• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الدماغ.. ضحية جراثيم

الدماغ.. ضحية جراثيم

يمكن أن يصل التأثير المرضي لبعض الجراثيم إلى حد إحداث خلل في دماغنا. وفي هذا الاكتشاف ما يثير القلق، لكنه يتيح أيضاً مداعبة أمل أسطوري: معالجة الأمراض النفسية بصورة فعالة.

أن تكون الجراثيم ضرورية لحياة كلّ كائن حي، فتلك فكرة صارت مألوفة. وأن تكون مسؤولة عن مجموعة لا متناهية من الأمراض الإنتانية، بعضها مميت، فتلك معلومة ليست مفاجئة. إلا أن تأثير الجراثيم على الإنسان لا يتوقف هنا على الأرجح. وتتيح بعض الدراسات، المتزايدة باستمرار، الاعتقاد بأنها تتسلل خفْيةً إلى دماغنا، فتكيّف مزاجنا، أو تسبب أمراضاً عصبية ونفسية.

الذاتوية autism والفُصام، أو حتى الاكتئاب اضطراباتْ قد لا تكون سوى تأثيرات غير مباشرة كثيراً أو قليلاً لإنتانات جرثومية. ويمكن أن تكون عللْ تنكّسية عصبية، مثل باركنسون أو الزهايمر ناتجةً عن تأثيراتها أيضاً، بل وربما كانت حتى الحوادث الوعائية الدماغية المأساوية ناجمة عن أذياتها.

في الواقع، أثبت عدد من الأطباء اليابانيين، في سبتمبر 2011، أن ثلث حالات النزيف الدماغي – الشكل الأشد تخريباً بين الحوادث الوعائية الدماغية والسبب الثاني للخرف عقب مرض الزهايمر – يمكن أن تكون النتيجة المباشرة لأذية الجرثومة "العِقْدِيّة الطّافِرة" Streptococcus mtans، التي تسبب تسوّس الأسنان. إن إحدى سلالاتها الأندر، أو على نحو أدق السلالة المسماة (K)، هي المعنية هنا: موجودة في أفواه 8 إلى 10 في المائة من الناس، ولكن عثر عليها أيضاً لدى 27 في المائة من ضحايا النزف الدماغي. فضلاً عن ذلك، كان فريق فرنسي من "المعهد الوطني للصحة والدراسات والأبحاث الطبية" Inserm قد شرح قبل بضعة أشهر كيف يمكن للجراثيم الموجودة بمستوى اللثة، مثل الجرثومة Porphyromonas gigivalis أن تنتقل إلى الدم من خلال جروح دقيقة جدّاً (خلال تنظيف الأسنان بالفرشاة مثلاً) وتسبب أمّ الدم anevrisme.

بالنسبة للفريق الياباني، يبدو الأمر واضحاً: تخترق بعض الجراثيم جهاز الدم، وعند إفلاتها من قبضة الجهاز المناعي تعشش لبضع ساعات في نواح متهدمة من الأوعية الدموية، فتعيق بذلك ترميمها الطبيعي حينذاك، ينتهي الأمر بعدد من الأوعية التي تروي الدماغ بأن تنثقب فيخرج منها الدم ويخرب نواحي دماغية.

وليس هذا كل شيء، يمكن أن يكون داء باركنسون، الذي يكشف التصوير الدماغي عن وجود أذيات نوعية تخصه في الدماغ، ناتجاً عن علة... معوية، جرثومية المنشأ، وفقاً للمعاينات التي أجراها طبيب الأعصاب الألماني "هايكو براك" Heiko Braak وطبيب الجهاز الهضمي الأسترالي "توماس بورودي" Thomas Borody.

 

ذِيفان في الأمعاء:

أيدت هذه الفرضية ملاحظتان: أوّلاً، تحدث الأذيات الدماغية غالباً في عصبونات المعى intestin قبل أن تصل إلى الدماغ، ثمّ لوحظ بالصدفة في العام 2008 أن مريضاً مصاباً بداء باركنسون شهدَ تحسناً مهماً في وضعه من خلال معالجته بمضاد حيوي موجه ضد جرثومة "المِطَثِّيّة العسيرة" Clostridium difficile، والذي يوصف كعلاج للإمساك. وظهر أن هذا العلاج بالمضادات الحيوية كان فعالاً لدى سبعة مرضى آخرين من أصل ثمانية ممن تلقوه. بذلك، يشتبه باحثون كثيرون بأن التنكّس العصبوني وتقدمه يمكن أن يكونا ناجمين عن ذِيفان (سُمّين) toxine تطلقه جراثم معوية. وربما كان هذا الذيفان يعرقل منظومة ضبط أحد البروتينات فيجعله يتراكم في العصبونات إلى أن يخربها. ولكن لم يتم تحديد هذا الذيفان حتى الآن.

