• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

توسّع دائرة التفكير

ماجد أحمد الوشلي

توسّع دائرة التفكير

◄الفكر معيار قيمة الإنسان:

تُقاس قيمة الإنسان بما يحمله من أفكار في الأمور المعنوية، فهو بواسطة هذا الفكر يتجاوز حدود الحيوانية والصغائر؛ ليرقى إلى درجات الإنسانية العُليا والترقي المعنوي لابن آدم إنما يتحقق بفضل تفكيره في أمور الدنيا والآخرة.

ولدينا آيات متعددة في القرآن الكريم يُبيّن فيها الله سبحانه أنّ مخلوقاته كافة إنما هي أدلة، وآيات حقّ لمن يتفكر فيها ويتدبرها.

قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 11).

كما يمدح الله سبحانه أولئك الذين يذكرون الله دائماً، قال تعالى:

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (آل عمران/ 191).

وكذلك يذمّ أولئك الذين يعرضون عن التفكير، والتدبُّر بقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24).

ما أكثر ما يختلط الأمر على البعض بين موضوع التفكير، ونسج الخيال، فالفكر هو البحث عن العلم واليقين، وعلى أساس "مبادئ معلومة" للوصول إلى المراد المجهول، فمالم ينطلق بالفكر من مبدأ صحيح واضح، فسيخفف من الوصول إلى النتيجة، كما سيجر صاحبه إلى حد ما للوقوع في نسج الخيال.

ومن التفكير الذي يبحث على سمو الإنسان التفكير في عالم الوجود.

والتفكير هو المسير من الباطل نحو الحقّ والتخلص من الباطل والوصول إلى الحقّ نتيجة لهذا التفكير في حين أنّ الخيال يبلغ بصاحبه إلى ظُلمات الجهل والأوهام الباطلة، ويقعد به عن الوصول إلى أي نتيجة.

أوّل التفكر: التنبّه إلى جهل النفس، وأوّل التفكر والسير في الطريق الصحيح إنما ينطلق من البداية بالخروج من الجهل المركب للنفس؛ أي اعتراف الإنسان وإحساسه بجهله لأمور كثيرة، وأنّ عليه التصدي لها للخروج من هذا الجهل، فيبعث هذا الإحساس حتى يدفعه للتفكر، وبعد التأمّل في النتائج تظهر له موجباتها ويتضح الطريق أمامه.

وبديهي أنّ الأدلة، والبراهين، والاستدلالات المنطقية، والقواعد التي تصل بهذا الموضوع هي عوامل مساعدة على الارتقاء بالفكر وتصحيحه غير أنّ ما هو أكثر منها أهمية، وبحثاً على الرضا إنما هو رعاية الله عزّ وجلّ وعنايته.

·      التحلي بالتفكُّر والذكر:

بعد إزالة عوائق المعرفة الإلهية، يجب المداومة على أمرين: التفكر، والذكر، يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 191).

·      التفكُّر في الخلق من أفضل العبادات:

يقول أمير المؤمنين علي (ع): "نبِّه قلبك بالتفكُّر".

هذه الإشارة إلى أنّه من الممكن في بعض الأحيان أن لا تبلغ قيمة المعرفة التي يكتسبها الإنسان من عبادة دون تفكر، تلك التي يكتسبها من تفكر في خلق الله.

وقال أيضاً: "ولو فكروا في عظيم القدرة، وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق (معرفة الله) وخافوا عذاب الحريق".

أي لأدركوا أنّ ما بعد هذا العالم، عالم الجزاء، والثواب، والعقاب، ولخافوا من ذلك.

·      الجذور المتنوعة للتفكير:

يقول أمير المؤمنين علي (ع): "التفكير يدعوا إلى البرّ، والعمل به".

التفكير المذكور في قول أمير المؤمنين (ع) يشتمل على جميع أنواع التفكير الصحيح.

التفكير في عظمة الله الذي يحمل الإنسان على خوف الله وطاعته.

والتفكير في زوال الدنيا، ولذّاتها التي تحمل الإنسان على تركها وتجنبها.

والتفكير في عاقبة الأُمم الذين كانوا فيما مضى حيث يحمل ذلك الإنسان على إتباع آثارهم والاقتداء بأعمالهم.

والتفكير في عاقبة المذنبين والمسيئين حيث يُوجب ذلك الورع عما كانوا يفعلون.

وكذلك التفكير في عيوب النفس، وآفاتها الذي يوجب الاهتمام بإصلاحها.

والتفكير في الدرجات الأخروية الرفيعة الذي يحمل الإنسان على تحصيلها.

والتفكير في الأحكام والمسائل الشرعية الذي يدعوا الإنسان إلى العمل بها.

والتفكير في الأخلاق المرضية الذي يدعوا الإنسان إلى تحصيلها ليتجمّل بها.

كلّ هذا التفكير ليصل الإنسان المؤمن إلى غاية الهدف، وإلى الوصول إلى أهم درجة ومنزلة وهي (رضوان الله تعالى)، وأن يعبد الله على أكمل وجه، وأن يتخلق بأخلاق الأنبياء، والمرسلين والأولياء، والصالحين، ويكون في طريقهم والعمل بما جاء به القرآن الكريم، وكذلك وصول النفس إلى الكمالات المعنوية التي يسعى الإنسان إلى بلوغها، وبهذا التفكير يصل الإنسان إلى سعادة حقيقية في الحياة.

·      حقيقة التفكير:

أهمية التفكير في الحياة تكون في توجيه سلوك المسلم، والارتقاء بإيمانه فإذا كان للتفكير الداخلي من مشاعر وإدراكات حسية وتخيّل وأفكار، كلّ هذا الأثر في تكوين سلوك الفرد وميوله، وعقائده ونشاطه الشعوري، واللاشعوري، وعاداته الحسنة، والسيئة اتضحت لنا بعض جوانب الحكمة من اهتمام القرآن الكريم، والسنة النبوية بموضوع التدبّر والتفكر في خلق السماوات والأرض بالطريقة التي تملأ العقل، والقلب بجلال الخالق سبحانه.

(الفكر) هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلّها، وإنّه من أفضل أعمال القلب، وأنفعها له.

وبالرغم من أنّ ما ذكرناه هو آخر ما توصل إليه علم النفس المعرفي موضوع التفكير، فإنّ هذا الأمر لا يكن خافياً على علماء المسلمين القُدامى فقد فصّلوا القول عن أهمية الخواطر، والأفكار التي تدور في الذهن قبل أن تصبح دافعاً تزداد قوّة حتى ينفذها الفرد بالفعل في واقع الحياة، فإذا كررها أصبحت عادة.

كما فصّلوا القول عن استمرار النشاط الفكري الداخلي للإنسان، هذا النشاط الذهني لمن أراد أن تكون أفعاله خيّرة، أن يراقب أفكاره، وخواطره وأن يديم ذكر الله، والتأمُّل، والتفكُّر في خلق السماوات والأرض.

فإذا ما ظهرت الخواطر، والأفكار فستتبعها الأقوال، والأعمال وأكدوا بأنّه يسهل على المرء أن يغير الخواطر، والأفكار الضارة قبل أن تصبح شهوة ودافعاً.

واعلم أنّ مبدأ كلّ عمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنّها توجب التصورات وتدعو إلى الإرادات، وتقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره وتعطي العادة.

فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها.

فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليّها، وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابة، فإنّه سبحانه به كلّ صلاح، ومن عنده كلّ هُدى، ومن توفيقه كلّ رُشد ومن توليّه لعبده كلّ حفظ في جميع شؤون حياته.

الفكر يؤدي إلى التدبُّر، ثم يؤدي إلى التذكير، وإلى الإرادة والعمل، وبعد ذلك يستحكم في الذات فيصير عادة.

إذن فالتفكير يستفيد من كلّ الأساليب المعرفية التي يستخدمها الإنسان في عمليات التفكير، لكنه يختلف عن التفكير في عُمقه وفي أن يُعبّر بتصوراته، ومفاهيمه من الدنيا إلى الآخرة، ومن المخلوقات إلى خالقها جلّ وعلا وهذا العبور ما يعبّر عنه باصطلاح العبرة والاعتبار.

فالتفكير محصور في حل المشكلات الدنيوية، وربما يكون بعيداً عن العاطفة والانفعال.

أما التفكر بعبوره برزخ الدنيا، وضيقها إلى سعة الآخرة، وخروجه من سطح المادة إلى انطلاق الروح اللانهائي يحرك جميع نشاطات المؤمن المعرفية الداخلية والخارجية؛ لذلك أكّد الغزالي على أنّ التفكر هو: (احضار معرفتين في القلب ليستثير منهما معرفة ثالثة تامة).

·      بالتفكُّر تتكامل المعرفة الفطرية:

بداية الدين الإلهي، وأوّل دعوات الأنبياء، ومناهج المذاهب الإلهية معرفة الله تعالى، أوّل نقلة فكرية للإنسان يجب أن تتم فيما يتعلق بالله فتتكامل المعرفة الفطرية الإجمالية، لتجد طريقها إلى المعرفة التفصيلية.

ومعنى أن يتوصل الإنسان إلى معرفة الله هو أن يعرف أنّ لهذا العالم صانعاً، فالعالم حادث، ولكلّ حادث محدث؛ هذا القدر من العلم هو من المعرفة الفطرية، وكلّ إنسان يدرك في قرارة نفسه هذا الأمر، فما من شيء يوجد من دون علة أو سبب.

إنّ الطفل عندما يبلغ مرحلة الشعور إذا ما وضع أحد من ورائه شيئاً أمامه، فإنّه قبل أن يمد يده إلى ذلك الشيء ينظر أوّلاً إلى خلفه ليرى من الذي أتي بهذا الشيء، فالشيء الذي لم يكن موجوداً من قبل في هذا المكان ثم وجد لابدّ أنّه يحتاج لموجد لأنّ الإيجاد حادث.

إنّه يدرك ووفقاً لفطرته أنّ عالم الوجود وهذا الذي ترونه له محدث لأنّ المصنوع حادث، إذاً فيحتاج إلى خالقه.

ينظر إلى بدنه فيشاهد النظام والحكمة، في كلّ أجزائه عندما يستيقن أنّ خالقاً عالماً، قادراً قد أوجد هذه المعرفة الإجمالية التي هي فطرته، يجب تنميتها عن طريق التدبّر في الآيات، والتفكر في الآثار ويجب تقويتها لتبلغ مرحلة التصديق، واليقين الذي لا يشوبه شك.

 

الخلاصة:

إذا نظر الإنسان في نفسه، وفي الآيات، والبيّنات التي وضعها الله سبحانه وتعالى في النفس البشرية، وفي هذا الكون المليء بالغرائب، والعجائب سيرى مدى قدرة الله سبحانه، وعلمه بكلّ شيء في هذه الحياة وسيجدد التفكير في كلّ شيء خلقه الله حتى يصل إلى غايته، وهدفه، ويصل إلى الكمالات المعنوية التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها، وكذلك دائرة التفكر في الإنسان تكبر، وتكون لها أبعادٌ استراتيجية في جميع شؤون حياته.

وعندما يكون الإنسان دائماً في نطاق التفكر فستظهر له غرائب، وعجائب كثيرة في حياته وسيتضح له سر الوجود، وسر هذه الحياة الفانية، وسيكون في مرحلة كبيرة من التقدم، والازدهار، والعلم الذي يحقق له كلّ الأمنيات والغايات التي تكون في مصلحة الأُمّة الإسلامية، وفي مصلحة الحياة السعيدة الراضية التي يكون منتهاها رضوان الله سبحانه، والفوز بالنعيم الدائم التي أعدها الله سبحانه لعبادة المؤمنين.

فسرّ التفكير يقوّي الإرادة الذاتية في النفس، ويوجهها إلى الصلاح والخير في الحياة.

قال الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت/ 53). ►

 

المصدر: كتاب طريق الإرادة إلى مستقبل السعادة

ارسال التعليق

Top