فالفنان مقحم بالضرورة في هذا المعترك. والفن الذي ينتج عنه رسالة اجتماعية تربوية تؤدي غايتها من أجل الحياة والمجتمع، لابدّ أن تكون بالطبع متشعبة واسعة الأرجاء تدخل في سائر صنوف الحضارة البشرية. لهذا نرى من خلالها فعالية الفن وقوة إيجابيته، ووفرة مردوده وأثره في كل ما ولجه الإنسان وطرق بابه، سواء أكان في الطبع أو الفكر، في العقل أو الخيال، في التفس أو الروح إلخ. قال أرسطو قديماً: "وما الفن إلا بعض ملكة إنتاجية يوجهها العقل الحق". قال هيجل حديثاً: "بالفن أحرز الإنسان أوّل انتصار على المادة، قبل أن ينتصر عليها انتصاراً كلياً بالعلم". وأما (هوبسمان) فقد قال: "إذا صح أنّ العلم هو اكتشاف نظام كوني عام، وضروري بوساطة القياس. فما الفن، هذا الإنسان المضاف إلى الطبيعة هذا التسامي بالواقعية اليومية، إلا اقتلاعاً من المادية إلى الخارج..".
فالفن هو بجوهره اكتشاف وجهد وفكر، إلى جانب كونه إبداعاً وخلقاً وخيراً وجمالاً. فهو يجمع بين وحدة الفكر والطبيعة، كما يقول شبلنغ الألماني؛ وهو يجمع بين وحدة الخيال والعقل. ففيه نتذكر مثلنا ونتصور نماذجنا وانسجامنا، وفيه نكتشف السمو الكامن في أعماق وجودنا، وهو كل الكمالات المشفوعة بها قوانا الروحية والنفسية والجسدية – المادية –. إنّه بمثابة المركز الهندسي لجميع القيم التي يهدف بها الإنسان نحو الخير والجمال والحق. وبهذا المفهوم المشبع بالسمو والتجريد والعمل والعاطفة يمثل الفن، كما أسلفت، مكانته الاجتماعية في الأُمّة. ويأخذ قسطه الأوفى في رسالة التربية فيها. فهو أفضل الأدوات التي يتربى (يتعلم) الإنسان بواسطتها كيف يضاف إلى الطبيعة وكيف تصبح هذه الطبيعة امتداداً له، ويقلب جفافها ووحشيتها إلى حضارة ورقة وجمال. ويجعل الحياة، بالتالي فيها، تمور بالتطور والخلق والابتكار. قال غوته: "على الفنان أن يؤسس في الطبيعة ملكوته الخاص به خالقاً منها طبيعة ثانية".ولا يغرب عن بالنا أنّ السمو الفني ليس عبارة عن لذات وعواطف فحسب. بل أنّه جهد نفسي وفكري وعقلي معاً. قال تولستوي: "ليس الفن متاعاً، أو لذة، أو ألهية. بل الفن عضو حياتي في الإنسانية ينقل إلى حقل العاطفة إدراكات العقل".
وقال هربرت ماركيوز أيضاً: "حقيقة الفن تقوم على تحرر الحساسية في إعادة توافقها مع العقل". وأما جوانب التذوّق فيه – في الفن – جوانب العواطف لا تكون كما هي عليه في الطبيعة. بل تكون دوماً مشفوعة بجوانب الجمال ومصعدة بقيمه العالية السامية التي تطرد كل المشاغل النزوية من ساحها. وتعلو على كل الطبائع الحيوانية في الإنسان. فمن نافذة الجمال هذه تمكن الفن أن يصبح أداة تربوية صالحة في المجتمع، مثلاً في معالجة قضايا الكبت، وإظهار كل المشاعر والأحاسيس المطمورة بالقمع والقسر. إظهارها بصورة إنسانية راضية. مسلمة بالقيم النابعة من أغوار النفس الإنسانية وعلى رأسها قيم الحرية. فالفن أكبر وسيلة لتربية الحرية في نفس الفرد والمجتمع معاً. وأكبر عامل لنفي كل مظاهر العبودية والاستلاب في المجتمع. يقول هربرت ماركيوز نفسه: "ارتباط الفن بالصورة يعوق نفي العبودية. وحتى يتحقق نفي الاستلاب ينبغي أن يظهر الاستلاب عبر الفن بمظهر الواقع الراهن والتحكم فيه.. فالفن هو حليف الثورة". وحتى لا يكون الفن قد قاد الإنسان إلى الحرية الفردية، التي ينشدها أعداء المجتمع والحياة. النزاعون إلى التقوقع على الذات والاستغراق في التأمل. المحصور بين عظام الجمجمة وبين أربعة جدران.. البعيد عن أي نبض في الحياة. وعن أيّة معاناة ميدانية في الواقع. لتبقى "الأنا" بنظرهم شامخة في قصرها العاجي الخيالي. كما يقول (كلود برنار) أحد المتطرفين في هذا المذهب: "إنّما الفن أنا". بل ليكون الفن الحقيقي هو الذي يقود الإنسان ليتعامل مع الحرية، ليس بمفهوم هذه "الأنا" المطلقة، بل بمفهوم "الأنا – النحن". فالفن بطبيعته الأصلية ذو طابع اجتماعي بحت وإن كان من صنع إبداع ذاتي. لأنّّ هذا الإبداع الذاتي يعكس العام من النماذج بشكل فردي محسوس. يعكس كل ما يشعر به الناس. ويحول الخفي المبهم عندهم إلى شعور تام واضح. فالفن إذن ناتج عن انعكاسات الصور الواقعية في الطبيعة والحياة والمجتمع. انعكاساتها في عدسة نفس الفنان الشفافة. هذا الإنسان المكثف لمجتمعه المحشود وعياً لواقعه. المصفى من نقاء المناقب والصفات وخلاصة الوجود. فهو الإنسان الفرد – العام، إذا جاز هذا التعبير. المستشرف لزمنه، القابض على دفة المبادهة في قضايا الحياة بشعور من الحرية المسؤولة.► المصدر: كتاب (في معنى العمل ومقالات أخرى في التربية والفن والمنطق العلمي)مقالات ذات صلة
ارسال التعليق