• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عظمة الصلاة وبحر فوائدها/ ج (1)

أ. د. سليمان الصادق

عظمة الصلاة وبحر فوائدها/ ج (1)

◄الحديث عن فوائد الصلاة حديث محبب إلى النفوس، وبحر فوائدها بحر واسع بسعة عظمتها وخصائصها ومكانتها عند الله تعالى وعند رسوله وملائكته وعند عباده الصالحين.

وحسبنا أن نقف على شاطئ بحر فوائدها لعلنا نلتقط شيئاً من هذه الفوائد.

إننا لا ينبغي أن نمل الحديث عن هذه الفوائد ومحاولة استخراجها والتقاطها من بحرها الواسع، ففي الوقوف عليها خير كبير لنا ولمن نتحدث أو نكتب إليهم من إخواننا المسلمين. وإن ديننا الإسلامي العظيم جاء بالخيرات والبشارات، والفوائد والثمرات لأتباعه العابدين العاملين فضلاً من الله ورحمة وإحساناً، والله ذو فضل عظيم. هذا ويمكننا الحديث عن شيء من هذه الفوائد فيما يلي:

1-    أنها (أي الصلاة) مدرسة إيمانية يتربى فيها المصلي على معان إيمانية كثيرة ومتعددة، ومن هذه المعاني: العبودية لله تعالى، فالمصلي يرفع شعار هذه العبودية ويعلن عنها بحاله، وفعله، ومقاله في الصلاة، وهو قبل ذلك يترك كل عزيز إلى نفسه من مال، وأهل وولد حين يدخل وقت الصلاة، ولا يهتم بشيء عند ذلك إلّا اهتمامه بما يتصل بصلاته من طهور، وهيئة، وسعي إلى المسجد مبكراً.

وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين المسبحين لربهم في المساجد بالغدو والآصال المقيمين لصلاتهم والمؤدين لزكاتهم، فلا تلهيهم عن ذلك تجارةٌ ولا بيعٌ والحال أنهم أهل تجارة يبيعون ويشترون ويربحون من ذلك. قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور/ 36-38).

قال العلامة السعدي في تفسيره: "خص هذين الوقتين (أي الغدو والآصال) لشرفهما لتيسر السير فيهما إلى الله وسهولته، ويدخل في ذلك التسبيح في الصلاة وغيرها، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح والمساء أي: يسبح فيها الله، رجالٌ، وأي رجال، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا، ذات لذات، ولا تجارة ومكاسب مشغلة عنه (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ) وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العو فيكون قوله (وَلا بَيْعٌ) من باب عطف الخاص على العام لكثرة الاشتغال بالبيع عن غيره فهؤلاء الرجال وإن اتجروا وباعوا واشتروا فإن ذلك لا محذور فيها لكنه لا تلهيهم تلك بأن يقدموها ويؤثروها على (ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه".

ومن المعاني الإيمانية التي يتربى عليها المؤمن في مدرسة الإيمان (الصلاة) إحساسه عمليّاً بأخوة الإيمان التي تجمعه بإخوانه المؤمنين رغم اختلاف الأجناس، والألوان، واللغات، والمستويات، فالصلاة يجتمع فيها المؤمنون كّل يوم وليله خمس مرات يؤدونها جماعة في بيوت الله، وهم يقفون صفوفاً قانتين لرب العالمين، وكلهم يعلم عن يقين أن أشكالهم ومستوياتهم المادية، والبدنية لا قيمة لها في هذا المقام، وأنهم سواء أمام الله تعالى، فهو سبحانه لا ينظر إلى أشكالهم، وألوانهم، ولكنه ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم، فإحساس المؤمن بالأخوة الإيمانية في ساحة المساواة في الصلاة من شأنه أن يقوي هذا الإحساس في نفوس المؤمنين جميعاً في كلّ مكان فيستعلون به على كلّ عوامل ومظاهر التفرق التي ينسجها ويطورها عدوهم الكافر.

ومن المعاني الإيمانية: تربية المؤمن على التواضع لإخوانه المؤمنين، فهو في الصلاة مع إخوانه المؤمنين واحدٌ منهم لا فرق بينه وبينهم بغض النظر عن مكانته خارج المسجد.

ولا شكّ أنّ التواضع من القيم الإيمانية التي ينتج عنها التآلف والتقارب والمحبة والرحمة بين المؤمنين، فيعيشون في وئام وانسجام فينشأ عن ذلك القوة والعزة والفاعلية في الحياة: في مجالاتها المتعددة.

