• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الذكاء العاطفي وعمل الفريق

د. ياسر العيتي

الذكاء العاطفي وعمل الفريق

◄أكثر ما يتجلى الذكاء العاطفي عند الإنسان عندما يعمل مع الآخرين في فريق واحد، فالإنسان الذكي عاطفياً أكثر قدرة على التعاون مع الآخرين والتفكير المشترك وتقبل النقد والرأي الآخر والحوار والوصول إلى حلول وسط، ولا شك أن من أهم أسباب تفوق المجتمعات المتقدمة على المجتمعات المتخلفة هو قدرة أفرادها على العمل ضمن فريق.

إنّ الفرد لا ينمو والمجموعة لا تنمو إلا إذا عرف أفرادها كيف يعملون معاً  كفريق واحد، وهناك مثل ياباني يقول: "ما من واحد يفوق ذكاؤه ذكاء المجموعة". وقد ثبت في دراسة أجريت على مجموعات من الباحثين يعملون ضمن فرق مختلفة، أن قدرة هؤلاء الباحثين على إنجاح عمل الفريق يعتمد على ذكائهم العاطفي وليس على ذكائهم العقلي، أي إنّه عندما يجتمع مجموعة من الناس للبحث في مشكلة معيّنة، فإن مجموع عقولهم يشكل عقلاً جماعياً يتناسب ذكاؤه طرداً مع محصلة الذكاء العاطفي، وليس الذكاء العقلي لأفراده فأصحاب الذكاء العقلي المرتفع لا يستطيعون أن يعملوا ضمن فريق إذا لم يتمتعوا بمهارات الذكاء العاطفي، بل إن أداء الفريق قد يتناسب عكساً مع نسبة الذكاء العقلي لأفراده إذا لم يكن عندهم حظ وافر من الذكاء العاطفي، إذ إنّ هؤلاء سيقضون وقتهم في الجدال والخصام ومحاولة كلّ واحد منهم أن يثبت أنّه الأذكى، بدلاً من التعاون لإيجاد حل للمشكلة التي يبحثون فيها.

إنّ أحدنا عندما يفكر في حل مشكلة ما يدخل في حوار داخلي مع نفسه، معتمداً على ذكائه العقلي وخبرته وتجاربه، وما يحدث أثناء التفكير الجماعي يشبه تماماً ما يحدث أثناء التفكير الفردي، ولكن الحوار هنا يعتمد على مجموعة الخبرات والتجارب والمهارات العقلية لكل المشاركين فيه، وبالتالي تكون الفرصة لتحليل المشكلة بشكل صحيح وإبداع حلول لها أكبر بكثير. فما شروط الذكاء العاطفي المطلوبة في الفرد، ليصبح قادراً على العمل بفاعلية ضمن فريق:

1-  القدرة على تقبل الرأي الآخر: بعض الناس إذا اقتنعوا بفكرة ما وخالفهم أحد في الرأي، فإنهم يحتدون وينفعلون لمجرد أن أحداً خالفهم في الرأي إن هؤلاء لا يصلحون للعمل ضمن فريق لأنّهم سيضيعون أوقاتهم وأوقات الآخرين فقط لكي يثبتوا أنهم على صواب. على الإنسان أن ينصت إلى الرأي الآخر، وأن يكون هذا الإنصات حقيقياً أي أن يضع المنصت نفسه مكان الشخص الآخر، ويتخلى عن رأيه مؤقتاً ويرى القضية من وجهة نظر الآخر. إن بعض الناس ينصت إليك وهو يفكر في الرد عليك لا فيما تقوله!

2-  القدرة على الاعتراف بالخطأ وتغيير الرأي: لا يوجد إنسان لا يخطئ، لكن الناس يختلفون في سرعة إدراكهم لأخطائهم، والإنسان يصل إلى الرأي الأصوب من خلال مروره بعدة آراء أقل صواباً، لذلك كلما أخذ الإنسان آراء الآخرين في الحسبان ازدادت فرصة وصوله إلى الرأي الأصوب.

3-  القدرة على الهدوء عند الاختلاف: إن أي اختلاف يحمل معه توتراً، وهذا أمر طبيعي ومطلوب، إذ إنّ هذا التوتر سيدفع المختلفين للمزيد من النقاش والحوار وتقليب وجهات النظر بحثاً عن الحقيقة، ولكن الذي يحدث أحياناً في بعض مجالس النقاش، هو أنّ التوتر يبدأ بالتصاعد إلى أن يصل إلى مرحلة الانفجار أي المرحلة التي تسيطر فيها على الإنسان انفعالاته وعواطفه وليس عقله وتفكيره. إنّ الإنسان الذكي عاطفياً لا يسمح لنفسه ولا للآخرين بالوصول إلى هذه المرحلة، ويقوم دائماً بتهدئة المجلس ليبقى التوتر ثابتاً وليس متصاعداً، وإذا شعر بعجزه عن ذلك ينسحب من النقاش أو يؤجله إلى وقت آخر.

