كانت أشعة شمس الظهيرة تنفذ من بين شقي الستار البنفسجي لنافذة حجرة المكتبة الواسعة، بحيث يمكنك أن ترى بوضوح ذرّات الغبار وهي تسبح في أشعة الشمس الحارة، التي عكست ضوءها الساطع بمنتصف السجاد الأبيض، ولوّنته بلونها البرتقالي. وفي تلك الساعة من النهار، كانت الحجرة تشعرك بفراغ مضجر بغيض، يشبه الفراغ والسأم اللذين ينتابانك عندما تقضي جزءاً من النهار في منزل ريفي تحوم الأصداء في جوفه، وإن كان في داخله من ضروب التسلية ما فيه. وهذا تشبيهي التام للمنزل الريفي الذي تدور به أحداث قصتي هذه. وكنت سترى، في حين تطوف عيناك أنحاء الحجرة، مجموعة من الأوراق قد وُضعت على رَفّ النافذة، إلى جانب إناء أبيض فارغ كان مخصصاً للزهور الطبيعية، التي كان منظرها سيبدو أخّاذاً لو كانت داخله. وستبصر في انزعاج الأوراق وهي تتحرك طيلة الوقت، تحريكاً طفيفاً بفعل الرياح الهادئة، فتصدر باحتكاكها ببعضها بعضاً، ترنيماً ناعساً مسئماً، ثم سترى صفاً متناسقاً من الصحف القديمة والجديدة، وقد رُتبت بعناية في خزانة قصيرة كانت في ركن بعيد من الحجرة. وأما الكتب، فقد كانت قابعة ومرصوصة على رفوفها باعتناء تام وحذر بالغ. ولكن مشهد ساعة الظهيرة هذا، يتبدل نزراً يسيراً ما إن تدق الساعة لتعلن الخامسة مساءً، عندما تبدأ درجات الطقس في الانخفاض فتهب رياح صيفية وادعة، تشبه في هدوئها الحياة الراكدة في الطابق السفلي، وهي تحمل صينية عليها قدح من القهوة وقدح من الماء البارد ومنديل زهري منمّق ومرتّب بعناية فائقة، فتصعد بتلك الصينية قاصدة شرفة حجرة المكتبة، لتضع الصينية في أدب وهدوء جميلين، على طاولة خشبية أمام فتاة عشرينية قصيرة القامة، ممتلئة الجسم، طويلة الشعر، وهادئة القسَمات وهي على قدر يسير من الجمال. وهي تمسك برواية في صمت مطبق وخمول. ما إن تبصرها على حالها حتى تجزم بأنها لم تكن تقرأ وإنما تفكر، بينما عيناها قد تركزان على سطر ممل من الكتاب. وإذا ما تابعتها، فستراها ترفع بصرها عن كتابها حيناً لتتأمل غروب الشمس في شرود تام وحيرة فريدة. وإن كنت تودُّ أن تستفهم فيم كانت الفتاة حائرة ومقطبة الجبين؟ ففي إمكاني أن أخبرك أنها كانت تأمل وترتجي ترك الحياة الريفية المضجرة، لتنعم بحياة مدنية وعملية منظمة، وتحقق بذلك حلماً لم تطفئ شعلته يوماً عن مخيّلتها، حلماً سامياً بات لسنوات في نفسها، ولطالما رفع معنوياتها المثبطة كلما تخيلته يتحقق ويُزهر. ولكنها سرعان ما كانت تنبذ ذلك الحلم من عقلها وتستبعد نضجه أو انبثاقه يوماً. هي فتاة لم تتلقّ تعليمها في مدرسة أو جامعة، إنما تلقته على يد مربّيتها، تلك المرأة العجوز الماهرة رقيقة القلب، التي لطالما كانت تشدو لها في وقت فراغها وتصنع لها فطائر العنب والشوفان. وبذلك، لم تكن الفتاة قد حصلت على أي شهادة تثبت كفاءتها في التعليم. فلو أن أحداً سألها يوماً عن مرتبتها العلمية، لأجابت بأن لا شهادة بحوزتها، ليظن المرء على الفور أنها فتاة أمية لا تقرأ أو تكتب، على الرغم من أنها، إلى جانب إلمامها بثقافة اللغة العربية، مُلمّة أيضاً بالثقافة الإنجليزية والفرنسية، حيث كدّست رفوف مكتبتها بأنواع من الكتب التي تختص بهذه الثقافات الثلاث، كما أنها أجادت استخدام الحاسب الآلي إجادة باهرة.
ويعد أن انصرفت الخادمة إلى شؤونها في ذلك المساء الحار، حادثت الفتاة نفسها بعقل عاجز متحيّر قائلة: لو أنني كنت أهوى أن أكون مصممة للأزياء، لكانت تلك أمنية مُيسّرة، قريبة المرام، مادمت أستطيع دراسة هذا الفن في أحد المعاهد التي تكاد تملأ بلادنا. ولو أنني كنت موهوبة في التصوير الفوتوغرافي أو الفن التشكيلي، لربما كان اسمي سيصل إلى العنان. ولو أنني رغبت وأحببت الكتابة، لحققت فوراً آمالي ورجائي بها، ولو أنني.. صمتت الفتاة بغتة، ونكست رأسها وجَلاً وإحباطاً وذرفت دمعات مكبوتة، فزعة، فنفسها المهزومة لا ترى ولا تشفق إلى إلى أمنية واحدة لا تجد لها بدلاً ولا عوضاً. فهي فتاة تريد أن تكون من زمرة المعلمين والتربويين المثقفين الواعين، لتنشئ أجيالاً واثقة، متحفزة إلى التعليم والبحث المجدي، والباعث إلى إنجازات تُحسد عليها الأمم. فالتوبيخ وأنماط العقاب المختلفة، لا تصنع متبارياً خاسراً ولا متبارياً منتصراً، ولكن المستحيل ظل يطيل في عمر أيامها المتشابهة، بقي عالقاً ومتشبثاً بدربها الأعوج المتعالي. وكل ما كانت تريده هو اختبار يثبت كفاءتها لكي تحرّر قدميها الموثقتين وتسير إلى مشيئتها البعيدة، ثم إنّ الفتاة من بعد ذلك الحديث، المكتئب الذي أسرّت به إلى نفسها، لم تلبث ماكثة في مقعدها الخشبي، إذ أفاتت فجأة من كدرها واكتئابها ووثبت واقفة، فأبصرت أنها إنما كانت تراقب الشمس وهي تنحدر وراء الجبال البعيدة، وكأنما كانت تودّعها وستبكي على أطلالها، فأتت الخادمة آنذاك وأشعلت مصباحاً بدائياً لينير لها مساحة الشرفة العتيقة، ثم أنحَت في توجّس وقالت: "هل أخدمك بشيء يا آنسة؟".
فأجابتها الفتاة بإيماءَة هادئة مضمونها أن تنصرف إلى شؤونها، بينما كانت الخادمة تنظر بريبة إلى يدي الفتاة وهي تضغط بهما على حاجز الشرفة، بينما نظراتها شاردة فوق شجرة بالأسفل، فلم تتمكن من فعل شيء إلا أن خرجت حزينة لأجلها. إذ إنها لم تكن تمتلك أدنى فكرة عمّا كان يعتريها من هَم وحزن. عادت الفتاة إلى مقعدها في وهن لتواصل قبوعها على الشرفة وتستأنف قراءة كتابها. وأخذت تغرق بين الفينة والفينة في شرود تام وحيرة قاسية حتى أسأمها ودفعها الجلوس، الذي طال أمره لبضع ساعات، لإيقافها على قدميها، فخرجت رأساً إلى ساحة البيت المرصوفة بالحجارة على شكل نسق قديم والمليئة بشجيراتها الصفراء، التي كانت تلتمع تحت أضواء البيت الخارجية. سارت الفتاة عاقدة ذراعيها بطريقة تؤكد للرائي أنها لم تكن تخشى ظلمات الليل أو تأبه لها. وأما عيناها، فكأنما كانتا تفتشان عن شيء مجهول تترقبانه وتنتظران قدومه بتلهّف واشتياق، بينما كانتا تتأملان السماء الداكنة التي بدت نجومها الكثيرة، وكأنها متراصة لخوفها من ديجور سمائها المهيبة. أما الهلال، الذي كان يبدو ناعساً، فكأنما كان مخلوقاً يشتكي الغربة والوحشة وسط جُموع النجوم، ويشتكي قلّّة الأنس بينها. وفي لحظة من لحظات الصُّدف النادرة، تفتح الخادمة ستار حجرتها، فترى الآنسة التي لطالما قدّرت إنسانيتها تجول في الساحة وحيدة في منتصف ليلة مدلهمّة حارة، فهبّت إليها مذعورة، مكترثة، وباغتتها قائلة وهي تضم يديها قلقاً: "أرجوك يا آنستي أن تدخلي إلى المنزل، فالبقاء هنا بمفردك سيجلب عليك المخاطر". ولكن الفتاة أبَت طلبها في هدوء وأدب، وفكرت أنها لطالما عاشت داخل منزلها في خطر أشد مما قد يكون مختبئاً في باطن الليل البَهيم. ولا غرابة في ذلك مادامت تمتلك قلباً كبيراً يتأثر بأمانة بما يقرأ ويسمع.
انصرفت الخامة في يأس وقلق وافرين، ولكنها لم تدخل المنزل، وإنما جلست على الدرجات أمام بابه العريض حتى تثب إلى آنستها الشابة طيبة وئيدة مسئمة، حتى إذا انبلج الصباح يخالطه صياح الديوك وصدح الطيور في أنحاء الريف المتواضع، دخلت الخادمة المنزل في دعة تامة بعينين مترددتين ناعستين، ولم تلبث الفتاة بالبقاء في الساحة طويلاً، إذ دخلت المنزل لتجد حجرة الطعام قد هُيّئت لقدومها، فتناولت إفطارها بقلب ساهٍ، منتظرة قدوم صحف الصباح لتتابع الأخبار المتعلقة بالتعليم. حتى إذا جاءت، تلتفتها بحماسة متأججة وبروح يقظة وحملتها إلى ركن في الحجرة وقرأتها بحرص بالغ، والخادمة تراقبها وهي تنظف المائدة، حتى إذا فرغت من ذلك جاءت إليها لتسألها في ترقب:
• "آنستي هل تودّين منّي خدمة ما؟"
- لا شكراً لك.
احتارت الخادمة وترددت قدماها في الذهاب ثم قالت وهي تضم يديها:
• "آنستي.. هل من خبر تنتظرين قدومه وتترّقبينه في كل يوم؟"
فتجيبها الفتاة في يأس:
- أجل.
• هل تستطيعين إخباري به؟
نظرت الفتاة بُرهة عينَي الخادمة وكأنما تقول. إنّ أخبرتها فستحسبني معتلة العقل، وتتحكم في قلبي أحلام اليقظة، ولكنها تنهّدت وقالت: أنتظر مكاناً لي.. مكاناً لا يحتاج إلى شهادة ما بقدر ما يحتاج إلى عقل يثبت وجوده بين المتعلمين.
ثم أقفلت الصحيفة بتؤدة، ووقفت فأغلقت ستار النافذة لأن نور الشمس أصبح يزعج عينيها منذ زمن، ثم سارت حتى إذا وصلت إلى الباب التفتت إلى خادمتها وقالت:
- إذا دقت الساعة الخامسة مساء سأكون في انتظار قهوتي.
واختفت عن نظرها، بينما بقيت الخادمة واقفة لبرهة، حائرة في أمر مخدومتها، ثم انحنت إلى الصحف ولملمتها فوق بعضها بعضاً، وصعدت بها إلى حجرة المكتبة ورتبتها في الخزانة، لتنضم إلى صحف قديمة تكدست إلى جانب بعضها بعضاً في عزلة وفراغ.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
ميريام
رائع ماكتبتيه جعلتيني ادخل في ادق التفاصيل واتخيلها كانني بالواقع ، تملكين قدره عجيبه في جعل القارئ يتخلخل في جميع تفاصيل القصه ، استمري فأنت مبدعه : )