وربما كان مرض الزهايمر أيضاً ناتجاً عن سبب جرثومي. وكانت هذه الفرضية قد ظهرت منذ بداية القرن العشرين، لكنها استُبعدت في وقت لاحق، غير أنها تستند اليوم إلى معطيات وبائية وملاحظات سريرية مقنعة. وتشير هذه الملاحظات إلى أنّ المسبب هو جراثيم من فصيلة "الملتويات" spirochetes التي نجد بينها الجرثومة المسببة للزُهري المسماة "اللولبية الشاحبة" Treponema pallidum والأخرى المسببة لداء "لايم" Lyme (طفح جلدي وآلام عضلات والتهاب مفاصل وحمى وأعراض أخرى..) المسماة "البورَلِيّة البُرغدروفية" Borrelia burgdorferi. يمكن أن تكون هذه الملتويات، التي لا نعثر عليها في الأدمغة السليمة، موجودة في أدمغة 90 في المائة من المصابين بداء الزهايمر! هذه الجراثيم مخيفة للغاية لأن مجرد وجودها يسبب تشكل اللويحات الشيخوخية – ترسبات خارج خلايا الدماغ –"، وفق ما تقول "يوديت ميكلوسي" Judith Miklossy، مديرة "مركز الأبحاث الدولي حول الزهايمر" (في سويسرا). وكان الباحثون الأمريكيون قد كشفوا عام 2010 أنّ هذه اللويحات (بعكس نتائج دراسات سابقة) يمكن أن تكون في الواقع ببتيدات Peptides (وحدات بنائية رئيسية في جزيئات البروتين) مضادة للميكروبات من المفترض أنها تكافح فيروساتٍ وجراثيمَ تلوث الدماغ. بعبارة أخرى، إن ما كان ينظر إليه على أنّه الخاصية الأولى لداء الزهايمر، أي هذه اللويحات، يمكن أن يكون مؤشراً على استجابة مضادة لإصابة مكروبية. وهذا ما يجعلنا نفهم سبب فشل العلاجات الحالية. وليست هذه هي المرة الأولى التي يعاد فيها وصف مرض مزمن ويصنف كمرض ناتج عن عامل ممرض. "توجد نقاط مشتركة كثيرة بين الزهايمر والزهري، فكلاهما يؤدي إلى خرف ويتميزان بتنكس عصبوني وتراكم لُيَيْفات بروتينية. ولكن، لزمت سنوات كي نعرف أنّ الجرثومة المسماة "اللولبية الشاحبة" هي المسبب، تقول "يوديت ميكلوسي". واليوم، يعالج الزهري بالمضادات الحيوية، ومن هنا الأمل بعلاج مرض الزهايمر بأدوية بسيطة.

في نهاية الأمر، أن تكون الجراثيم سبب هذه الأمراض فذاك يمهد الطريق لآفاق سارة: أدوية في متناول وصفة الطبيب، قريباً. في الواقع، لدى الأطباء ترسانة من المضادات الحيوية لمكافحة الجراثيم. إذاً، وعوضاً عن مداواة تأثيرات هذه الأمراض من دون منهج، سيكون من الممكن علاج السبب بشكل مباشر. ومن أن هذا الأمل أن يغير أيضاً الوضع العلاجي بخصوص نمط آخر من الاضطرابات: الأمراض النفسية.

لقد اشتبه بشكل خاص بعدد من الجراثيم المعوية، منذ خمسة عشر عاماً، على أن لها علاقة بالذاتوية (التوحد).

Autisme. وكانت الباحثة الأمريكية إيلين بولت Ellen Bolte، متطوعة العمل في المشافي ووالدة طفل ذاتوي، هي التي أثارت الفكرة عام 1998. وانطلاقاً من ملاحظاتها وأبحاثها، أوحت بأنّ المرض قد يكون ناتجاً عن عدم توازن في النبيت الجرثومي المعوي flore intestinale وعن فرط وجود جرثومة الكزاز، "المِطَثِّيّة الكزازية" Clostridium tetani المعروفة بأنها تنتج ذيفاناً يهاجم الدماغ. وبقي السيناريو نظرياً، ولكن "يبدو الذاتويون أن لديهم نبيتاً جرثومياً معوياً خاصاً، مع فرط في وجود جراثيم من جنس "المطثية"، وفق تأكيد "آنا ماكارتني" Anne McCartney من جامعة Reaing البريطانية.

