما من تجاربهم وحكمتهم.
وقد تجد مع ذلك أُناس بإمكانهم أن يكونوا ذوي وضوح وذكاء، ولكن ما أن يبلغوا سن النضوج حتى يحسبوا أنّ حياتهم قد تمت وأنّ طبعهم قد اكتمل، وأصبحت الجملة الملازمة لهم (لا وقت لدينا). إنّهم لم يكرّسوا عشر دقائق من الزمن يومياً كي يحاسبوا أنفُسهم ويعملوا على تطويرها. كلّ ذلك حقيقة.
إنّ الطفل يتصف بفضول حديث العهد، وذهن مفتوح إلى الأشياء كافة. ولابدّ من تربيته بأن نحافظ على أكبر انفتاح ممكن لذهنه. فالطفل على استعداد أن يحبّ ويفهم ويعانق كلّ شيء. فمن جهة يوجد المربّي المتحجّر الذي لا يحسن الفهم ويرفض قبول أي آفاق غير التي تلائمه، وتوقّف عن التطوّر، ومن جهة ثانية فهو أمام طفل لا يطلب غير النمو. فكيف يمكن له أن يُعَلّم الحياة إذا كان ميتاً من الناحية العقلية؟
لماذا تريد إنجاب طفل؟ أو لماذا أنجبته؟
لابدّ قبل تربية الطفل إيجاده أو إنجابه. فالمقصود إذاً خلق حياة قَدَرُهَا أن تفكّر، وتشعر، وتتألم، وتضحك، وأن تكون واعية. وذلك أمر خطير جدّاً، وهو من أخطر الأعمال إطلاقاً. وعندما تم سؤال بعض الأشخاص لماذا ترغب أن يكون لك طفل؟ كانت الإجابات كالتالي:
إنّها الحياة، ألا توافق؟
لأنّني أحبّ الأطفال.
زوجي لا يريد أطفالاً، ولكنّني أنا أُريد.
لي ثلاث بنات، ولكنّني أُريد صبياً.
لا أدري.
حتى يستمر اسم العائلة.
كنت أفضّل أن أنتظر، ولكن بما أنّه موجود...
حتى أوطّد زواجي الغير متين.
زوجتي أرادت طفلاً.
امرأة دون طفل ليست امرأة. وعلى أي الأحوال فالمشكلة غير موجودة عندما يوجد الحبّ الحقيقي.
لقد كان ذلك تكريساً لحبّنا، لابدّ للطفل الذي يولد في جوّ من الحبّ من أن يكون سعيداً.
لأنّني قدّرت وبكامل وعيي، أنّني في كامل صحّتي وأنّني متوازنة إلى حدٍّ كبير. آمل أن أكون قد وضعت في هذه الدُّنيا موجوداً سيكون مسروراً وسينشر الخير من حوله.
إنّ الإجابات الثلاثة الأخيرة هي الوحيدة الجيِّدة في ذاتها. أمّا بالنسبة إلى تلك الإجابات الأُخرى فهي ليست إجابات صادرة عن أنانية، إنّما عن ضرب من عدم الوعي الشامل تقريباً. وهؤلاء الأشخاص سيصبحون رسمياً (مُرَبّين) ولكن ماذا يُرَبّون؟ ماهي وسيلتهم؟ ماهي معلوماتهم؟ وبأي وضوح؟ وبأي حبّ على وجه الخصوص؟؟
التربية غالباً ضرب من التضييق:
التربية ضرب من التضييق على الأغلب لأنّ الغالبية العظمى من المربّين، آباء وأساتذة وأخلاقيين وفلاسفة.. إلخ، ضيِّقون عقلياً. إنّهم ضيِّقون فكرياً منذ أن تصبح آراؤهم نهائية وتستبعد الآراء الأُخرى الممكنة استبعاداً آلياً. فمجرد كون الإنسان ينتمي إلى جنسية معيّنة، أو إلى عرق معيّن، أو إلى طبقة اجتماعية معيّنة، يفرض سابقاً ضروباً من الأحكام المسبقة يصعب التخلّص منها.
لكن من الضروري أن ننبذ هذه الأحكام المسبقة إذا كان لدينا الرغبة في أن تبلغ مَلكَات الطفل الكمال، وأن يحصل على مفهوم مقبول عن التربية. فملايين الناس يدورون حول عقدهم، وكبتهم، ومخاوفهم، وآرائهم.. إلخ. فتتكوّن بصورة آلية أفكار جاهزة، وعادات لا شعورية، وهذا أمر بديهي. وكلّ ذلك يشكّل أغلالاً تخنق الإمكانيات العقلية.
