الجانب الأوّل هو الجانب الروحيّ الذي يذكِّر الإنسان بالآخرة، ونحن نعرف أنّ الإنسان كلَّما استغرق في ذكر الآخرة أكثر، انضبط في ما يقبل عليه من النّتائج في أعماله بين يدي الله تعالى أكثر، لأنّ الغالب منّا أنّنا نغفل عن ذكر الآخرة، ولذلك، فإنّنا نستعجل أرباح الدُّنيا، ونتفادى خسائرها، ونعطيها كلّ اهتماماتنا العقليّة والشعوريّة والعمليّة، أمّا مكاسب الآخرة وخسائرها، فإنّنا نواجهها باللامبالاة. ولذلك، فإنّ الغالب منّا أمام غفلاتنا، هو أنّه إذا دار الأمر بين أن يخسر أحدنا شيئاً في الآخرة أو يخسر شيئاً في الدُّنيا، فإنّه يغلّب خسارة الآخرة على خسارة الدُّنيا، أو إذا دار الأمر بين أن يربح شيئاً في الآخرة وشيئاً في الدُّنيا، فإنّه يقدِّم ربح الدُّنيا على ربح الآخرة. ولذلك، نجد أنّ الله تعالى اهتمّ في القرآن الكريم بالحديث عن الآخرة وأهوالها وحساباتها، حتى يظلّ الإنسان واعياً للآخرة، لأنّه كلَّما ازداد وعي الآخرة في مشاعره أكثر، انضبط في الدُّنيا بما يريد الله تعالى له أن ينضبط أكثر.
إنّ الصائم حينما يصوم فهو بطبيعة الحال ينفتح لمتطلبات الروح وحاجات النفس.. فإنّ الإنسان حينما يُعرِض عن متطلبات الجسد لا يعود الجسم يأخذ جلّ اهتمامه، ولا يكون الجسد مضايقاً لجانبه الروحيّ من شخصيته أو كيانه.. ومن أجل تنمية انفتاح الإنسان لروحه ونفسه وما تحتاجها من أعمال فُرِض الصيام وشُرّع بالامتناع عن الأكل والشرب، لأنّهما من أهم متطلبات الجسد. فإنّ الصوم في مظهره المعنوي هو الامتناع عن فعل وارتكاب أي عمل يُنافي الشرع والإيمان، ولا ينسجم ولا يتلاءم مع التقوى والفضيلة والنية الخالصة، فالشخص الذي يتّجه إلى غير الله بالقصد والرجاء، لا صوم له.. والذي يفكّر في الخطايا ويشتغل بتدبير الفتن والمكائد ويُحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين، لا صوم له.. والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض، لا صوم له.. والذي يُحابي الظالمين ويُجامل السفهاء ويعاون المفسدين، لا صوم له.. والذي يستغل مصالح المسلمين العامّة ويستعين بما لله على مصالحه الشخصية ورغباته وشهواته، لا صوم له.. وكذلك مَن يمد يده أو لسانه أو جارحة من جوارحه بالإيذاء لعباد الله أو إلى انتهاك حُرمات الله، لا صوم له.
فالصائم ملاك في صورة إنسان.. لا يكذب، ولا يرتاب، ولا يشي، ولا يُدبّر في اغتيال أو سوء، ولا يُخادع، ولا يأكل أموال الناس بالباطل.
هذا هو معنى الصوم الذي يجمع في صورته، المادّية وهي الإمساك عن المفطرات.. والمعنوية وهي تقوية روح الإيمان بالمراقبة.. وبهذا يجمع الصائم بصومه بين تخلية نفسه وتطهيرها من المدنسات وتمليتها وتزكيتها بالطيِّبات.. وقد ورد الكثير من الروايات التي تدلّ على هذا المعنى، فقد رُوي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «مَن لا يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في حديث له أنّه قال: «فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تُماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغاضبوا ولا تسابّوا ولا تشاتموا ولا تنابزوا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة والزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر واجتنبوا قول الزور والكذب والافتراء والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيّامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزودين للقاء الله، وعليكم بالسكينة والوقار والخشوع والخضوع وذُلِّ العبد الخائف من مولاه راجين خائفين راغبين راهبين قد طهّرتم القلوب من العيوب وقدّستم سرائركم من الخبث ونظّفتم الجسم من القاذورات». وهذا هو الجانب البارز والواضح من شريعة الصوم فهو كما يقول الفقهاء: الامتناع عن الأكل والشرب وعن استعمال بقية المفطرات الأخرى.. وهذا الجانب السلبي يُمثّل لوناً من الانقطاع عن أهم حاجات الجسد وهما الأكل والشرب.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ حاجات الجسد تأخذ المكان الرئيسي أو المحور في حياة الإنسان فهو يعمل من أجل أن يأكل ويأخذ قسطاً من الراحة ليقوى على مباشرة العمل من جديد وهكذا.. وإنّ هذا الجانب السلبي في الصوم لا يعني إطلاق التنكير لحاجات الجسد لأنّه امتناع وقتي عن هذه الحاجات ولا يستلزم منه الكبت، حتى تظهر ظاهرة الكبت في نفوس الصائمين كما يتوهم البعض، فلا يعود الأمر أكثر من تحديد مؤقت لحاجات الجسد ومطالبه.
وفي الحديث: «فإن قال: فلم أُمروا بالصوم؟ قيل: لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلّوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً بما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثّواب، مع ما فيه من الانكسار عن الشّهوات ـ لأنّ الإنسان قد يقبل على الشّهوات أكثر وهو شبع، أمّا عندما يجوع، فإنّه يخفّ ضغط الشّهوة عليه، ـ وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورائضاً على أداء ما كلَّفهم، ودليلاً في الآجل، وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدُّنيا ـ لأنّ كثيراً من الناس لا يشعر بجوع الجائعين وعطش العطاشى، لأنه يملك إمكانات ماليّة ـ فيؤدّوا إليهم ما افترض الله تعالى لهم في أموالهم».
وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أمّا العلّة في الصيام، ليستوي به الغنيّ والفقير، وذلك لأنّه لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغنيّ كلَّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّوجلّ أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغنيَّپ مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع».
وورد في النتائج التي يحصل عليها الإنسان بالصيام، سواء كان واجباً أو مستحبّاً: «عليك بالصوم، فإنّه جُنّة من النّار ـ والجُنّة هي الدّرع التي تقي الإنسان في ساحة الحرب ـ وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع فافعل». وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لكلِّ شيءٍ زكاة، وزكاة الأبدان الصّيام».مقالات ذات صلة
ارسال التعليق