• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوفاء بالعهد والميثاق في القرآن الكريم

أسرة البلاغ

الوفاء بالعهد والميثاق في القرآن الكريم
◄من المبادئ الأساسية في ثقافة القرآن، وبناء الشّخصية الإسلامية، هو مبدأ التّثقيف على أهمِّيّة الإلتزام الذّاتي.. الذي من أبرز مصاديقه الوفاء بالعهد والميثاق. إنّ مساحة واسعة من سلوك الإنسان ترتبط بالإلتزام.. والإلتزام يُنظِّمه القانون الإسلامي، كما تُنظِّمه الأخلاق والقانون الوضعي أيضاً.. إنّ العقود والمعاهدات والمواثيق القائمة بين أطرافها تُنظِّم المساحة الواسعة من سلوك الإنسان وعلاقاته الإقتصادية والمالية والسِّياسية والاجتماعية.. إلخ، بل والعبادية أيضاً.. إنّ الإنسان يستطيع أن يدخل بإرادته واختياره طرفاً في أيٍّ من الالتزامات المشروعة.. وبهذا الاختيار والقرار الإرادي، يلزم الإنسان نفسه، ويصبح مُلزماً أمام الله سبحانه وتعالى، وأمام الطّرف الآخر، وأمام المجتمع والقضاء.. إنّ الإلزام والإلتزام وفقَ الشّريعة الإسلامية له مصدران، هما: 1-    الشّريعة الإسلامية: بما جاء فيها من عبادات وأحكام وقوانين لتنظيم المجتمع والعلاقات بين الأفراد والجماعات والدّول، ويتلخّص التّشريع الإلزامي في الشّريعة الإسلامية في مجالين أساسين هما: أ‌-      الإلزام التّحريمي: فالإنسان مُلزَم بترك ما حرَم الله عليه.. كشرب الخمر والإحتكار والرِّبا والغيبة والزِّنا والظّلم وقتل النفّس البريئة، والإستيلاء ظلماً على ما الغير... إلخ. ب‌- الإلزام الوجوبي: فالإنسان مُلزَم بأداء الواجبات التي فرضها الله عليه.. كالصّلاة والصّوم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوفاء بالعقود وبالعهد والميثاق، وبرّ الوالدين، والحفاظ على الأمن والنِّظام، وأداء الزّكاة، والدِّفاع عن الأوطان والمظلومين، وإطاعة الحاكم العادل... إلخ. 2-    أمّا المصدر الثّاني للإلتزام والإلزام: فهي الإرادة الشخصية، شريطة أن لا يُخالف هذا الإلزام والإلتزام أحكام الشّريعة الإسلامية وقِيَمها.. ومن أوضح مصاديق الإلتزام الذاتي هي العقود.. إنّ العقود تُنظِّم معظم سلوك الإنسان الاجتماعي.. فعقد الزّواج، وما ارتبط به من شرائط، هو أساس بناء الأُسرة وتنظيم الحياة فيها.. إنّ الطّرفين بعد أن ينطقا بصيغة العقد عن إرادة ورضى، يصبحان مُلزمين بالآثار المُترتِّبة على هذا العقد.. ويُحاسبهما القانون والمجتمع على الإخلال به.. كما هما مسؤولان أمام الله سبحانه يوم الحساب. وأطراف العقد في البيع والشِّراء والإجارة والشّركة والمضاربة والدَّيْن وغيرها، مُلزمون بما ألزموا به أنفسهم، وعليهم الوفاء والأداء.. إنّ الوفاء بالعقود يتوقّف عليه الأمن والنِّظام الاجتماعي، وضبط السّلوك والعلاقات، واستقرار المجتمع.. وفي حال الإخلال بالعقود تحدث المشاكل والخلافات والإعتداء والجرائم، وتضيع الحقوق، وتختلّ موازين العدالة.. لذلك أكّد القرآن على وجوب الوفاء بالعقد.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1). وبل ويتحدّث الإمام عليّ بن موسى الرِّضا (ع) عن الإلزام والإلتزام في المذهب والرّأي الفقهي، فيقول: "الزِمُوهم بما ألزَموا به أنفسهم"[1]. فعندما يكون في المسألة الاجتهادية أكثر من حُكْمٍ لدى الفقهاء والمجتهدين، فكلّ مَن يتّبع فقهياً يكون ملزماً باجتهاد ذلك الفقيه والمجتهدين، فكلّ مَن يتّبع فقيهاً يكون ملزماً باجتهاد ذلك الفقيه وفتواه أمام الآخرين وأمام القضاء، وينفذ هذا الحكم بحقِّه، لأنّه ألزم نفسه باتِّباع هذا الفقيه، أو المجتهد.. ويُوضِّح الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) أنّ الإلزام ذاته ينطبق على أصحاب الديانات.. فيقول: "مَن دانَ بدينٍ ألزَمَتْهُ أحْكامه"[2]. والعقود والمعاهدات تُنظِّم العلاقات بين الأفراد والجماعات والدّول.. وتحفظ الأمن والسّلام العالمي.. واحترام العهد والعقد والميثاق الصّادر من الإنسان هو احترام لإرادته وذاته.. وفي حال انعدام الإلتزام بالعهود والمواثيق، فسينساق المجتمع البشري إلى الحروب والمشاكل والصّراعات.. لذا نجد القرآن الكريم يؤكِّد على وجوب الوفاء بالعهد حتّى للّذين يختلف معهم المسلمون في العقيدة والمصالح.. وتلك أسمى درجات الإلتزام الأخلاقي والقانوني.. قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا) (الإسراء/ 34). (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) (النحل/ 91). (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة/ 177). (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (التّوبة/ 4). وكما تشهد السّيرة النبوية، فإنّ الرسول (ص) كان قد وقّع عدّة معاهدات مع اليهود ومع المشركين والنّصارى، فأوفى بعهده ووعده.. ويعتبر القرآن أنّ الوفاء بالعهد من صفات الله تعالى.. جاء ذلك في قوله سبحانه: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التّوبة/ 111). (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة/ 40). بل ويدعو القرآن إلى الوفاء بالوعد، كما يدعو إلى الإلتزام بالعهد والعقد.. وكما هو واضح فإنّ العقد والعهد ينشآن من قِبَل طرفين بإرادتهما، والوعد ينشأ من طرفٍ إلى طرفٍ آخر.. كالّذي يعد زوجته أو أبناءه أو شعبه بوعدٍ كالهديّة أو العمل النّافع لهم.. فيكون مسؤولاً عن الوفاء به.. جاء في الحديث الشّريف: "المُؤمِنُ إذا وَعَدَ وَفى". وقال الله سبحانه وتعالى يصف النبيّ إسماعيل (ع) بقوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً) (مريم/ 54). هكذا يتسامى القرآن الكريم في ثقافته بالإنسان، وبالإرادة الإنسانية، فيجعل من الإنسان جهة مسؤولة عن العقد والعهد والميثاق، وبذا ينتظم سير المجتمع والعلاقات بين الشعوب والدّول، وتقلّ المشاكل والنّزاعات.    
[1]- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج8، ص58، رقم الحديث 190. [2]- يراجع المصدر نفسه.

ارسال التعليق

Top