• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن الكريم.. صالح ومصلح لكل زمان ومكان

د. محمَّد السيد يوسف

القرآن الكريم.. صالح ومصلح لكل زمان ومكان

بعث الله رسوله محمّداً (ص) خاتماً للنبيين وجعل رسالته رسالة عالمية، باقية، حتى قيام الساعة. وأتم الله نعمته فأنزل القرآن الكريم؛ ليكون روح هذا الدِّين ولسانه الناطق.

وكان من اللازم أن يكون هذا الكتاب الكريم ثريّاً بالخصائص والقدرات التي تجعله جديراً بالبقاء والخلود، ومؤهلاً لخطاب العالمين، على اختلاف أجناسهم، وتباعد أزمنتهم.

ولقد كان القرآن الكريم – والحمد لله – كذلك، فأدى دوره على خير وجه، وقام بمهمته خير قيام، وظهر أثره الإصلاحي الواضح في المجتمعات التي استظلت بنوره، ونعمت بهداه.

وأحاول في هذه السطور القليلة من هذا التمهيد أن أجلي هذه الحقيقة الخالدة، حقيقة أنّ القرآن الكريم صالح ومصلح لكل زمان ومكان. فأقول وبالله التوفيق:

إنّ المنهج القرآني هو المنهج الوحيد على ظهر الأرض الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، وذلك للأسباب الآتية:

أوّلاً: القرآن الكريم خطاب الله تعالى الأخير إلى البشرية وهو اللبنة الأخيرة في صرح النبوت. وهو النص الوحيد الذي تكفل الله – سبحانه – بحفظه، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9)، وهو الكتاب المهيمن على كل ما سبقه من كتب قال جلّ شأنه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة/ 48)، يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية الكريمة: [جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها].

وفي ظلال هذه الآية الكريمة يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله –: "إنّ القرآن الكريم هو كتاب هذه الرسالة التي جاءت تعرض الإسلام في صورته النهائية الأخيرة؛ ليكون دين البشرية كلها، ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً، ولتهيمن على ما كان قبلها، وتكون هي المرجع النهائي، ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها".

ثانياً: خطاب القرآن الكريم خطاب عالمي لكل الناس من شتى الألوان والأجناس، حتى قيام الساعة، فهو منهج الله الخالد الذي يخاطب البشر كافة في كل زمان ومكان على اختلاف ألسنتهم وتباعد ديارهم وأماكنهم.

فلم ينزل القرآن الكريم لمجتمع مكة والمدينة، ولا لمجتمع العرب، ولا لزمن الرسالة فقط، بل هو كتاب الأبد ورسالة العالمين. قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف/ 158).

وهذا خطاب من الله تعالى لنبيه (ص) أن يقول للناس جميعاً – عربهم وعجمهم – حتى قيام الساعة: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، وهذا من شرفه عظمته (ص).

أنّه خاتم النبيين، وأنّه مبعوث إلى الناس كافة.

وقال عزّ وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان/ 1).

وهذه الآية ترسم الغاية من تنزيل القرآن على النبيّ (ص) (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) وهذا النص مكي، وله دلالته على إثبات عالمية الرسالة منذ أيّامها الأولى، فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين، طبيعتها طبيعة عالمية شاملة. والضمير في "ليكون" راجع إلى النّبيّ (ص)؛ لأنّه أقرب مذكور، كما ذكره صاحب الفتوحات الإلهية وقال الرازي في تفسيره: "العالمين: كل ما سوى الله تعالى من المخلوقات، فيتناول جميع الثقلين، من الجن والإنس، فدلت هذه الآية على أنّه رسول للخلق أجمعين في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة".

ثالثاً: شمولية القرآن الكريم، ووفاؤه بكل حاجات البشر (فلقد احتوى القرآن الكريم على رسم متكامل لصورة المجتمع الفاضل، وذلك بما حواه من سياسة الإصلاح لكل مناحي الحياة".

"لذلك فقد وسع المنهج القرآني العالم الإسلامي كله، على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمانية، ولم يقف المنهج القرآني يوماً مكتوف اليدين أمام وقائع الحياة المتغيرة".

"وقد اشتمل القرآن الكريم على أصول الشريعة، وقواعها في الحلال والحرام، وجاءت أكثر أحكامه مجملة تشير إلى مقاصد الشريعة، وتضع بيد الائمة والمجتهدين المصباح الذي يستنبطون في ضوئه أحكام جزئيات الحوادث في كل زمان ومكان، وهذا سر خلود الشريعة، وشمول قواعدها الكلية، ومقاصدها العامة لما يحدث في الناس من أقضيات".

يقول الشاطبي في الموافقات: القرآن فيه تبيان كل شيء؛ فالعالم به على التحقيق عالم بجميع الشريعة، لا يعوزه منها شيء والنصوص القرآنية صريحة بهذا من ذلك قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).

وقوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس/ 57). ولا يكون القرآن الكريم شفاءً لما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء.

وقوله جلّ شأنه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).

يعني الطريقة المستقيمة، ولو لم يكمل في الشريعة جميعمعانيها لما صح إطلاق هذا المعنى على القرآن حقيقة.

رابعاً: ثبات المنهج القرآني ومرونته: وهذه السمة من أعظم دلائل إعجاز القرآن الكريم، وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان.

فلقد جاء المنهج القرآني موافقاً للمقومات البشرية المشتركة العامة، التي لا تزول ولا تتغير، ولكنها تنمو وتتشكل مع بقاء أصلها الثابت. قال تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30).

فالإسلام وضع الخطوط الثابتة، والمبادئ العامة والقواعد الشاملة التي لا تخرج أطوار الإنسان في النهاية عن حدودها، وترك التطبيق لتطور الزمان، وبروز الحاجات، في حدود مبائه العامة، وقواعده الشاملة. ولم يُدل بتفصيلات جزئية مقيدة إلا في المسائل التي لا تتغير حكمتها، والتي تؤدي أغراضها كاملة في كل بيئة، والتي يريد الله تعالى تثبيتها في الحياة البشرية.

والإسلام بهذا الثبات والشمول، وبهذه المرونة كفل لأحكامه التطبيقية البقاء والنمو والتجدد والصلاحية، والقدرة على الإصلاح مدى الدهر.

"ومع ثبات الأسس التي قام عليها المنهج القرآني، وثبات أحكامه؛ إلا أنّ الله تعالى قد أودعها مرونة عجيبة جعلها تتسع لمواجهة كل جديد، ومعالجة كل حادث بغير عنت ولا إرهاق".

خامساً: المنهج القرآني هو المنهج الذي جربته الأُمّة من قبل، فأثبت نجاحه، وقدرته الفائقة على إسعاد الأفراد وإصلاح المجتمعات.

وفي ظله، وتحت سلطانه سعدت الأُمّة بالطمأنينة، والعدل والاستقرار، والسعادة، وأعزها بعد ذل، وعلمها بعد جهل، وهداها بعد ضلال، واجتمعت عليه بعد فرقة، وتآخت في ظله بعد عداوة وشحناء، ومن أنكر هذا فقد كذب التاريخ ونفى الواقع، وجحد نعمة الله، وتنكر لكلام مولاه حيث قال سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران/ 164).

"ومن المعلوم أن أفضل أنواع العلاج، ما جربه المريض، فحسم داءه، وعجل شفاءه. والأحمق من الناس هو الذي يدع الدواء المجرب، الموفور عنده، ليبحث عن دواء جديد لدى أعدائه، مع أنّ هذا الدواء الذي يلتمسه لم يشف أصحابه، ولم يهيئ لهم العافية، ولم يزدهم إلا خبالاً".

وكما أصلح القرآن الكريم المجتمع الذي نزل فيه وما بعده من المجتمعات المتجددة والتي أخذت بهديه، واستضاءت بنوره، فهو كفيل بأن يصلح المجتمعات المعاصرة. ويعالج القضايا المتجددة؛ لأنّه لا يزال – بحمد الله – يحمل كل عناصر النمو والتجدد والكفيلة بأن تجعله صالحاً للتطبيق في كلّ مجتمع وإن اختلفت مقوماته قليلاً أو كثيراً عن مقومات المجتمع الذي نزل فيه القرآن.

ولن يصلح آخر هذه الأُمّة إلا بما صلح أوّلها. وسيظل المنهج القرآني النبوي – على اختلاف الأزمان والأجيال – الدواء لكل داء، والحل لكل مشكلة، والعصمة من كل ضلال، وذلك بنص حديث النبي (ص) الذي يقول فيه: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي".

سادساً: طبيعة النصوص القرآنية مهيأة للعمل في كلّ زمان ومكان، وهذا من أعظم جوانب إعجاز القرآن الكريم، وعظمته، وكماله فالقرآن الكريم يخاطب الإنسان في كلّ العصور، وفي كلّ البقاع.

"فالنص القرآن معد للعمل في كلّ وسط، وفي كلّ تاريخ، وليس فقط في وسط أولئك الذين عاصروا الحادث وشاهدوه فحسب. بل هو معد للعمل في النفس البشرية إطلاقاً بنفس القوة التي عمل بها في الجماعة الأولى، بشرط أن يوجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب".

فمتى وجد الإنسان، وحيثما وجد فهو مخاطب بهذا المنهج؛ لأنّه أنزل من أجله.

يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – في تفسيره: "إنّ هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي في مكان معيّن، وإنما جاء منهجاً مطلقاً خارجاً عن قيود الزمان والمكان، منهجاً تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي نزل فيه القرآن".

"ولذلك فإنّ المتدبر للنص القرآني، يجده – غالباً – يغفل أسماء الأشخاص، وأعيان الذوات، ليصور نماذج البشر، وأنماط الطباع، ويغفل – غالباً – تفصيلات الحوادث، وجزئيات الواقع، ليصور القيم الثابتة، والسنن الباقية، هذه التي لا تنتهي بانتهاء الحدث. ولا تنقضي بانقضاء الملابسات، ومن ثمّ تبقى قاعدة، ومثلاً لكل جيل ولكل قبيل".

وبعد هذا العرض المجمل والسريع يمكننا أن نقرر بيقين، وأن نقول مطمئنين: إنّ المنهج القرآني هو المنهج الوحيد الصالح، والمصلح لكل زمان ومكان. فهو المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه، وهداهم إليه وأمرهم باتباعه. فهو منهج أبدي غير محدود بزمان ولا مكان وإنما هو منهج لكل البشر في كل الأرض، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولقد وصل المجتمع المسلم في صدره الأوّل، بهذا المنهج قمة الكمال التي لا يمكن أن يصل إليها بشر، ثمّ انحدر عن هذه القمة لما أعرض عن كتاب الله وهديه، ومازال في هذا الانحدار حتى وصل في هذا العصر إلى درجة كاد يرجع فيها إلى جاهليته الأولى، أو أشد.

 

*مُدرس بكلية أصول الدين والدعوة بالزقازيق

 

المصدر: كتاب منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع

ارسال التعليق

Top