شهر رمضان شهر القيام وهو القيام للصّلاة في الليل والتهجّد فيه، فيما سنّه الإسلام في ليالي رمضان من ذلك كلّه، حتى ورد استحباب صلاة ألف ركعة في لياليه زيادةً على النوافل المستحبّة، حيث تتوزّع على ليالي الشهر في ترتيب معين.. وهذا الشهر مميزاً من هذه الجهة بالطريقة التي تكون ذات طابع عبادي تهجّدي الذي يمنح التخطيط الروحي لبناء الشخصية الإسلامية فيه، بُعداً واسعاً متنوعاً في ما تتمازج فيه العناصر العبادية في الليل والنهار، لتحقّق النتائج المطلوبة منه في أكثر من موقع.
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). نعم نزول القرآن في هذا الشهر الفضيل ليكون هذا الحدث العظيم الذي انطلقت من خلاله حركة الإسلام الفكرية في خط المنهج والشريعة والمفهوم التي وضَع الوحي القرآني قواعدها وأصولها، وحدّد مفرداتها وأوضاعها، عنواناً للقيمة الإسلامية لهذا الشهر، في ما يكتسب الزمن من قيمة كبيرة من خلال الأحداث الواقعية فيه.
وقد أراد الإسلام أن يؤكد ذلك، فدعا إلى تلاوة القرآن بشكل واسع في هذا الشهر، حتى جعل تلاوة كتاب الله فيه مساوية لصيامه، كما جاء في الخطبة المروية عن رسول الله في استقبال شهر رمضان: "فاسألوا الله بنياتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه".
وإذا كان القرآن قد نزل في هذا الشّهر المبارك، فلابدّ للناس من أن ينفتحوا عليه من خلال الهدى الذي تتضمَّنه آياته، ومن خلال البينات التي تثبّت للإنسان خطوط الهدى التي تدلّ على مواقع النجاة، وتعرّفه كيف يميّز بين الحقّ والباطل في ما يتعرّف عليه من الفواصل التي تفصل بينهما، فلابدّ من أن تكون التلاوة في هذا الاتجاه..
وفي دعاء للإمام زين العابدين (ع): "فأبانَ فضيلتَهُ على سائر الشهور بما جعلَ له من الحرُماتِ الموفورةِ والفضائلِ المشهور، فحرّم فيه ما أحلّ في غيره إعظاماً، وحجَرَ فيه لمطاعمَ والمشارب إكراماً، وجعلَ له وقتاً بيّناً لا يجيزُ جلّ وعزّ أن يُقدَّم قبلَهُ ولا يقبلُ أن يُؤخّر عنه...".
وهذه ميزة من ميزات شهر رمضان على سائر الشهور، فقد جعل الله له من الحرُمات الكاملة التي توحي بقداسته في ما يلتزمه الناس من حدود الله فيه، ومن الفضائل المشهورة في ما جعل له من الخصائص الروحية والعملية، ما يوحي فيه بالخير والفضل الكبيرين على مستوى النتائج الكبيرة التي يبلغها العاملون فيه في علوّ الدرجة عند الله. وهكذا حرّم الله فيه المآكل والمشارب واللذات التي لم يحرّمها في غيره من الشهور، كإيحاءٍ بعظمته من خلال ما يستهدفه هذا التحريم من غايات عظيمة على مستوى مصير الإنسان في الدنيا والآخرة، وكمظهر من مظاهر الإكرام له في ما أراد الله للناس أن يتعبّدوا له بذلك، ليكون الالتزام بترك المطاعم والمشارب عبادةً يتقرّبون بها إليه، كما يتقرّبون بالعبادة إليه، وحدّد له وقتاً معيناً، لا يتسع للتقديم وللتأخير في المساحات الزمنية الأخرى، لأنّ الله أراد للزمن العملي أن يخضع للنظام العام الذي يريده الله للحياة في التزام الناس به وخضوعهم له، حتى يتعرّف الناس في علامات الزمن، إلى علامات الطريق إلى الله.
وهكذا يتكرّر فرض الصوم في كلّ عام، فيبعث من جديد في شعور الأُمّة الذكرى المقدّسة حيّة مرة أخرى وكأنّ ليالي القدر في كلّ عام محطات سنوية تتزوّد منها البشرية طاقتها لعام جديد مما يُحيي فيها العزم والثبات، ويُذكّرها بأعظم نعمة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق