• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حكاية تناغم بين ذكاءين

د. أحمد شعلان*

حكاية تناغم بين ذكاءين

◄لقد أخذ الذكاء الاصطناعي – الذي يقوم "دماغه" في الحواسيب والهواتف الذكية على رقائق السيليكون – بعداً آخر مع تطوّر العلوم والتكنولوجيا النانوية وتطبيقاتها. وبالرغم من أنّ هذا الذكاء السيليكوني هو وليد للذكاء الجيني البشري، حيث يتشكل الدماغ من خلايا عضوية المنشأ أساسها الكربون، فإنّه يبدو أنّ الجنس البشري أمام مرحلة أقرب إلى الخيال من تداخل الذكائين في عملية عملقة العقل وقدراته، ولم نعد بعيدين عن زراعة الشرائح النانوية الذكية مباشرة في أدمغة البشر بغية توسيع ميادين العقل إن في مجال الذاكرة أو في التفكير والاحتساب!

والغريب أنّ هذا التناغم بين الذكائين لا يعكس أصل العلاقة الملتبسة بين والديهما: الكربون (أبو الذكاء الطبيعي) والسليكون (أبو الذكاء الاصطناعي).

فالذكاء الطبيعي الجيني – هدية الله للبشر – ابتدعته الطبيعة الكونية من مواد عضوية تتمحور حول ذرة الكربون، وطوّرته تدريجياً على امتداد مليارات السنين. أما الذكاء الاصطناعي فقد اخترعه الإنسان انطلاقاً من ذرة السيليكون وخصائصها الكهربائية والضوئية. وبالرغم من أنّ هذين العنصرين ينتميان إلى العائلة ذاتها، المصنّفة في الصف الرابع في لوح "مندلييف" للعناصر الذرية، فإنّهما يختلفان في الطبائع والصفات والسلوك!

 

الكربون، أبو الذكاء الجيني:

فالكربون، أبو المواد العضوية بامتياز، عنصر شائع في الطبيعة، وهو الرابع في تشكيل مواد الكون بعد الهيدروجين والهيليوم والأكسيجين. وينتشر الكربون ملتحماً بالأكسيجين فتجده في الهواء كأوّل أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون، وتجده في التراب والأخشاب والأجسام الحية، وتجده في الفحم ورماد الأجسام المحترقة بحالة غير متبلورة، كما تجده متبلوراً في حبات الألماس، أو مضغوطاً  كألماس نادر في فصيل من النجوم يقال لها "الأقزام البيضاء" حيث يزن فص الخاتم منه أكثر من ألف طن!

وفي حالته الرخامية (غرافايت) يشكّل الكربون جدران الدعم والحماية حول المفاعلات النووية الانشطارية. كما استطاع العلماء حديثاً، في إطار أبحاث علوم المواد والفيزياء النانوية، إنتاج مواد كربونية جديدة تقوم جزيئاتها على مصفوفات من عشرات بل مئات الذرات الكربونية في جزيئة واحدة! إحدى هذه المواد، "الغرافين"، عبارة عن كريستال ثنائي الأبعاد يمكن أن يصنع منها ألواحاً ميكروسكوبية لا تزيد سماكتها على نانومتر واحد (جزء من مليون من الملليمتر). والكربون، حين يتّحد بالهيدروجين وحده يؤسّس لعالم من الفيول: من غازات الاشتعال المنزلي إلى وقود السيارات إلى الكحول إلى كلّ أنواع الهيدروكربير. أما حين يضمّ في مجمّعاته الذرية، إضافة إلى الهيدروجين، الأكسيجين وذرّات أخرى (نيتروجين، فوسفور، ...) فهو ينتج، بمساعدة الماء، عالماً من المواد العضوية الخصيبة التي وحدها تستطيع استضافة الحياة ورفد المخلوقات الحية بمستلزمات البقاء والتطوّر، وصولاً إلى الدماغ البشري المعقّد والذكاء الجيني البيولوجي. ويشكّل الكربون حوالي 20 في المائة من وزن هذه المخلوقات الحية، التي تمتصه عبر الهواء كأكسيد الكربون، لتعيد توزيعه في آلاف الجزيئات المكوّنة للخلايا والأنسجة الحيّة.