والعجيب أنّ القرآن الكريم يبين أنّ التواضع للمؤمنين والرحمة بهم ينشأ عنها الشدة على الكافرين كما يقرن بين هذه الرحمة وبين إقامة الصلاة، وبالمقابل فإنّه ما وجد إنسان متكبر على المؤمنين شديد عليهم إلّا وهو متواضع للكافرين رقيق معهم رحيم بهم وتلك هي حقيقة من حقائق القرآن الخالدة التي لا تتبدل وإن تبدل الناس في أفهامهم وقيمهم.

قال الله تعالى: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح/ 29)، وتقديم وصف الشدة على الكفار قبل وصف الرحمة في هؤلاء المؤمنين الذين هم سيدنا مُحمّد رسول الله (ص) وصحابته الكرام (رض) أمر له دلالاته وأبعاده وإيماءاته المتصلة بالمكونات الإيمانية لشخصيات هؤلاء المؤمنين، وقد جمع الله تعالى لهم في هذه الآية بين جمال قوة الظاهر والباطن، فإنّ للشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين مظهرين: أحدهما داخلي: محله القلب، والآخر خارجي: يتمثل في الحركة الظاهرية وما ينشأ عنها، والمظهر الخارجي مترتب على المظهر الداخلي ترتب النتيجة على مقدماتها وكثرة الركوع والسجود دليل على إقامة الصلاة ومحبتها، وإقامتُها دليل على قوة إيمان مقيمها، وجماله بالإيمان، ولم يوصفوا بمجرد الركوع والسجود ولكنهم وصفوا بكثرة فعلهما وهم مع ذلك يتحركون في حياتهم بالسعي المفيد والابتغاء المثمر فاعلية في الحياة وإثراءً لمعاني وقيم الإيمان الخيرة الفاضلة لا تكبراً ولا طغياناً ولا ظلماً لأحد بل عبودية لله – عزّ وجلّ – وطلباً لمرضاته، وإقامة وتمكيناً لدين الله العظيم ولشرعه القويم.

وآثار العبودية والطاعة لله تعالى بكثرة الركوع والسجود سمة تدل عليها سماهم في وجوههم فهي وجوه نيرة وضيئة مشرقة مستبشرة متواضعة يعلوها الجلال، والجمال، والحياء تغضب لله وفي الله، وهي لا تحابي أحداً في الولاء والحب لله تعالى ولأوليائه، والبراء من أعدائه بالشدة عليهم، فلم ير اعداؤهم منهم إلّا الشدة والتضييق، ولم يجد منهم إخوانهم المؤمنون إلّا الرحمة، والتواضع، واللين، والحب.

وقد جمعوا في هذه الصفات أيضاً بين جمال المعاملة معخالقهم، وبين جمالها مع خلقه المؤمنين، واستنارت بالصلاة بواطنهم، وظواهرهم جلالاً وجمالاً، فكانوا شامة جميلة في جبين الإنسانية.

2-    أنها تذهب بشرور النفس. وما أكثرها وأغربها فالظلم، والطغيان، والبطر، والكبر، والحقد، والحسد، والجبن، والبخل، واللؤم، واحتقار الآخر، هذه وسواها مما لا يقع تحت حصرٍ هي من شرور النفس البشرية، وأمراضها، ولو تُركت هذه الشرور والأمراض بغير علاج لأهلكت أصحابها، والحرث والنسل معهم.

ومن رحمة الله تعالى بخلقه أنّه لم يتركهم لشرور أنفسهم وأمراضها بل أنزل إليهم كتبه وأرسل إليهم رسله، وشرع من الدين ما عالج به أمراض نفوسهم وأذهب به شرورها.

وجاءت الصلاة ميداناً واسعاً ونافعاً لعلاج هذه الشرور والأمراض وشفائها، وعلم الله تعالى أنّه ما عولجت شرور النفس وأمراضها وشُفيت بمثل الصلاة، وقد يبدو هذا الكلام في ميزان من لا يعرف للصلاة أثراً وقيمة أنّه كلام ساذج، والناس أعداء ما جهلوا، ولو علم هؤلاء ما في الصلاة من خيرات ورحمات وعطايا وبركات ظاهرة وباطنة لما وسعهم إلّا أن يرددوا مع ذلك العابد الذي تفاعلت نفسه مع ما وجدت في صلاة الليل من خيرات لا يمكن الإحاطة بوصفها، فقال عنها في عبارة عفوية تجسد إحساسه بقيمة هذه الخيرات، وتعكس مشاعره تجاهها قائلاً: "نحن في لذة لو علمها أبناء الملوك لقاتلونا عليها" إنّ وصف الحقائق والتعبير عنها يحتاج إلى قلب يسمو إليها، ويعانقها، أما القلوب الخاوية التي لا يستقر فيها إلّا التافه والصغير من الأشياء فهي عاجزة تماماً عن معانقة حقائق الكون والحياة فهي مرتكسة إلى ما استقر فيها، وهي بذلك ترى في تلك الحقائق نوعاً من الخيال، وضرباً من الواقع البعيد تحقيقه. وكلّ إناء بما فيه ينضح.

وتأتي مقالة سيدنا رسول الله (ص) تعبر عن العلم النبوي الشريف الواسع بخيرات وبركات الصلاة، وتعكس حقيقة ثابتة من الحقائق المتصلة بهذه الخيرات وتلك البركات، وذلك حين قال بلال (رض): "يا بِلالُ أقِمِ الصلاة، أرِحْنا بها" وفي لفظ: "قُمْ يا بِلالُ، فأرِحْنا بالصَّلاةِ".

إنّ هذه المقالة الكريمة الشريفة قد خرجت من مشكاة النبوة الطاهرة التي أوتي صاحبها (ص) جوامع الكلم، ففي هذه المقالة على وجازتها واختصارها كل ما ينشده المؤمنون من خيرات وبركات في الصلاة، وكلّ ما يريده الراغبون في طمأنينة النفس وراحتها وذهاب شرورها وأمراضها.

لقد كانت جملة "أرِحْنا بِها" في المقالة النبوية الكريمة معلماً خالداً من معالم العلم النبوي الشريف الواسع بعلاقة الصلاة بالنفس البشرية المؤمنة، وأثرها المباشر عليها راحة، وطمأنينة، وسعادة، وأُنساً، وانشراحاً، وخفة، ورغبة في الخير وفعله، وكراهية للشر وأهله، ومدى انعكاس ذلك على أداء النفس وفاعليتها، وعطائها على صعيد الحياة العملية، فاللّهمّ صلّ وسلِّم وزد وبارك على من أوتي جوامع الكلم، (ص) تسليماً كثيراً.

3-    أنّ الصلاة من أسباب تيسير الرزق، ويمكن أن نستنبط ذلك ونستشفه من خلال ما يلي:

أوّلاً: قول الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه/ 132)، ولا شكّ أنّ الأمر بالصلاة يستلزم الأمر بما تصح به الصلاة، وفي الآية بيان مسؤولية المؤمن تجاه أهله في تربيتهم على الصلاة وأمرهم بها، فهي عمود الإسلام، وهي أسس الفضائل والأخلاق والمعاملات، وبإقامتها تقوم حياة صاحبها صلاحاً وعملاً وخيراً، والأمر للمؤمن بأن يأمر أهله قائم على الأمر له أوّلاً، فهو مستلزم لقيامه بهذا الأمر في نفسه، ثمّ في أهله وهو ما يتواءم مع نصوص في مثل قول الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة/ 44)، وفي مثل قوله سبحانه: (قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) (إبراهيم/ 21)، وفي مثل قوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم/ 6)، والآية دالة بظاهرها على أن إقامة الصلاة، وأمر الأهل بها، والاصطبار عليها من أسباب تيسير الرزق وتسهيله وذلك لأنّ الله تعالى بين في الآية أنّه لم يكلف المؤمن المصلي، الآمر لأهله بالصلاة بأن يتكلف مشقة رزق نفسه، لأن ذلك غير ميسور له لأنّ الخلق لا يرزقون أنفسهم، بل ولا يرزقون غيرهم، ولكن الله تعالى الذي بيده رزق مخلوقاته هو الذي يرزقهم جميعاً إنسهم وجِنَّهم، لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر مصداقاً لقوله عزّ وجلّ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات/ 56-58)، ولقوله سبحانه على لسان إبراهيم (ع): (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (الشعراء/ 79).

وإذا كان الله – عزّ وجلّ – يسوق الرزق لخلقه أجمعين، فهو – سبحانه وتعالى – يسوقه لأحبابه المؤمنين المصلين الآمرين لأهليهم بالصلاة بيسر وسهولة من حيث لا يقدرون ولا يحتسبون فيفتح عليهم أبواب الرزق، ويسهل عليهم مسالكه منحة ورحمة وعطاء وفضلاً منه تعالى لأنهم آثروا الأهم على المهم.