 

 

الفكرة تحرز تقدماً:

في العام 2010، نوهت دراسة أخرى إلى جنس جراثيم تسمى "مُنْتَزِعة الكِبْريت" Desulfovibrio: عدد جراثيم هذا النمط التي عثر عليها في براز أطفال ذاتويين كان أعلى بـ6 إلى 8 مرات (0.276 في المائة من نبيتهم الجرثومي المعوي) مما هو لدى أطفال آخرين غير مرضى (0.032 في المائة). وفي الحالتين، هي جراثيم معروفة بإنتاج مركبات سامة يمكن أن تصل إلى الدماغ إذا ما وجدت في الأوردة. فضلاً عن ذلك، أظهرت أبحاث حديثة حول أطفال مصابين بالذاتوية أنهم غيروا في سلوكهم بعد معالجات بالمضادات الحيوية: ازدادت مفرداتهم ثراءً وأصبحوا أكثر هدوءاً، وأكثر وداً... وكانت هذه التطورات تتلاشى في نهاية العلاج! ولكن وجهت انتقادات لهذه الدراسات من حيث إنها لم تشمل سوى عدد صغير من الحالات.

مع ذلك، كانت الفكرة ناجحة، لأنّ الباحثين يعتقدون، بالطريقة نفسها، أنّ الجراثيم "المُتَدَثِّرة" Chlamydiae (التي تسبب أخماجاً جنسية منتقلة جنسياً) يمكن أن يتبين أنها تسبب الفصام. وفي العام 2011، وجد "رودولف وانك Rudolf Wank، من جامعة "ميونيخ"، هذا الجنس الجرثومي في القشرة المخية الجبهية لدى 23.53 في المائة من المصابين بالفصام الذين دُرسوا، مقابل 5.71 في المائة لدى أشخاص سليمين. وهذا الدور يمكن أن تؤديه أيضاً "المَلْوِيّة البَوّابيّة" Helicobacter pylori، الجرثومة المسؤولة عن القرحات المعديدة – المعوية. وتبدو إنتانات أخرى (جرثومية، بل أيضاً فيروسية، وطفيلية)، حينما تحدث خلال الثلثين الأولين من فترة الحمل، أنها تضاعِف 10 إن لم يكن 20 مرة مخاطرَ أن يطور الطفل حالةً فصامية. إنّ التفاعل الالتهابي (لدى الحامل وجنينها) هو الذي يحدث خللاً في نمو دماغ الجنين. ويمكن أن تحدث بعض الميكروبات خللاً أيضاً في الخلايا الدماغية الداخلية. لكن هذا الأمر مازال يحتاج إلى إيضاح.

أخيراً، يمكن أن تكون الجراثيم هي سبب الاستعداد للاكتئاب أيضاً. ومن المعروف أنّ الاكتئاب غالباً ما يقترن باضطرابات هضمية وأن مضادات الاكتئاب يمكن أن تكون لها تأثيرات علاجية على هذه الاضطرابات. ولكن كان من المعتقد أنّ هذا الرابط، المتمثل بالعصب المُبْهَم nerf vague، الذي يربط الدماغ مباشرة بخلايا الجدران المعوية، لا يؤثر إلا في اتجاه واحد: من الدماغ باتجاه الأمعاء. ولكن يبدو أنّ العكس ممكن الحدوث. فقد أثبتت دراسات حديثة جدّاً قدرة هذه الجراثيم المعوية على تحوير استجابتنا للكرب. كما أوضح فريق إيرلندي – كندي، في العام 2011، أن ابتلاع جراثيم من نمط "المُلَبِّنة" Lactobacillus يتمخض عند الفأر عن سلوك أقل قلقاً وعن تضاؤل معدل أحد الهرمونات المرتبطة بالكرب.

تكشف هذه الأمثلة كلها أننا لم نفهم بعد كل دقة تأثيرات الميكروبات التي تعيش فينا، وتوضح جيداً أنّ العلاجات التي يتلقاها مرضى الدماغ غير كافية إلى حد كبير. وإذا ما تأكدت فرضية التأثير الجرثومي فإنها ستغير الحالة القائمة بشكل جذري، ولو أنّ المسارات العلاجية يمكن ألا تصل إلى نتيجة قبل عشر سنوات على الأقل. ثمّ إنّ هذه المسارات تمهد الطريق نحو حقل استقصائي لم تجر فيه بحوث بعد بخصوص التأثير غير المباشر لهذه الميكروبات التي لا تكفّ عن مفاجأتنا.

 

المصدر: مجلة العربي العلمي/ العدد العشرون لسنة 2013م

ارسال التعليق

Top