 

السيليكون، أبو الذكاء الاصطناعي:

أما السيليكون، فهو شائع في بيئتنا الطبيعية، ويشكّل المكوّن الثاني – بعد الأكسيجين – للقشرة الأرضية، ومعاً (الأكسيجين والسيليكون) يشكلان 75 في المائة من قشرة سطح الأرض. وهو العنصر الثامن في تكوين الكون بعد الهيدروجين والهيليوم والأكسيجين والكربون والنيون والحديد والنيتروجين. وفلكياً، يصنع السيليكون داخل القلب النووي المستعر لنجوم عملاقة تفوق كتلتها 8 أضعاف كتلة الشمس. فحين تنفجر مثل هذه النجوم كمستعمرات عظمى (سوبرنوفا) توزع أشلاء طبقاتها الخارجية في الكون فتساهم في تثرية السدم والكواكب بالمواد والمعادن الثقيلة.

وفي بيئة الأرض تجد السيليكون مؤكسداً كحبيبات رملٍ زجاجية المظهر تملأ شواطئ البحار والمحيطات، وفي كثير من الأحجار المتبلورة التي يسمى بعضها "أحجاراً كريمة". كما تجده بحالات متميزة في كثير من أنواع النيازك المعدنية. ولطالما اغتسل الرمل أو ثاني أكسيد السيليكون بمياه البحار دون أن يتأثّر بها أو يتفاعل معها أو ينشئ بمساعدتها جزيئات مختلفة أو بنىً طبيعية تذكر. وقد بقي مستلقياً على الشواطئ لمليارات السنين إلى أن وصلت إليه اليد البشرية الاحترافية فاستخدمته أوّلاً في بطون البيوت والتعدين وبلاط السيراميك، ثمّ في صناعة الزجاج والخزفيات، وبلورات الإبصار، وفي الدهانات والعوازل الحرارية والأجهزة التي تتطلب حرارة عالية، ثمّ في خلايا إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، والليزر، وصولاً إلى الأجهزة الإلكترونية كافة، حيث يلوّث بنسبٍ مدروسة ومحدودة جدّاً ببعض انصاف الموصلات الأخرى – مثل البورون أو الجرمانيوم أو الفوسفور أو الزرنيخ – لصناعة الترانزستورات والخلايا الشمسية الفوتوفولتية وغيرها من المكوّنات الميكروإلكترونية الأساسية.

ويعتبر السيليكون واحداً من أكثر العناصر إفادةً للجنس البشري، وقد وصلت خدماته، عدا عن الميادين العلمية التي أثرت حياة البشر ورفّهتها، إلى الطب الحديث وحيث بات يستعمل كأهم مادة في العمليات التجميلية، وبات يزرع تحت الجلد في أجساد البشر دون أن يتفاعل مع الأنسجة الحية أو يؤذي وظائفها. فهو بمعظم تجلياته الجزيئية غير سام أبداً، باستثناء بعض السيليكات مثل الاسبستوس (الذي تصنع منه ألواح الإنترنيت والفيبرغلاس) التي تعتبر من المواد المسرطنة.

لكن الفتح الأكبر لعنصر السيليكون ظهر في عالم الذكاء الاصطناعي ودنيا الإلكترونيك والنانوتكنولجيا، حيث صنعت بواسطته رقائق ذاكرة الكمبيوتر وشاشات "إل. سي. دي" و"إل. إي. دي"، والدوائر الميكروإلكترونية في الهواتف الذكية. ويماً بعد يوم تصغر أحجام الرقاقات السيليكونية وتكبر سعتها الرقمية وإمكاناتها وتتنوع طرق الاستفادة من "ذكائها الاصطناعي"، وربما نشهد في المستقبل القريب زراعة مباشرة لمثل هذه الرقاقات في دماغ البشر بغية عملقة العقل والتفكير البشري.

وهكذا تتحفنا الطبيعة الكونية بعناصرها الذرية المختلفة التي تفوق المائة عنصر. ولئن شهدنا هذا السباق والتناغم بين الكربون والسيليكون في تشريف الحياة البشرية وعملقة الذكاء، فإن لكل عنصر ذرّي آخر دوره الأكيد في البناء الكوني، وما علينا سوى المزيد من التبصّر والبحث والانتظار لاكتشاف آفاق هذه العناصر وتجلياتها في الطبيعة والحياة.►

 

*أستاذ الفيزياء، رئيس قسم الفيزياء بجامعة لبنان

 

المصدر: مجلة العربي العلمي/ العدد العشرون لسنة 2013

ارسال التعليق

Top