إنّ التربية تختلف كلّ الاختلاف عن هذا. فهي يجب أن تحرر الفكر بدلاً من أن تحتجزه في ضروب من التضييق والأفكار الجاهزة والمعتقدات، ويجب أن تهدف إلى كمال المَلكَات واتّساعها، وأن تمنع الأحكام المسبقة والشعارات الداخلية والمخاوف. لذلك يجب أن نُكرّس الوقت ليعرف الطفل عن نفسه، بدلاً من أن نفرض عليه كمية هائلة من المعارف. فواجبنا أن نساعده على أن (يكون شيئاً ما) بدلاً من أن نسوقه إلى أن (يصبح شخصية هامّة).
عندما يعود الراشدون إلى المدرسة:
عودة الراشد إلى المدرسة إنّما معناها إدراك الراشد لجهله، ومعرفته أنّه يمتلك بعض المفاهيم الخاطئة، أو مفاهيم ناقصة أو باطلة. والتربية بالطبع هي جزئياً معارف خارجية. لكنّها يجب أن ترتكز قبل كلّ شيء، على معرفة وحكمة داخليتين. لذلك فإنّ المفاهيم التي تنشأ عن حالة داخلية سيّئة ستكون خاطئة حتماً وتلك هي حقيقة أوّلية. لكنّ الكثير من الناس يرفضون رؤية الحقائق الأوّلية لأنّهم يخشونها. كم مرّة نسمع الناس يرددون: (إنّني أعلم جيِّداً كيف ينبغي لي أن أربّي طفلي، ولا أحتاج لتلقي النصائح من أي شخص حول هذا الموضوع)، ولنلاحظ أنّ هذا الشخص نفسه يطلب أراء حول بناء بيت أو تصليح سيارته.. إلخ، أمّا بالنسبة للتربية فيرفض النصح. وهذا الموقف الصبياني والعدواني إنّما يكشف عن خوف. إنّه موقف تفوّق مزيّف ناشئ من الشعور بالدونية.
أن يربّي الإنسان نفسه مرّة ثانية يعني إذاً أن يخرج من الغلاف الذي تجمّد حوله تدريجياً. والعودة إلى المدرسة تفترض قبول المرء أنّه يجهل، وأن يتعلّم المرء بذاته.
التربية والحرب:
إنّ التربية كما نعرفها مرتكزة على روح التقسيم. إنّها تفرز الأفراد تبعاً لإيديولوجيات، لمنظومات طبقية سياسية ودينية.. إلخ. وهذه التربية تمنع الفرد من أن يتفتّح بحرّية، وتضيق مجال علمه.. ومجال حبّه. فما دام الناس يرددون على الفرد أنّه من بلد معيّن، ودين معيّن، ولسان معيّن، فإنّهم يحطمّون تطوّره. إضافة لذلك فإنّهم يُنَمّون عدوانيته تجاه أُولئك الذين ينتمون إلى البلد الأخر.
فالتربية الراهنة تدفع الإنسان إلى العنف والحقد والاحتقار والتنافس الشرس، ومن الناحية الإنسانية فهذا النوع من التربية يثير الحرب آلياً. وستستمر الحروب ما دام الإنسان لم يتعلّم أن يعرف ذاته وأن يجد ماهيته العميقة، وما دام لم يلاحظ أنّ الإنسانية هي واحدة في كلّ مكان، وأنّ الباقي كلّه أُمور سطحية. وبدلاً من هذا، فإنّ ما ينغرز في رأسنا أنّنا فرنسيون، عرب، كاثوليك، بروتستانت، مسلمون، أغنياء، فقراء.. إلخ، إلى أن يأتي اليوم الذي يقتل فيه الناس من أجل بلادهم، دينهم، وآرائهم السياسية.
وسيدوم هذا كلّه ما دامت التربية تقسم الإنسانية إلى (جماعات) منفصلة ومتعارضة. فالمشكلة هنا ليست في الطفل بل بالمربّي. ويكشف هذا كلّه إلى أي حدّ لازال الناس قصيري النظر، صبيانيين، يملأ الخوف نفوسهم.
التربية والحبّ:
لا يوجد تربية من دون حبّ وهذا أمر بديهي. فبدون الحبّ لا يمكننا سوى أن نروّض ونقهر ونصنع وننقل معارف وسلوكيات حسنة. إنّ الحبّ كمال داخلي ويتطلّب شروطاً قاسية وحالة من التوازن والوضوح والقوّة، وبالتالي كلّ ما يُفسد ويُتلف يكشف عن نقص في الحبّ.
