القدوةُ اسم مَن اقتدى به، إذا فُعِل مثل فعله تأسّياً، وفلان قدوةٌ، أي يُقتدى به. أمّا في معنى الأُسوةُ، فقالوا هي كالقدوة، وهي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره. وعليه، فالاقتداء والتأسّي هو التبعيّة للمُقتدى به والتسنّن بسنّته من قول أو فعل. عموماً، وهو المعنى الاصطلاحي أيضاً. فالاقتداء هو طلب موافقة الآخر في فعله، واتّباع شخصية تنتمي إلى القيم نفسها التي يؤمن بها المقتدي، وعادة ما يمثّل شخص المقتدَى به قدراً من المثالية والرقيّ والسموّ عند أتباعه ومحبّيه. والقدوة تنطوي في داخلها على نوع من الحبّ والإعجاب اللذين يجعلان المُقتدِي يحاول أن يطبّق كلّ ما يستطيع من أقوال المُقتدَى به وأفعاله. فمتى وجد الإنسان كمالاً معيّناً توجّه نحوه وانجذب إليه وطلبه، إلّا أنّ هذه التوجّهات تخضع عند كلّ إنسان لقناعاته ورؤيته الخاصّة للكمال، حيث يختلف الناس في تحديد مصداق الكمال الذي يصبون إليه.
والإنسان، متى ما وجد ذلك الكمال متجسّداً في شخص معيّن، مال نحوه مباشرة حتى يصير قدوته التي يتأسّى ويقتدي بها. فالقدوة هي ذلك الميزان الذي يقيس عليه الإنسان تصرّفاته، موضحاً له معالم الطريق الذي ينبغي عليه سلوكه، وما يتوجّب عليه فعله وتركه. والأهمّ من ذلك كلّه، إنّ وجود القدوة الحقّة في حياة الإنسان يتيح له إمكانية الوصول إلى الأهداف العالية، ويبعث في نفسه أملاً بأنّ هناك مَن استطاع الوصول قبله، فيشعل في قلبه حماسة تدفعه للاستمرار دوماً وعدم التوقّف، لأنّ حياة القدوة تمثّل له النموذج الأصحّ والأسلم ليجعل حياته وفقها، وتشكّل ميزاناً لكلّ أُموره وشؤونه.
إنّ من الخصائص الهامّة في شخصية السيِّدة فاطمة (عليها السلام) هي شخصيتها القيادية التي امتازت بها، والتي ظهرت في حركتها خلال حياتها عموماً، لقد قامت فاطمة الزهراء (عليها السلام) بدور القائد الحقيقي. هذه هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، إنّها قائد بكلّ معنى الكلمة، ومثل رسول من الرُّسُل، ومثَل هادٍ لعموم البشرية، فقد ظهرت الزهراء الطاهرة هذه البنت الشابّة وتجلّت بهذه الحدود والأبعاد والحجم، وهذه هي المرأة في الإسلام... فاطمة الزهراء (عليها السلام) امرأة إسلامية، امرأة في أعلى مراتب المرأة المسلمة، أي إنّها في حدود قائد. لكنّ هذه المرأة نفسها التي هي من حيث الفضائل والمناقب والحدود كان يمكنها أن تكون رسولاً هذه المرأة نفسها كانت أُمّاً وكانت زوجة وكانت ربّة بيت. وقد ورد على لسان أصدق البشر وأكملهم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما يحدّد منزلتها من الله تعالى، ومنه أنّها هبة إلهية، وحوراء إنسيّة، وممّا رُوِي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيِّدة نساء العالمين، وسيِّدة نساء هذه الأُمّة، وسيِّدة نساء المؤمنين».. فنعم القدوة الصالحة التي نحتذي بها وخاصّة وقد عرّفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّها امرأة غير كل النِّساء، إنّها سيِّدة الناس لما تحمله من صفات فريدة وجليلة.
سطّرت السيِّدة فاطمة (عليها السلام) حياةً مليئة بالعظمة والجلال مع قصر مدّتها، فلا تكاد تطّلع على موقف قامت به الزهراء (عليها السلام) دون أن تُدهشك عظمة نفسها ورفعة أخلاقها، فهي وإن عاشت حياة تشبه حياة الجميع من حيث أبعادها، فقد كانت بنتاً وزوجةً وأُمّاً ومبلِّغة وكانت تقوم بالأعمال المنزلية... إلّا أنّها (عليها السلام) انفردت وتميّزت بتحويل تلك الحياة إلى مظهر لعظمة لا مثيل لها مبيّنة كيف يمكن لأيّ إنسان أن يتحوّل إلى عظيم في أبسط تفاصيل حياته وفي أخطرها، فهي التي لم تقبل أن تقدّم ثوبها القديم لسائلة جاءتها، بل آثرتها على نفسها وأعطتها ثوب عرسها الجديد الذي كان هديّة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويسأل الإمام عليّ (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: «يا رسول الله! أيُّ أهلك أَحبُّ إليك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة بنت محمّد» .ومن الواضح أنّ ما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من باب العاطفة، والعلاقة الرحميّة الخاصّة، بقدر ما هو توجيه للأُمّة وتعريفها بالمقام الخاصّ للسيِّدة الزهراء (عليها السلام) عند الله تعالى، ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدور المُلقَى على عاتقها خلال حياة أبيها، والوظيفة التي ينبغي أن تقوم بها بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم). وتكبر فاطمة وتشبّ، ويشبّ معها حبّ أبيها لها، ويزداد حنانه عليها، وتبادله فاطمة هذا الحبّ، وتملأ قلبه بالعطف والرعاية فيسمّيها «أمّ أبيها» .
«أمّ أبيها» كنية ما أعظمها! فهي تعبّر عن عمق العلاقة الروحية بين المانح العظيم المقدّس، والممنوحة الطاهرة المطهّرة بحكم التنزيه عن كلّ رجس ودنس، هذه الكنية هتاف ملأ الكون بصداه، ونداء لكلِّ جيل يتدبّر معناه، وتنبيه للأُمّة بما ينبغي لها من توقير البتول وحفظ مقامها الشامخ في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وكانت الزهراء (عليها السلام)، أحبَّ الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي بهجة قلبه وبضعة منه، يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها، ويغضبه ما يغضبها، ويبسطه ما يبسطها، ويُؤذيه ما يُؤذيها، ويسرّه ما يسرّها .السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قدوة وأُسوة تربوية واجتماعية وجهادية بكلّ ما للكلمة من معنى. إنّ السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مارست أدواراً أُسرية واجتماعية وجهادية وسياسية استحقت أن تُمنح لقب قدوة يُقتدى بها، وكانت كلّ تلك الأبعاد حاضرة في حياتها حيث تجلّت عظمتها الظاهرية من خلال تلك الأدوار، فهي التي جسّدت إرادة الحقّ في الدُّنيا بكلّ أفعالها بدءاً من حياتها الأُسرية وصولاً إلى حياتها الجهادية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق