وسيم شكيب الدوهجي (كاتب وأكاديمي سوري مقيم في أيرلندا)
◄إنّ تطوّر العلم مرتبطٌ بشكل وثيق بمدارك الناس، وهو ينبع من التأثير المتبادل والحافز المشترك في ما بينهم... فما من ظاهرة طبيعية في الكون بسيطة كانت أو معقّدة إلّا واستطاعت الفيزياء، بصفتها علماً متجدداً تفسيرها وشرحها بشكل أو بآخر. فالفيزياء تدرس كلّ ما يتعلّق بالمادة وحركتها وطاقتها، وتحاول أن تفهم الظواهر الطبيعية والقوى المؤثرة في سيرها، وصوغ المعرفة اللازمة من خلال قوانين تفسّر الظواهر السابقة وتتنبأ بمسيرة العمليات الطبيعية بنماذج تقترب من الواقع.
وتهتم الفيزياء كذلك بدقّة القياس وابتكار طرائق جديدة له تزيد من دقّتها، وبذا تُقدّم ما توصّلت إليه من طرائق للاستخدام في جميع العلوم الطبيعية والحيوية الأخرى مثل الكيمياء والطّب والهندسة والأحياء وغيرها.
إنّ الفوتون Photon هو كمّ (أصغر جزء) الطاقة الضوئية، أمّا الفونون Phonon فهو كمّ الطاقة الصوتية، حيث يمتلئ العالم بالجسيمات والموجات التي لا يمكن تفسيرها وتصنيفها إلّا عند اصطدامها بالوعي الذي يتأتى بأشكاله المتنوعة عند الإنسان، ويوجد في الفيزياء ثوابت أساسية لا يمكن الاستغناء عنها بتاتاً، كسرعة الضوء في الخلاء، وثابت بلانك، وثابت الجاذبية الأرضية، وثابت بولتزمان وغيرها، إذ تستند جميع القوانين الفيزيائية إلى هذه الثوابت، بالإضافة إلى ارتكازها على مفاهيم أخرى ثابتة كمفهوم ثبات الإلكترون وثبات البروتون وعدم إمكانية تفكّك أي منهما... هذه الثوابت الفيزيائية بمنزلة علامات موسيقية في السلم الموسيقى.
الإبداع نظام فيزيائي:
إنّ للأفعال التي يقوم بها الإنسان، الإبداعية منها على وجه الخصوص، درجات ومراتب، لكنها تلتقي عند حقيقة أنّ كلّ فعل هو عبارة عن تناغم... إذ يقوم المبدع بترجمة فعله الإبداعي من خلال رموز رياضية تشكّل أبجدية القوانين الفيزيائية... أما العلامات الموسيقية فهي بمنزلة أبجدية حقيقية للألحان التي يصوغها المؤلّفون الموسيقيون من خلال تدوين النوتات الموسيقية.
إنّ الطنين أو الرنين في الفيزياء هو ظاهرة يميل من خلالها النظام الفيزيائي للاهتزاز بأقصى شدة، وذلك عند تعرّض النظام لترددات معينة تسمى ترددات الطنين، التي تحدث عندها اهتزازات عالية الشدة عند أقل قدر من قوى الدفع الترددية، حيث يقوم النظام الفيزيائي بتخزين طاقة الاهتزازات، وعندما يقل امتصاص الاهتزازات (تخامد) فإنّ تردد الرنين يقترب من التردد الطبيعي للنظام الذي هو تردد الاهتزازات الحرة. تحدث هذه الظاهرة في آلة الناي الموسيقية، وهي حالة أضيق من حالة التناغم لكنها تشكّل الحيّز الأهم فيها؛ وما الموسيقى إلّا حالة من التناغم في صورة معقدة من الأحاسيس والمشاعر التي لا يمكن تفسيرها إلّا بوجود قوانين الفيزياء.
وقد عملت المدرسة الفيثاغورثية على أنّ العلم مبني على التناغم، حيث جمعت بين الرياضيات، والموسيقى، والكون فيزيائياً. فعندما تختبئ الأنماط الرياضية بين نغمات الموسيقى والمقطوعات التي تطرب الآذان، فهي تصف أيضاً موجات الاحتمال التي تشكّل روح وقلب ميكانيك الكم في الفيزياء. حيث طبق فيثاغورس مكتشفاته في نظرية الموسيقى على حركة الأجرام السماوية، فعندما تشد وتراً لكي يهتز، فإنّه ينتج نغمة محددة تتوافق مع طوله المادّي، وعندما تكون نسبة الطول بين وترين نسبة كسرية بسيطة فإنّ النغمتين مع بعضهما تبدُوان متناغمتين للسامع، وقد اعتقد فيثاغورس أنّ الكون ذاته يهتز بنغماته التوافقية الآسرة والجميلة، البعيدة عن سمع البشر، فوصف المسافات بين المدارات المتتابعة للكواكب كالزهرة وعطارد بالمبدأ نفسه (وصفها كنغمة أو نصف نغمة، لتعطي بعد ذلك النغمات السبع للسلم الموسيقي). وعندما وصف الفيزيائي الفرنسي لويس دي بروي Louis de Broglie الإلكترونات وغيرها من جسيمات المادة كحزم موجبة، كان بالتأكيد يفكّر بالنغمات التوافقية الموسيقية، حيث وضّح كيفية ظهور مستويات الطاقة المختلفة بشكل طبيعي في نموذج نيلز بور Niels Bohr الذري الذي وصف من خلاله الإلكترونات كموجات دائمة من الترددات المختلفة، وبالتالي عمّم النظرية الموجية للضوء على الجسيمات المادّية. فكما تنتج أوتار العود نغمات مختلفة عندما تُضرب بشكل مختلف، فإنّ الإلكترونات في نموذج دي بروي مجبرة على أن تهتز بأنماط معينة تتوافق مع ترددات وحالات طاقة محددة.
الألوان والوتر الموسيقي:
وقد كان الفيزيائي نيوتن من بين العلماء العظماء الذين اتخذوا الموسيقى مصدراً للإلهام، وقد دفعَتهُ الموسيقى إلى إضافة لونين جديدين إلى قوس قزح، حيث كان في القرون الوسطى ذا خمسة ألوان: الأحمر، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والبنفسجي، لكنّ نيوتن أضاف لونين آخرين هما البرتقالي، والنيلي لكي يمكن تقسيم الألوان على غرار الوتر الموسيقي.
ومن العلماء العرب الذين أدركوا أهمية الموسيقى ودورها، العالِم ابن سينا الذي ربط بين الموسيقى ونظرية التطور، إذ عدّها وسيلة من وسائل حفظ النوع، حيث قال: "لقد مَنحتِ الطبيعة الكائنات الحية الصوت ليستدعي به بعضها بعضاً، لحاجتها إلى التقارب، أو على سبيل الاستغاثة. أما الإنسان فإنّه يستعمل الصوت للتعبير عما يدور في نفسه، ثم جعل له من الصوت لغة اصطلاحية، وألبَسهُ هيئات مختلفة من خفض الصوت عند الضعف والتوسل، ومن رفعه عند التهديد وإظهار القوة وغير ذلك، لكي يكون التعبير المقصود أكمل وأوفى وأشد تأثيراً في النفس. أما تأليف الأصوات فإنما هو محاكاة لهذه الهيئات الشعورية المختلفة. فإذا ما ازدان تأليف الأصوات هذا بالنظام الموسيقي حُصرت اللذة في لنفس، لأنّ سبب اللذة هو الشعور المنتظم".
أما أبوبكر الرازي الذي لمع اسمه في عالم الطب والكيمياء فقد كان في أوّل عهده موسيقياً وضارباً مميزاً على العود، حسن الصوت والغناء. وقد استخدم الموسيقى في أغراض العلاج، حيث بحث تأثير الموسيقى في شفاء الأمراض وتسكين الآلام، ولا شكّ في أنّ الموسيقى تعدّ اليوم من وسائل العلاج في الطب الحديث. لقد توصّل الرازي إلى هذه النتيجة بعد تجارب كثيرة قام بها.
أما عالم البصريات الفيزيائي الحسن بن الهيثم فكانت له مخطوطة حول تأثير الأنغام على أرواح الحيوانات، وهي تعد أقدم مخطوطة في هذا المجال، وضرب أمثلة عن تأثير الموسيقى على سلوك الحيوان وسيكولوجيته وأجرى تجاربه على الطيور والخيول والزواحف، ثم جاء بعد ذلك اعتقاد الغرب بتأثير الموسيقى على الإنسان فقط، لكن في ما بعد وصلوا إلى ما قاله ابن الهيثم عن تأثير الموسيقى على الحيوان أيضاً.
وعُرف عن العالم الفيزيائي ألبرت آينشتاين وَلَعَه بالموسيقى وحبّه للعزف على آلة الكمان. لكنّ عزفه لم يكن مميّزاً كنظريّاته، حيث قال عنه ناقد موسيقي بعد سماع عزفه في برلين: "يعزفُ بشكل ممتاز، مع ذلك لا أفهم شهرته الواسعة في العالم! إذ هناك الكثير من عازفي الكمان الذين يعزفون مثله من دون أن يصلوا إلى شهرته" لربما كان هذا الناقد هو الوحيد في برلين، الذي لم يسمع بعد بالنظرية النسبية يومها.
وقد دخل مصادم الهادرون الكبير، الخاص بالمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN لعبة الموسيقى والفيزياء. فبعدَ تدشينه، كان أكثر العامة غير المتخصصين لا يعرفون شيئاً عنه إلّا بعض المخاوف غير العقلانية، مثل إمكانية تسبّبه في تكوين ثقب أسود يبتلع الأرض، لذلك قرّرت الفيزيائية كيت ماك ألباين التي كانت تعمل هناك، تأليف أغنية راب أسمَتها (Large Hadron Rap) وكلماتها تصف المكتشفات المتوقعة من مصادم الهادرون الكبير، حيث وصفت أغنيتها قائلة: "فيزياء الجسيمات علمٌ مبهمٌ وغير مفهوم لدى الكثيرين، فقرّرتُ أن أعدّ هذه الأغنية لتعريف الناس بما يمكن لهذه الآلة الضخمة الباهظة الثمن فعله" وقالت أيضاً: " القوافي الغنائية أفضل طريقة للتذكّر، فهكذا تَعلق الأفكار برؤوس الناس ويسهل عليهم تذكّرها". إنّ أهم ما تعرضه هذه الأغنية هو تقديم العلوم للشباب وإيضاحها، إذ لا تقتصر فقط على تشريح حيوانات أو خلط مركبات مع بعضها أو دحرجة كرات من سطح مائل.
بالرغم مما سبق... لا يمكن اعتبار الموسيقى علماً قائماً بحدّ ذاته... إذ تعتمد بشكل أو بآخر على علم الرياضيات الذي يعبّر عن معادلات يفهمها العقل المنطقي، فالرياضيات تستطيع الإحاطة بأجزاء من الموسيقى مثل "الذبذبة" أو "الموجة"، لكنها ليست الموسيقى، قد تكون ظلاً لها في منطق العقل، وعند التأليف السيمفوني يقوم المؤلف بنوع من التقسيم الرياضي لإحداث نوع من التوافق بين النغمات والجمل الموسيقية وبين الآلات الأنسب للتعبير عن الموجة أو الجملة الموسيقية التي يريد إيصالها بأحلى صوت.
وتشترك الفيزياء مع الموسيقى بأنّها ليست علماً قائماً هي الأخرى، فهي تحتاج أيضاً إلى الرياضيات، إذ لا يمكن لأي فيزيائي أن يغوص في بحر الفيزياء إلّا اعتماداً على قوانين رياضية لا يستطيع عنها فكاكاً، وهي تشكّل قاعدة أساسية لأي مفهوم فيزيائي. فالموسيقى هي لغةُ الحياة، والجملة الموسيقية ما هي إلّا أصوات متتابعة في نوتات مختلفة، كلّ واحدة لها زمنها الخاص، تتوالد واحدة بعد أخرى، تموت واحدة لتخلق أخرى في زمن آخر، بشرٌ في بلدان مختلفة، نجومٌ تتوالد وتفنى، ولا نرى منها إلّا الضوء بعد ملايين السنين.
صفوة القول أنّ العلم والفن هما من أعظم السيمفونيات في عمر الزمن، فالفيزياء بوصفها علماً مرتبطة بشكل وثيق بالناس، والعلمُ بوصفه يُحاكي الواقع يحتكم إلى العقل في توجّهاته، أمّا الموسيقى باعتبارها فناً فهي تحاكي العاطفة، وعندما يجتمع العقل والعاطفة في مفاعل واحد، فحضّر نفسك – عزيزي القارئ – للحصول على طاقة هائلة لا يمكن تفسيرها وشرح ماهيتها إلّا اعتماداً على مبادئ وقوانين تحكمها الفيزياء.►
المصدر: مجلة العربي/ العدد 685 لعام 2015م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
سهيل /كندا
أشكر الكاتب على مقالته الغنية والمليئة بالصور التي تذهب بنا بعيدا ..أعجبني تشبيه الناس في البلدان المختلفة بالعلامات الموسيقية المختلفة وهذا ان دل على شيء فهو يدل على خيال ساحر لدى الكاتب