الإمام علي عليه السلام ألقى على الأُمّة الإسلامية دروساً خالدة ما بعدها دروس: دروساً فيها عزّ الدنيا وسعادة الآخرة، فيها راحة الفرد وراحة المجتمع، فيها طمأنينة النفس وراحة الضمير، فيها الوصول إلى الحقّ والزلفى إلى الله تعالى، فيها غني الفقير وفلاح الغني، فيها العدل الاجتماعي المطلق وكلّ ما يؤدي بالفرد والمجتمع إلى دورة الكمال. ولكن البشر لسوء سريرته وفساد باطنه وتغلب الهوى والأطماع لم يكن جديراً ليستفيد من هذه الدروس. بل أراد البعض في كلّ فرصة إخماد قبسات هذا النور اللامع حتى ضُرِب عليه السلام بسيف ابن ملجم المرادي فجر اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك وهو في محرابه يناجي ربه. وقد أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر خطبته المشهورة التي خطب بها الناس قبيل شهر رمضان المبارك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام فقمت وقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر: الورع عن محارم الله عزّ وجلّ. ثمّ بكى. فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: يا علي، أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك. فخضب منها لحيتك. قال أمير المؤمنين (ع): فقلت يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك. ثمّ قال: يا علي، من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبضغني، ومن سبك فقد سبني. لأنك مني كنفسي وروحك من روحي وطينتك من طينتي...» إلى آخر الحديث. وكان علي (ع) في الشهر المبارك الذي استشهد فيه يفطر ليلة عند الحسن (ع) وليلة عند الحسين (ع) وليلة عند ابن جعفر، لا يزيد على ثلاث لقم ويقول: «أحبُ أن يأتيني أمر الله وأنا خميص». كيف لا يكون كذلك وهو القائل: «هيهات هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش؟. وأيم الله يميناً، استثنى فيها بمشيئة الله لأروضنّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً». نعم إنّه كان أزهد الناس، لم يشبع من طعام قط، وكان يلبس الخشن ويأكل جريش الشعير. فإذا ائتدم فبالملح، فإن ترقى فبنبات الأرض. وكان (ع) يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه. فقيل له في ذلك. فقال (ع): «أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئاً من زيت أو سمن». وإنّ علياً (ع) قد سهر تلك الليلة التي ضُرب فيها وأكثر الخروج والنظر إلى السماء، وهو يقول: والله، ما كَذبت ولا كُذبت. وانها الليلة التي وعِدت فيها، ثمّ يعاود مضجعه. فلما طلع الفجر، شد إزاره وخرج للصلاة. يخرج علي (ع)، فجر اليوم التاسع عشر من هذا الشهر المبارك إلى المسجد لصلاة الفجر وينادي الصلاة الصلاة، فيضربه ابن ملجم على رأسه وهو ساجد فلما أحس (ع) بالضربة، لم يتأوه وصبر واحتسب ووقع على وجهه، قائلاً: «بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله. هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ثمّ صاح وقال: قتلني ابن ملجم، قتلني اللعين ابن اليهودية، فزت ورب الكعبة». وانما قال: فزت ورب الكعبة، لأنّ رسول الله (ص) قد أخبره: أنه سيضرب هذه الضربة وهو في سلامة من دينه، فكانت هذه الضربة علامة ختام أعماله الجبارة في سلامة من دينه صلوات الله عليه، وهذا درس عملي للناس أجمعين في أن يبذلوا أقصى جهودهم لتنتهي أعمالهم مع حسن العاقبة وفي سلامة من دينهم. فقد يزعم الإنسان انّه صالح فتنتهي أعماله مع سوء العاقبة، وقد يتهم نفسه أنّه غير صالح، فتنتهي أعماله مع حسن العاقبة، ثمّ إنّه صلوات الله عليه يوصي لابن ملجم، فيقول: «أبصروا ضاربي أطعموه من طعامي، واسقوه من شرابي، النفس بالنفس، إن هلكت، فاقتلوه كما قتلني. وإن بقيت رأيت فيه رأيي». ثمّ تزايد ولوج السم في جسده الشريف حتى احمرت قدماه وامتنع عن الأكل والشرب وشفتاه تختلجان بذكر الله وجبينه يرشح عرقاً وهو يمسحه فقال له ابن الحنفية: أراك تمسح جبينك؟ فقال: «يا بني» إني سمعت رسول الله (ص) يقول: «إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينه». ثمّ نادى أولاده كلّهم بأسمائهم صغيراً وكبيراً وجعل يودعهم ويقول: «الله خليفتي عليكم، أستودعكم الله».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق