أسرة
حتى تثق بشيء كلّ الثقة لابدّ أن يكون هذا الشيء خالياً من أيِّ نقصٍ، أو عيبٍ، أو حاجةٍ، وشاملاً لكلِّ صفات الكمال التي تجعله غنيّاً عن غيره، والغيرُ كلّه يقف في طابور الحاجة إليه (اللهُ الصَّمَد) (الإخلاص/ 2)، والصمد لغةً السيد الذي يُصمَد إليه في الأمر، أو يُقصد إليه بالدعاء والطلب، أي أنّه في غاية السؤدد ومنتهى الكمال، قائم بنفسه غني عن غيره، وقال بعضهم: إنّ الصمد الذي يقول للشيء: كنْ فيكون!
من هذه التعريفات للصّمد، نفهم أنّ معناه أوسع ممّا قد تُحدِّده معاجم اللّغة، فوصف الله (المصدر) بالصمد، يعني نفي كلّ صفات المخلوقين عن ساحته المقدّسة، وهذا هو معنى (التعالي) في قولنا الله تعالى، أو تعالى الله علوّاً كبيراً.
ماذا يفيدنا هذا؟
إنّه نقطة انطلاق قوية نحو ما نريد أن نصل إليه، فحينما يكون الله تعالى السيِّد الذي يقصده الناس بحوائجهم، وهو كامل ومملوء من كلّ الجهات لدرجة الإفاضة، فإن ذلك مدعاة للطمأنينة في أنّ الرجوع إلى المصدر أو القوّة المطلقة يغطِّي كلّ الحاجات الأساسية والثانوية بما فيها الحاجة إلى الصحة النفسية.
وكما أنّنا إذا أردنا أو حاولنا تعداد نِعَم الله تعالى لا نحصيها، فإنّنا كذلك إذا حاولنا استعراض سمات قوّته تعالى لا نقدر على احصائها، وما سنشير إليه لمحات من تلك القوّة الشارحة للصدر، الباعثة على الأمان والإطمئنان، المُنزلة للسكينة في أوقات الحاجة إليها، وفي وقت خذلان المصادر الأخرى وتخلِّيها أو انكفائها.
1- الإرتباط بالمصدر إرتباط بمفيضِ النِّعم:
الارتباط بالله تعالى يعني الارتباط بـ(الوفرة) بـ(الفيض) وبـ(اللانهاية) ارتباط بمَن بيده (الأمر كلّه) وبمَن (لا تنقص خزائنه) من كثرة العطاء، وارتباطٌ بمَن يعطي مَن سأله ومن لم يسأله، تحنّناً منه ورحمة، ارتباطٌ بمسخِّر كلّ ما في الكون من كائنات ومخلوقات وثروات لعبده المكرم (الإنسان).
إنّك كلّما ازددت معرفةٍ بالله وبآفاق نِعَمِه، إزددت يقيناً أنّ الطلب من غيره هو طلب (فقير) من (فقير)، أمّا الطلب منه فمن فقير محتاج عاجز قاصر، إلى غنيٍّ كريمٍ جوادٍ يسبغ عليك نعمةً ظاهرةً وباطنةً، فنحن جميعاً عياله والله تعالى لا يضع مَن يعوله أبداً..
إنّ معنى (ربّنا الله) هو أنّه يرعانا برعايته، ويدبِّر أمورنا بتدبيره، هو وليّ أمرنا، وولي نعمتنا، وولي الإحسان إلينا.. إنّ وجودنا كلّه بين قوسين من لطفه ورحمته. لو أصدر أمراً بالتوقّف عن أداء وظيفته لتوقفت أنفاسنا سريعاً ولمتنا.
إنّ علاقة (المُحسِن) إلى (المُحسَن إليه) لابدّ أن تكون علاقة (حبّ) وعلاقة عبوديّة، ألم يُذكر في الحكمة المأثورة أنّ: "الإنسان عبدُ الإحسان"، وأيّ إحسانٍ أجزل وأفضل من إحسان الله الخالق، الرّازق، المنعم، المدبِّر، المهيمن على الأمر كلّه.
في كتابه (قوّة العزيمة)، يُشبِّه الدكتور (واين دبليو داير) الارتباط بالمصدر تشبّهاً معبِّراً وموحياً وجميلاً، إنّه أشبه بـ(التشبّث بمقبض الحافلة) وينقل لنا ذكرياته عن هذه المقابض المتدلِّية من سقوف الباصات أو الحافلات:
"أذكر أنني كنتُ أشاهدُ من موضع جلوسي مقابض الأيدي وهي متدلِّية. كان الكبار فقط هم الذين يملكون القدرة على الإمساك بهذه المقابض!
وحينما بلغت سنّ الرشد، أصبحت أستخدم صورة مقبض الحافلة لكي يُذكِّرني بالعودة إلى العزيمة: أتصوّر أنّ هناك مقبضاً متدلِّياً على بعد ثلاثة إلى أربعة أقدام من رأسي، بعيداً عن نطاق قدرتي لالتقاطه.. أصبحت الحافلة بمقابضها المتدلِّية تُمثِّل بالنسبة لي طاقة العزيمة المتدفِّقة. إنّني ما أن أترك المقبض يفلت منِّي، أو أن أتصوّر أنّه بعيد المنال مؤقتاً، في أوقات الضغوط، والقلق، أو حتى الإرهاق الجسدي حتى أغمض عيني وأتصوّر يدي وهي تمتد إلى أعلى، وأرى نفسي وأنا أطفو إلى الأعلى كي أمسك بالمقبض. وبمجرد أن أمسك به، يعتريني شعور فيّاض بالراحة والتحرّر".
وهذا هو الذي عناه القائل: "إلهي ما يفقدُ مَن وجدَكَ، وماذا يجدُ مَن فقدَك".
ويقول الإمام علي بن الحسين (ع): "الحمدُ للهِ الذي أغلَقَ عَنّا بابَ الحاجةِ إلّا إليه"!!
2- الإرتباط بالمصدر إرتباط بالعفوّ، الغفور، التوّاب:
حينما تردّد مع الإمام السجاد زين العابدين (ع) وكبير العارفين:
"الحمدُ للهِ الذي.. لم يبتدءْنا بعقوبته، ولم يُعاجلنا بنقمته، بل تأنّانا برحمته تكرّماً، وانتظرَ مراجعتنا برأفته حلماً"[1].
فانّك هنا لا تطلق كلمات التغزّل بمحاسن قابلة للنّقصان أو الطّمس أو التحوّل، إنك هنا مرتبط بمصدر الثبات والدّيمومة الذي من حقِّه إن عصيت أو انحرفت أن يعاقبك من دون إمهال ولا تأخير، عدلاً من حُكمهِ فيك بعد ما أقام الحجّة عليك وزيّن لك الإيمان، ورغّبك بالطاعة، وكرّه إليك الفسوق والعصيان، لكنّه لا يُبادرك بما تستحق العقوبة ولم يعاجلك بالنقمة، بل يمهلك تكرّماً منه وتفضّلاً، ورحمةً ولطفاً وامتناناً، لعلّك ترجع بالتوبة الصادقة إليه.
إنّ التوبة إلى الله تعالى والعودة إلى ساحته، وهي ساحة الأمان والسعادة لهي أحبُّ إليه من أن يُعذِّب عبداً في النار لأنّه تعالى (يحبُّ التوّابين) (البقرة/ 222).. أتعلم أنّه علّم ملائكتَه الموكلين بحفظ وتدوين ما تفعله أن لا يُسارعوا لتسجيل سيِّئة ارتكبتَها، فعساكَ بعد حين تتذكر فترجع مستغفراً تائباً منيباً، فلا يكون ما ارتكبت في صحيفة أعمالك؟!
لولا (التوبة).. لولا هذا الباب المفتوح على السماء وعلى الدوام، لكنّا في زنزانةٍ ضيِّقةٍ لا يدخلها النور والهواء. ولتمادينا في المعاصي أكثر ممّا نفعل الآن، لولا هذه النسمات الهابة من الناحية المقدّسة: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى/ 25)، لكانت الكرة الأرضية بالوناً مفرّغاً من الهواء.. لما أجدى معنا كلّ تنفّس اصطناعي بالبشر.
إنك حينما تعرف أنّ هناك وعداً صادقاً بأنّ التوبة تعملُ عمل الممحاة: "التائبُ من الذّنب كمن لا ذنبَ له". وأنّ الله تعالى يرفض لك أن تكون يائساً ومُحبطاً من كثرة ذنوبك وإسرافك على نفسك: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزمر/ 53).. تتماثل للشّفاء بأسرع وقت ما ما أثخنتك به فترات الابتعاد عن المصدر. ليس هناك دواء على الاطلاق بهذه السرعة بالشفاء إنّ توبتك تعني رجوعك للمصدر. تعني عودتك للطريق الرئيس بعد أن بقيتَ تتخبّط في الشوارع الفرعية والملتوية وغير المعبّدة. هناك في خرائط الطرق الحديثة (مخارج)، إذا سرت على غير الطريق، أو تشتبهت عليك الطرق، يمكنك أن تدخلَ إلى أحد المخارج، لتعود إلى الطريق الأوّل الذي ابتدأت السير فيه.. تعلّم كيف تخرجُ لتدخلَ أو تواصل السير في الطريق السريع.
تقول الدراسات النفسية الحديثة إنّ الرحلة الروحانيّة تعني تخلّص الشخص من جهله بذاته وحياته، والنمو التدريجي لهذا الفهم، وأنّ (الوصول إلى الله) يعني (العثور على الذات) ممّا يشرع في إحداث (يقظة روحيّة).
وللشاعر الفارسي الشهير (فريد الدين العطّار) كتاب اسمه "منطق الطّير"، خلاصة هذا الكتاب أنّ الطيور اجتمعت وقررت أن تقطع رحلة البحث عن (السي مُرغ) و(السي) بالفارسية تعني الثلاثين، و(المُرغ) تعني الطّير أو الطيور، أي (الثلاثون طيراً). وبعد أن تفشل مجاميع كبيرة من الطيور عن مواصلة الرحلة، بسبب التعب أو الملل أو انخفاض الهمم أو الطاقات المرتفعة لدى جموع غفيرة منها، يُوّفق ثلاثون طيراً من الوصول إلى المحطّة الأخيرة.. هناك في أعلى الذّروة، ومنتهى الشوق، وأقصى الذوبان في الحب، تتلفّت الطيور الثلاثون التي حملَ الشوقُ أجنحتها لرؤية المعشوق، فلا ترى إلّا ذاتها!!
ماذا أراد (فريد الدين العطّار) قوله في الثلاثين طيراً؟ إنّه نفس ما تقوله بعض الدراسات النفسية المعاصرة التي تعتقد أنّ العلاج الروحي هو أفضل عقار للصحّة النفسية، وهو أنّ (الوصول إلى الله) يعني (العثور على الذات)!!
يمكنكَ الآن أن تعيد قراءة المقولة التي طالما سمعتها أو قرأتها من قبل: "مَن عرفَ نفسه، فقد عرفَ ربّه"، على ضوء هذه الحقيقة التي أشار إليها (العطّار) الذي كان بالمناسبة صيدلانيّاً، والعطّارون الجدد، علماء أو أطباء الصحّة النفسيّة!
[1]- الصحيفة السجادية، الدعاء الأوّل.
ارسال التعليق