إنّ الهدوء هو الشرط الأوّل والأهم لإدارة أي خلاف، فالإنسان المنفعل لا يفكر ولا يحاور جيداً، ولا يجيد إلا الصياح والسباب. ولذلك أخبر نبينا محمّد (ص) أنّ القوة الحقيقية تكمن في ضبط الأعصاب لا في انفلاتها: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" رواه البخاري. وجاءت الآية الكريمة لتبين فضل السيطرة على النفس فقال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، فالعفو وهو شعور نبيل يأتي بعد كظم الغيظ والسيطرة على الانفعال.

4-  القدرة على الخلاف البناء: إنّ الحياة لا تستقيم بدون اختلاف، ولو افترضنا أن هناك مجموعة من الناس متفقون دائماً على كلّ شيء فهذا يعني إما أنهم نسخة مكررة من شخص واحد (وهذا مستحيل) أو أنهم لا يفعلون شيئاً ليختلفوا عليه، أو أنهم منافقون ينافق ويمالئ بعضهم بعضاً. ليس المجتمع المعافى هو المجتمع الذي لا يختلف أفراده لكنه المجتمع الذي يعرف أفراده كيف يستثمرون الخلاف فيما بينهم للوصول إلى أفضل الآراء، ومما يجعل الخلاف مجالاً للخصام والتنافر هو جهل أطرافه بأسلوب الخلاف والنقد البناء والجدول التالي يبين الفرق بين الخلاف البناء والخلاف الهدام:

 

الخلاف البناء

الخلاف الهدام

يتناول الأفكار أو الأقوال أو الأفعال ويحترم الأشخاص

يتجه إلى تجريح الأشخاص والتهجم عليهم

تحرك أطرافه الرغبة في الوصول إلى الحقيقة وإرشاد الآخرين إليها

تحرك أطرافه الرغبة في الانتصار على الآخر وإفحامه

يهتم أطرافه بمشاعر بعضهم ويحرصون على عدم إيذائها

لا يلقي أطرافه بالاً للمشاعر وقد يتعمدون الجرح والإساءة

 

إنّ الخلاف البناء لا ينتهي بخصومة وبغضاء حتى لو لم يتوصل أفراده إلى الاتفاق، وقد بينت دراسة شملت 108 موظفين أنّ (النقد الغبي) على رأس أسباب الصراعات في العمل. إنّ علينا حين ننقد الآخرين أن لا نستفزهم ونثيرهم، إذا أردنا منهم أن ينصتوا إلينا، ويتقبلوا وجهة نظرنا.

وهناك طريقة بسيطة لنقد الآخرين نقداً بناءً يمكن الإشارة إليها بالمخطط التالي:

أنت فعلت كذا ← وذلك أشعرني بكذا ← وأتمنى لو فعلتَ كذا

أي أنك تعترض على فعل الآخر، وليس على شخصه، وتبين له شعورك تجاه هذا الفعل، ثمّ تطرح البديل. لنتصور أن زوجاً اتفق مع زوجته أن يأخذها إلى العشاء خارج المنزل الساعة الثامنة مساءً فتأخر إلى الساعة العاشرة ولم يخبرها أنّه سيتأخر، لو صاحت هذه الزوجة بزوجها حينما جاء قائلة له: لماذا تأخرت دون أن تخبرني، أنت هكذا دائماً لا تقيم وزناً للمواعيد، فإنّه سيرد على هجومها بهجوم مماثل، أما إذا اتبعت الطريقة السابقة وقالت له: أنت تأخرت عليَّ ← وذلك أشعرني بالقلق ← وكنت أتمنى لو اتصلت بي، لو اتبعت الزوجة هذه الطريقة لقدم لها الزوج اعتذاره واعترف بخطئه وحرص على عدم تكراره.

إنّ عجزنا عن الخلاف البناء هو الذي يدفعنا في كثير من الحيان إلى تجنب الخلاف، وإلى استمرار النفاق والكذب فيما بيننا، وقد نسمي ذلك ذكاءً اجتماعياً وهو في الحقيقة ليس إلا نفاقاً اجتماعياً، فالذكاء الاجتماعي لا يعني أن تخفي رأيك عن الآخرين حينما تختلف معهم بل أن تبدي لهم هذا الرأي بطريقة يتقبلونها. إن غنى المجتمع يأتي من تنوع الأفكار واختلافها، وحينما يسود المجتمع النفاق يقل الإبداع المتولد عن الاختلاف والحوار وتعدد وجهات النظر وتلاقح الأفكار والتفاعل فيما بينها، وبالتالي تقل الأفكار والحلول في مجتمع كهذا وتكثر فيه المشاكل والأزمات.►

 

المصدر: كتاب الذكاء العاطفي

ارسال التعليق

Top