• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الزهرية المكسورة

منى العمد

الزهرية المكسورة

عاد الأب من عمله بعد يوم شاق، ودخل بيته وهو يمني نفسه باستقبال جميل من زوجته وطفله الصغير، لكنه ما إن وصل إلى مدخل الباب حتى راعه تسلل طفله الصغير لواذاً إلى غرفته، ناداه الأب بحنان، أين عمري؟ أين عسلي؟ لكن الصغير بقي في منفاه الاختياري ولم يرد، نظر إلى زوجته مستفسراً، ضحكت الزوجة وقالت: لا يهولنك الأمر، قد فعل ذنباً اليوم وأثار غضبي وهددته أن أخبرك، ولعله خائف، ابتلع الزوج غصته وسكت ملياً ثم قال لها: أرجوك ثم أرجوك، لا تخوفيه بي، عاقبيه بعقاب مناسب إذا أخطأ ولكن.. هل تعلمين أنك عاقبتني أنا اليوم فحرمتني من ضحكاته واستقباله الجميل لي؟!
قالت بعصبية تحاول إخفاءها: قلت له ألف مرة ألا يلعب بالكرة في المنزل، ولعب بها وكسر زهرية الورد، و... أكمل الزوج بلهجة عاتبة: وضربته بالطبع.
- نعم، وكيف لا أضربه بعد ما فعل؟
- أرأيت لو أنه لعب بالكرة، ولم تنكسر الزهرية هل كنت ستضربينه؟!
- بعد تردد: لا.
- إذاً، فأنت ضربته بسبب كسر الزهرية وليس بسبب مخالفته كلامك.
- وأي فرق عظيم بين الأمرين؟
- لا أظنه يخفى عليك.
والآن أين هو؟ أرجوك ائتني به.
- هل ستطيب خاطره الآن، وتكسر كلامي أمامه حتى لا يخاف من تهديداتي بعد اليوم؟
نظر إليها مطمئناً، ومضى إلى غرفة الصغير، كان جالساً على حافة سريره ينظر بطرف عينه في توجس إلى أبيه، يحاول قياس درجة غضبه، قال الأب: لم لم يأت (عموري) للسلام على بابا اليوم؟!
ينظر إلى أمه من وراء أبيه وهو يقول: ألم تخبرك ماما بما فعلت؟
- بلى، لكن ماما طلبت مني أن أسامحك هذه المرة؛ لأنها تحبك جداً، وأنا أعلم أنك لن تعيد هذا الخطأ ثانية، أليس كذلك؟
قال الصغير وقد تهلل وجهه: بلى بالطبع.
- تعال إذاً وسلم على بابا وماما، فأنت أغلى إنسان علينا في الدنيا.
أسرع الطفل، وقفز على أبيه ألذي تلقاه معانقاً وبادله قبلات حارة، ثم تباطأ وهو يذهب للسلام على أمه التي ضمته إليها في برود.
بعد العصر، حمل الطفل كرته واستأذن من والديه وهو يقول: وعدتكم ألا ألعب ثانية بالكرة داخل المنزل، فهل تسمحان لي بالخروج للعب مع أصدقائي في الساحة القربية؟
تبادل الأبوان نظرة خاطفة ثم قال الأب: نعم بالطبع، وانتبه لنفسك يا حبيبي، أسرع يقفز إلى الباب في فرح.
- قالت الأم بشيء من الضيق: أنت تبالغ في تدليله.
- سبقتني بالحديث، وكنت أود أن أقول لك: إنك تبالغين في القسوة عليه، وما هو إلا طفل صغير لم يكمل عامه السادس بعد.
- هل كنت تريد مني ان أكافئه على كسر زهريتي المفضلة؟ إنها..
- مقاطعاً: أعلم أنها مفضلة وجميلة وغالية، لكنها بالتأكيد ليست أغلى من ولدنا ونفسيته يا عزيزتي، وأضاف كالمعاتب: ثم إنك قد عاقبته بالضرب، وهذا يكفي، وكنا اتفقنا ألا نضربه إلا عندما تفشل الأساليب الأخرى، أليس كذلك؟
أية أساليب أخرى؟ قد ثارت عصبيتي وأنا أرى زهريتي الغالية قطعاً أمامي بسبب الكرة اللعينة، هل كنت تريدني عندها أن أجلس وأفكر كيف أعاقبه؟ وبماذا يمكن ان أعاقبه وأنا في غاية الغضب؟
- كنت تستطيعين إظهار الغضب من فعلته، وعدم الكلام معه لمدة محددة، أو كان يمكن أن نكلفه بجمع ثمنها أو نصف ثمنها من مصروفه ليشعر بذنبه، لكن أرجوك لا تضربيه على مثل هذه الذنوب الصغيرة، وأرجوك أكثر ألا يكون الضرب على وجهه، أريده أن ينشأ سوياً نفسياً، ثم قال بحنان بالغ: من أجله وهو ولدنا وقرة عيننا وثمرة حبنا المبارك، ومن أجلك أنت أيضاً يا حبيبتي، صدقيني أخشى ألا تنشأ علاقته بك سليمة، أخشى أن يكرهك في أعماقه.
- يكرهني؟ لا يمكن له أن يكرهني، أنا أمه، هل نسيت؟
هز رأسه وسكت، بينما تابعت هي تقول: كان أبي يضربنا كلما أتينا بذنب صغير كان أم كبيراً، وكان يبالغ في ضربنا، ومع ذلك كنا نحبه، ومازلنا نحبه، فهو أبونا، ولا يمكننا إلا أن نحبه.
بقي الزوج صامتاً بينما أخذت هي تتذكر صوراً من طفولتها البائسة، رأت نفسها وهي طفلة صغيرة في سن طفلها الآن، وهي تجلس في زاوية الغرفة خائفة مذعورة تتلفت حولها تبحث عن منقذ يخلصها من يدي والدها الذي كان يضربها بشدة بيده مرة وبرجله أخرى؛ لأنها أصدرت صوتاً ما وهو يريد أن ينام، ومرة لأنها لعبت بالرمل ولوثت يديها وبعض ملابسها، وثالثة لأنها.. ذنوب لا يمكن إلا ان يقع فيها الأطفال، ذنوب صغيرة كذنب ولدها اليوم.
أخذت تكلم نفسها في حزن وغضب:
أنا أحب أبي فعلاً؟ يجب أن أعترف بأني لا أحبه، أنا أخدع نفسي حين أقول: إني أحبه، أنا كنت أكرهه ولا أزال أكرهه، ولن أسامحه لآخر يوم من عمري!
شعر زوجها ببعض ما تحدث به نفسها، فأخذ يهون عليها، أمسك بيدها وربت على كتفها بحنان وقال: أين صرت؟
نظرت إليه، ومسحت دمعات فاضت بها عيناها، ثم ما لبثت أن ألقت برأسها على صدره وأطلقت العنان لدموعها وهي تقول: ليتك كنت أنت أبي!

ارسال التعليق

Top