والتعبير الكريم في الآية الكريمة (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه/ 132)، بنون العظمة يشي بالقوة والعظمة والقدرة لله – جلّ جلاله – و"نحن" ضمير فصل: أي نحن نرزقك وليس أحد سوانا، وهذه حقيقة من الحقائق القرآنية الساطعة الخالدة التي ينبغي ألا يغفل عنها كل مؤمن، فلا يتيه كما تاه ويتيه غيره في قضية الرزق، فإن كثيرين من الناس يهتمون للقمة العيش اهتماماً واغتناماً يكادان يقضيان على حياتهم، في مقابل عدم اكتراثهم بإقامة الصلاة في نفوسهم وأهليهم، وهم بذلك لن يزدادوا إلّا غمّاً وضنكاً، لأن خالق الخلق ومقدر الرزق جلّ في علاه بين في كتابه الكريم أن من آثر مرضاته وطاعته وإقامة أمره، يسر له أمر الرزق وسهله، ومن خالف فسيجد التعسير والتشديد في حياته. قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 124).

ثانياً: أن نصوص القرآن الكريم تقرن بين إقامة الصلاة وبين إيتاء الزكاة والإنفاق من الرزق. قال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 2-3)، وقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الأنفال/ 2-3).

إنّ مجيء اقتران صفتي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أو الإنفاق من الرزق في القرآن الكريم في وصف المؤمنين، لهو أمر له دلالاته وأبعاده القريبة والبعيدة المتصلة بأثر إقامة الصلاة في حياة صاحبها تيسيراً في رزقه وبركة فيه، وهو ما يمكننا من القول بأن من أقام الصلاة فهو مبشر من الله تعالى بتوسيع رزقه حتى يكون رزقاً تتوجب فيه الصدقة المفروضة (الزكاة) أو يكون صاحبه مدعوًّا للصدقة المتطوع بها، وذلك أمر يدعونا إلى النظر والتأمل في الآثار الإيمانية التي تُحدِثُها إقامتنا للصلاة، في مجال حياتنا وخاصة ما اتصل بأمر الرزق، ودراسة هذه الآثار ونتائجها دراسة مستوعبة في مجالَيها النظري والعلمي، وربط ذلك بحركة النفس البشرية وهي طائعة لله خالقها.

هذا ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق فيما يتصل بمجيء صفتيْ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أو الإنفاق من الرزق معاً في القرآن الكريم من بين صفات المؤمنين شيئاً آخر هو ما يدل عليه هذا الاقتران وما يشعر به من المسؤولية المناطة بالمؤمنين، وضرورة نجاحهم في ميداني الإحسان فيما بينهم وبين الله تعالى وذلك بصدق الإخلاص في العبادة، والإحسان فيما بينهم وبين خلق الله سبحانه.

قال العلامة السعدي – رحمه الله – في تفسيره: "وكثيراً ما يجمع الله تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأنّ الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه فلا إخلاص ولا إحسان". فلا يود مؤمن إلّا وهو آخذ بزمام النجاح في الميدانين. ومن أخفق في ميدان إقامة الصلاة، فهو حتماً سيخفق في ميدان الإنفاق المفروض أو المتطوع به، ولا عبرة ببعض الظواهر المخالفة فأمدها قصير والعبر بالمداومة والاستمرار.

وجاءت آيات قرآنية كريمة تبين مصير أناس سقطوا في ميدان إقامة الصلاة وترتب على ذلك سقوطهم في ميدان الإنفاق، فكان مصيرهم بئس المصير عياذاً بالله تعالى. قال سبحانه: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الحاقة/ 30-34)، وإقام الصلاة من الإيمان بالله العظيم.

وقال عزّ من قائل: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (المدثر/ 42-44). وقال عزّ وجلّ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7)، فقد بينت هذه الآيات الكريمة أن هؤلاء استحقوا ما استحقوا لأنّهم جمعوا في نفوسهم أسباب العذاب والشقاء فلا طاعة منهم لله، ولا إحسان لخلقه، فجفت نفوسهم من محبة الله تعالى ومحبة خلقه، والعطف عليهم، فخلت بالكلية من الرحمة، فكان جزاؤها عذاب النار التي لا رحمة فيها، وهو جزاء مناسب لجنس عملهم، ولا يظلم ربك أحداً.

إنّ الرحمة الإلهية التي تنسكب في قلوب المؤمنين مقيمي الصلاة تنشأ عنها رحمتهم بخلق الله، فقلوبهم قلوب رحيمة، ونفوسهم نفوس رقيقة، وإنّ الكرم الإلهي الذي يفاض على عباده المؤمنين مقيمي الصلاة ينشأ عنه كرم نفوسهم بمحبة خلقه، وكرم أيديهم بالبذل والعطاء.►

 

المصدر: كتاب تأملات في فضل الصلاة ومكانتها في القرآن والسنّة

ارسال التعليق

Top