• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

باقٍ من الزمن ربع الساعة

د. إيمان مغازي

باقٍ من الزمن ربع الساعة

بدت قلقلة مضطربة، وقد زاغت منها العينان، وارتجفت اليدان مع دقات قلبها التي تتابعت مسرعة، وكأنّها تجري منذ وقت طويل.. كانت لا تصدق نفسها أنّ الوقت قد أزف، وأنّ الزمن المحدد قد أوشك على الإنتهاء.. انتابتها حالة من البكاء رغماً عنها مع ثورة عارمة في نفسها من الندم، بدت واضحة على قسمات وجهها الحزين.. كان ذلك حين اخترق صوت المراقب أذنها وسط قاعة الامتحان التي اكتظت بها وبمن معها من الطلبة والطالبات وهو يعلن.. باقٍ من الزمن نصف الساعة.
لقد أصابها ذلك بالفجيعة لفقدان الوقت الذي انسلّ من بين يديها في غمرة سهوها، وعدم تقييمها الدقيق له، وهالها ذلك الموقف من نفسها حيث لم تدرك قيمته ولم تقسّمه أو تنظّمه حسب عدد الأسئلة التي أمامها مدونة في ورقة الإختبار.. لقد كانت ثلاثة أسئلة كبيرة، وكل سؤال يتفرع منه عدة أسئلة أخرى، لكن الوقت قد ضاع، وتفلت منها من حيث لا تشعر، وهي بعد لم تتم الإجابة على كل الأسئلة حتى تصل إلى درجة النجاح التي تتمناها، وترغب في الحصول عليها.
- تقصير وتفريط:
حاولت أن تهدأ لكنها فشلت؛ فقد أخذ الإضطراب منها كل مأخذ، ومع ذلك فإنّ الأمل ظلّ يراودها ويدعوها؛ لتحاول من جديد ولا تيأس.. أمسكت بالقلم وبدأت من جديد، لكنها في هذه المرّة صدّتها صعوبة السؤال بالنسبة لها، وأيقنت للمرة الثانية كم هي مقصرة مفرطة حيث لم تعمل حساباً لتلك الساعة، ولم تدرب نفسها طوال العام على حل الأسئلة المختلفة في هذه المادة التي تختبر فيها، فقد كانت تظن أنها أسهل من ذلك بكثير؛ لذا، فلم تُكلّف نفسها مشقة عناء المذاكرة، وعناء مشقة السهر معها؛ فكان ما كان من نسيان وتعثر.. وكما قال القائل: لا يُنال العلم براحة الجسد.
وبدأ صوت المراقب من حين لآخر يردد: باقٍ من الزمن ربع الساعة.. عشر دقائق.. خمس دقائق.. دقيقتان ونجمع ورق الإجابة.. دقيقة واحدة لا غير.
وشرع المراقب يجمع الأوراق، وهي لا تكاد تصدق أنّ الوقت قد مضى بهذه السرعة العجيبة، وأن ذاكرتها قد خدعتها وخانتها بهذه الطريقة: فجلست تفكر وهي واجمة.
ومع دموعها التي انسابت على وجنتيها جعلها تفكّرها إلى أبعد من قاعة الإمتحان، وسرح بها الخيال، وأخذها إلى مكان أوسع وامتحان أكبر، ليس فيه عَود، ولا إعادة ولا إختيار، فهي إما أن تجيب على أسئلته فتنجح إلى الأبد، وإما أن تتعثر فتسقط وتقع إلى غير نهوض إلى الأبد أيضاً.
- قيمة الوقت:
وتفكرت في نفسها، ولأوّل مرّة تدرك حقيقة قيمة الوقت، وتعي قول النبي (ص): "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". وتحرك قلبها بعد أن لامس الإيمان أوتاره؛ فهزها؛ ليحدث فيه صوتاً جميلاً من آهات الندم ودعوات التوبة وقد استقبل شحنات إضافية إيمانية من قاعة الإختبار القابعة على أرض الجامعة التي تدرس فيها.
عاشت بقلبها وروحها لحظات الإمتحان النهائي لها في مدرسة الحياة؛ لترى نفسها وهي في سكرات الموت، وقد جاءها الأجل المحتوم، وانتهى وقت الجد والإستذكار رغماً عنها ما حدث في هذا الإمتحان الآن.. هاهم الأهل يحيطون بها، والروح تُمتَحن وتُختبر، لكنها في تلك اللحظات الحرجة هي فقط مَن تواجه أسئلة الإمتحان، وهي المخاطبة بها دون الحاضرين الملتفين حولها، وهي بلا شك تحتاج للنجاح والفوز فيه.
- لحظات الإحتضار:
عاشت مع نفسها لحظات الإحتضار تلك حيث تتمنى أن تُؤخَر ساعة من الزمن؛ لتستعد أكثر لنجاح أكبر في دار الخلود، إنّ لها آمالاً عريضة وأماني كثيرة، إنّها تريد لها في الجنة بيتاً.. لا بل قصراً.. تريد غراساً في قيعانها وأنهاراً، لكن الأمر ليس بالتمني فقط، والله تعالى يقول: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (النساء/ 123-124).
وتتوالى الأماني على خاطرها تدق باب قلبها، وتستنهض همتها الراكدة في بحر الشهوات الغارقة في لجج الحياة الدنيا، التي ستفارقها عمّا قليل حين تبلغ الروح الحلقوم.. (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة/ 83-85).
إنّها تريد أن تتوب إلى الله، وترد المظالم لأهلها.. أن تستسمح من ظلمته، وتتصالح مع من خاصمته، أن تبرئ ذمتها ممن اغتابته.. أن تصل أرحامها وتبر أباها وأُمّها، أن تخرج زكاتها وتطهر مالها، أن تحافظ على صلاتها وتصلح من حجابها، أن تحسن خلقها وتحب أخواتها، أن.. وأن.. وأن..
أن تعمل عملاً صالحاً قبل أن ينتهي وقت الإختبار وتذهب ساعته.. (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون/ 99-100)، قبل أن تطلب الفرصة فلا تمنحها، وتتمنى العودة فلا تنالها وتريد الأوبة فلا تقبل منها.. حيث لا فرصة حينها ولا عودة ولا أوبة.. إنّها تتمنى أن ترجع لكن ليس من أجل الأهل أو العشيرة أو الصديقات.. بل لتستزيد من أعمال البر والتقوى.. لكن الجواب يتردد على مسامعها: (.. إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (يونس/ 49).
- تمنِّي الرجعة:
أتريدين العودة وتتمنين الرجعة؟ ألم تستمعي إلى الأيام والليالي وهي تخاطبك بمجيئها وإنقضائها؟ أو ما جاءك النذير في طلوع شمس كل يوم ومغيبها، وفي إكتمال الأهلة وذهابها، وفي تفلت وقت الإمتحان من بين يديك؟ وما من يوم إلا يقول: ابن آدم، قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك فانظر ماذا تفعل فيّ.. إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك.. ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، أنا الذي قدمت عليكم جديداً وقد حان مني تصرّم، فلا يستطيع محسن أن يزداد فيّ إحساناً، ولا يستطيع مسيء أساء أن يستعتب فيّ من إساءته، فإذا ما انتهى وقت اليوم وانصرم؛ فإنّه قد مات إلى الأبد، لكن ما اكتسبه المرء فيه قد حسب له أو عليه.
سالت دموعها بين يديها تأثراً وندماً، وفي لمح البصر، وجدت نفسها وقد انتقلت إلى امتحان أكبر من سابقه.. وقد وقفت بين يدي الله عزّوجلّ للسؤال، وتذكرت قول النبي (ص) "ليس منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ولا حاجب يحجبه، فيقول: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فيقول: "بلى، ثمّ يقول: ألم أؤتك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى. ونظرت إلى نفسها وأشفقت عليها، ليت شعري ماذا سيكون من شأني في هذا الإمتحان الصعب؟ وماذا ستكون الإجابة؟ فزعت من هول هذا المنظر وخشيت من الخزي والندامة، هل تراها ستنجو حقاً وتنجح فتفوز، أم تقع وتسقط مع الهالكين..
- تساؤلات شتى:
دوامات من القلق تحيط بها وسحابات من الكآبة تعلو وجهها، وتساؤلات شتى تدور برأسها.. كيف أتلقى كتابي يوم حشري؟ وما النتيجة يوم حسابي؟ وكيف الحال وسط هذا الحشد الهائل من البشر من لدن أبينا آدم عليه السلام إلى يوم الدين؟ أي فضيحة تلك؛ إذ تعلن النتائج على رؤوس الأشهاد وأمام الملأ جميعاً؟ عفوك يا الله، غفرانك يا حليم.. سترك يا ستير.. أسبغ علينا واسع رحمتك.
رأت نفسها وهي تتسلم نتيجة الإختبار الحقيقي النهائي وهي التي تخشى أن ترسب في إمتحان عامها الدراسي ذاك، ستتلقى النتيجة المعلن عنها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.. (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف/ 18)، شهقت من هول الموقف ودق قلبها في خوف ووجل، وبطريقة لا شعورية مدت يدها وبسطتها لتأخذ النتيجة وتتسلمها، لكنها أفاقت من شرودها على إثر دمعة حارة سقطت على خدها، وشعرت بحرارة الإيمان تسري وتتوقد في قلبها، تختلط بأصوات من حولها من الصديقات اللاتي أحسسن بما تعانيه، وإحترمن سكوتها وصمتها، وقدرن مشاعرها ورغبتها في عدم الكلام.. أما هي فقد أيقنت أن من وراء كل محنة منحة، وأن في هذا درساً عظيماً لها لن تنساه ما كانت تشعر به إلا في قاعة الإمتحان التي ضمتها، شعرت أنّها قد استفادت من هذه التجربة المريرة، وأفاقت من غفلتها وتداركت تقصيرها وتسويفها فرددت في نفسها تستحثها: هيا يا نفس.. هلمي وانهضي.. فما زال وقت إمتحانك جارياً، فجدّي واجتهدي تنجحي وتسلمي.. في الدنيا والآخرة.

ارسال التعليق

Top