إنّ عدد المربّيين الذين يحبّون أُولئك الذين يربّونهم حبّاً واقعياً هو قليل، وهم على الأغلب يعتقدون عكس ذلك، ولديهم رؤية خاطئة للحبّ. فالحبّ في التربية كامن في العطاء لا في الأخذ، وهو مفهوم مزيف موجود لدى السلطويين، وجميع المسيطرين، والمستبدين، وسواء كان ذلك بصورة عنيفة أم مستورة بالإخلاص والطيِّبة، فذلك لا يغير شيئاً من المسألة. وسبب ذلك أن المسيطر سيُحَدّث عن أمنه الداخلي الذي يجده في السيطرة. وقد رأينا ذلك غالباً. فكم من المسيطرين قد يهبون حياتهم لولدهم، ولكن ذلك ليس من الحبّ في شيء. فقد كان هدفهم اللاشعوري أن يسيطروا على الطفل أفضل سيطرة مبيّنين له إلى أي حدّ هم طيِّبون بالنسبة إليه.
الأُمّ التي تحتضن ولدها وتتعلّق به لا تحبّه حبّاً حقيقياً مادامت تعيق نموه الخاصّ، والأب الذي ينقل طموحاته الخاصّة إلى ابنه كذلك. فكم من الملاحظات سمعت بهذا المعنى:
أُريد أن يُصبح الأجمل.
أتمنى أن يكون الأذكى.
أُريد أن يحصل على أفضل وضع لم يسبق لي أن حصلت عليه أنا.
لقد نجح هذا النوع من التربية معي، وينبغي له أن ينجح مع ولدي بالتالي.
أين الحبّ في كلّ هذا؟ ببساطة إنّهم يفعلون ذلك في سبيل أنفُسهم، ويرغبون أن يكبر الطفل حسب إرادتهم هم وطموحاتهم، ويهتمون اهتماماً ضئيلاً بما هو الطفل في الواقع. ومثل هذه التربيات تقود دائماً إلى صراعات داخلية لدى المربّي، صراعات عذاب وعصاب وعدوانية وتمرّد وشعور بالدونية.
وعلى هذا النحو فإنّ كلّ تربية تكون مصدر الصراعات الداخلية أو مصدر تقليص الشخصية، تكشف عن نقص في الحبّ والفهم، وهي ليست في الواقع سوى أنانية مُقَنّعَة. فليس الحبّ أن يفتش الإنسان عن أمن داخلي له وتكريس لمبادئه، ولا أن يدعوا إلى التفرقة بين الأفراد، ولا أن يكون المربّي معادياً لطبقة معيّنة من المجتمع أو لِدينٍ معيّن، وحتى إذا عادى جيرانه فهو بهذه الطريقة يختم على ذكاء الطفل بدلاً من أن يجعله أقدر على الفهم، ويُفسد إمكانات الطفل العامّة. فالتربية هي نمو الذكاء المندمج في رؤية العالم. فإذا كان فكر المربّين محدوداً، فإنّهم ينقلون معلومات تصدر عن الكُتُب بالتأكيد. ولكنّهم لا ينقلون الذكاء ولا ينقلون الحبّ على وجه الخصوص وهذه التربية هي التي تفسد المجتمع أمّا الحبّ فلا يُفسد أبداً ولا يعزل أبداً ولا يصنّف ولا يفرّق.
يجب أن تكون التربية في جوّ من التواضع:
كثير من المربّين يشعرون أنّهم أعلى من أُولئك الذين عهد إليهم أمر تربيتهم وذلك أمر خاطئ. بل على العكس غالباً فالطفل والمراهق يرغبان في أن يتعلّما ويوسّعا مداركهما. ولكنّ الكثير من المربّين كَفّوا عن التعليم وتجمّدوا، وأصبح المربّي يريد نقل ما يرى أنّه حقيقة بطريقة سلطوية متى ما شعر بالتفوق.
والتربية في الحقيقة يجب ألا تكون أعلى وأدنى، وإنّما يجب أن يكون فيه تعاون تامّ، وبأن يتعلّم المربّي من الشخص المعهود إليه تربيته بمقدار ما يُعَلّمه. فالتربية تَبَادُل دائم في وجهات النظر.
إنّنا نلجم ذكاء الطفل وعفويته عندما نجبره على قبول السلطة، ونلزمه بتقليص وضوحه ونطاقه العقلي، ونمنعه من إدراك قيم إنسانية تناسب ما هو عليه. فالشعور بالتفوق يعني فرض السيطرة وفرض سلوك تم إعداده من خلال (أنا) مشوهة. وعندئذ يشعر المربّي بالقوّة التي تنقذه من العجز. وتلك هي حال الآباء العصابيين، والأساتذة العصابيين، وحال بعض رؤساء الجماعات، وبعض رؤساء الحكومات.
وأخيراً فإنّ المربّي الحقيقي هو المتواضع الغني داخلياً، وهو الذي يعطي ولا يفكر أن يأخذ. فالأمجاد والسلطة والاعتراف بالجميل ينبغي أن لا يكون لها معنى بالنسبة إليه. وهو لا يشعر بالتفوق إطلاقاً ولا يرغب أن يفرض أي شيء أبداً.
إنّه يعتبر أنّ قدره الراهن هو أن يربّي، وأنّ قدر الآخر هو تلقي التربية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق