• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الطائر المهاجر

علي إسماعيل الجاف

الطائر المهاجر

 

جلست "نداء" في غرفتها وحيدة بجوار كتبها التي لاتفارقها للحظة واحدة، وغرقت في ثنايا الأوراق بحثاً عن رأي أو موضوع يشدها للتعاطف معه كفكرة مثيرة وغريبة تمكنها من إيقاف هوس الآخرين وثرثرة الجهلاء والناشئين. شعرت بأن مكتبتها امتلأت بسموم الأفاعي الهندية وكواسر القواطير الأفريقية والأوروبية وسطوة القرش الهائج الغربية ولطافة الحيوانات الشرقية. نظرت إلى ما حولها ودققت ملياً بجوارها، فهبت منتفضة، تبحث عن شيء يمكنها من فك قيود السلاسل التي وثقت جسدها بها طويلاً، وجعلتها تلبس ثوب الغربة والغموش بفعل مخالب الزمن الخفية. حلقت "نداء" عالياً بخيال الماضي وحقيقة الحاضر التي أنزلتها تحت الأرض سعي إلى إيجاد الملاذ الآمن كي تجد ما يسكت قلقها ويطفئ نيران حزنها الملتهب لسنين عدة مضت، من دون معرفة متى يحل ويأتي ضوء الشمس ليشع في الغابة. وبعد سنين طويلة، أدركت "نداء" وجود ساعة جدارية تشبه في شكلها طائر السنونو، وسمعت دقات الثواني التي تصدرها تلك الساعة من دون توقف، فانتفضت قائلة: "إنه أثمن الموجودات على الأرض، والوحيد الذي لا يقبل التراجع، فما الذي أفعله بكتبي وببحوثي ودراساتي العلمية والإنسانية وأنا لا أجد تفسيراً واحداً يفسر لي حالتي؟". ربت الفارس على عنقها وهنأها. من يراها ويرى النظرات التي تطلقها لا يمكنه أن يخطئ في أنها معجبة به. زمجرت السيدة بكلمات مبهمة وغامضة قائلة: "ما رأيك في ليلة الغد، وأصوات الطيور المغردة الموجعة والمؤلمة؟". أجاب قائلاً: "بهية الطلعة، والأكثر أهمية ومقاماً وثراءً أيضاً". كان لزوجة ملك الغاية شعر أحمر اللون وعينان خضروان، وهذا مزيج لا يوجد عادة إلا في القصص الروائية. وأخذ يطري على جمالها بأعذب الألفاظ طوال السهرة تقريباً، فتجاوبت معه لكن بتحفظ شديد وبأن مثل هذه الأفعال لم تعد تخدعها، وهذا دعاه أكثر إلى أن ينجذب إلى عينيها اللتين تومضان ببريق غريب لم ير مثله من قبل. خامره شعور بأن هذه الرسالة ليست الوحيدة التي تعترض وتحتج على غيابه وعلى تأخره بالاتصال، فقال لنفسه: "أوه.. لماذا على النساء أن يضعن ما يفكرن فيه دائماً على الورق؟". دخل غرفته بعد ذلك، وقذف بالرسالة فوق طاولة الزينة، ولم يعد يفكر فيها إلا بعدما استيقظ في صباح اليوم التالي عندما وجدها أمامه. ورفع رأسه ليوجه عينيه صوب الساعة الجدارية، التي وضعت بداخلها صورة "طائر السنونو" ليرى كم قضى من الوقت في ليلته الماضية؟ وهل ثمة وقت كافٍ لقراءة كتاب (Time of Change) ومعناه "حان وقت التغيير لمؤلفه الكاتب الإنجليزي Waste Time. وبعدها، تناهى إلى سمعه عندما اقترب من المكتبة صراخ قوي أعقبه عويل وبكاء. صعق "زمن" لما شاهده أمامه، فقد وجد ابن عمه "قدر" بوجهه العابس المقطب، بينما تقوقعت هي على الأرض في منتهى الضعف. لقد ضربها بعصا الخيزران ضرباً مبرحاً، حتى إن ملابسها التي كانت ترتديها، تمزقت وسالت منها الدماء. ثمّ انحنى، وحمل الطفلة التي كانت تبكي بكاءً موجعاً. كان وجهها محتجباً بشعرها الأشقر الطويل، وعندما حاول "زمن" أن يلامس كتفها ليخفف عنها، صرخت بألم بسبب الجروح التي سببها لها "قدر". وبلطف شديد يثير الدهشة، أحاط "زمن" الشال حول الصغيرة، فتلطخ بدمائها، ثمّ ألبسها معطفها ووضع قلنسوة المعطف فوق رأسها. سحب يده من يدها بعد ذلك، وتوجه إلى الباب، ثمّ التفت إليها ولوح بيده، فرفعت يدها تلوح له هي الأخرى. بعدها، وجد اليخت الذي يملكه يرسوفي الميناء وكأنه هو الآخر ينتظر أوامره ومستعد للإبحار في أي وقت يريده "زمن". لوحوا له بأيديهم بعفوية صادقة وبحماسة شديدة. ضحك "زمن" وقال: "أرى أنك بدأت تشم رائحة مكر واحتيال تجري وتدور، وتفضل أن توطد طريقك بنفسك، لكن إذا احتجت لأي مساعدة، فأنت تعرف أنني مستعد لأي خدمة لك". حدث صمت طويل، أعقبه كلام هادف يذكره بالماضي: "حتى إن في إمكانه أن يتذكر عينيها المتفتحتين وأنفها الأحمر وشفتيها المضطربتين، وأكثر من أي شيء آخر، الدماء التي سالت من أنحاء جسدها بعد الضرب الشديد الذي تلقته من "قدر". بلغ "زمن" ريقه ثمّ تابع حديثه ناصحاً "نداء" وهو يقول: "غداً"، وعندما تذهبين في نزهتك اليومية في "غابة الأوهام"، ستجدين أن لا أثر لعش "طائر السنونو" كونه اجتماعياً وقريباً إلى الناس ويشيد عش الزوجية قربنا.. يسكنه الآخرون في غيابهما، وستشاهدين متسولة قرب الشجرة الضخمة، إنها امرأة عجوز ستمد لك يدها مستعطية، امنحيها قطعة نقدية. علقت "نداء" قائلة: "إنه حقاً لأمر شائن". تبدلت ملامح الدهشة عن محيا "نداء" ليحل مكانها حيرة وتفكير شديدان، وخامرها شعور بأن "زمن" مازال يخفي شيئاً آخر بداخله، ربّما يكون مزعجاً. بعدئذ، أظهرت ابتسامة واهية. وخيم صمت لبضع لحظات. تراها تنكمش وتجفل من أي رجل قد تقابله، وترفض أن تتكلم معه أو أن تقترب منه، باستثناء "الطائر المهاجر" الذي كونت معه علاقة حميمة وقرر بناء عشه فوق مكتبتها ليزوره مرة كل عام.

ارسال التعليق

Top