العفو فضيلة؛ أكثر أهل البيت (عليهم السلام) مَن دعوا الناس إليها واعتبروها سبباً رئيساً في استقرار المجتمعات وثباتها، وركناً في الإصلاح البشري والتعايش، ومن ذلك ما ورد في هذا الدُّعاء المبارك للإمام السجّاد (عليه السلام) بأسلوب ساحر في البيان ورائع في إيصال المعاني إلى حيث تستقرّ في القلوب وتتمكّن منها لتترجم فيما بعد سلوكاً عملياً، وبناءً نفسياً عاطفياً نابعاً من العقل والشرع معاً، فإذا كان المخلوق الضعيف قدّر له أن يعفو فكيف بالخالق العظيم الذي لا شكّ أنّه سيعوّضنا من عفونا عمّن ظلمنا عفوه عنّا لأنّه أكرم بالعفو، وممّا ورد عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) في أهمّية العفو ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «العفو تاج المكارم»، «العفو أعظم الفضيلتين»، «شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل»، «قلّة العفو أقبح العيوب والتسرُّع إلى الانتقام أعظم الذنوب».
وفي الحديث: «إذا أُوقف العباد نادى منادٍ: ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة، قيل: مَن ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس».. إنّ العفو بأصله جميل إلّا ما ورد النهي عنه والتنبيه منه، والأمر الذي يُعتبر قاعدة في المقام هو ما كان فيه العفو عنصر مساعدة على الإصلاح والبناء سواء من ناحية فردية أو جماعية من حيث كونه مقرّباً إلى الله سبحانه ومعاوناً على التزام خطّ الاستقامة، فهو مطلوب ومرغوب.
ومثال العفو الجميل ما رُوِي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لرجل شكى إليه خدمه: «اعف عنهم تستصلح به قلوبهم». فقال: يا رسول الله! إنّهم يتفاوتون في سوء الأدب. فقال: «اعف عنهم»، ففعل.
هناك نحوان من العفو كلاهما فضيلة أعدّ الله تعالى على التحلي بها ثواباً عظيماً ومكانة عالية، غير أنّ أحدهما أهم وأكبر وأحسن من الآخر وهو العفو مع القدرة أي حينما يقدر الإنسان أن يأخذ حقّه من المعتدي وكانت الظروف ملائمة والشروط الشرعية متوفّرة؛ لكنّه آثر أن يعفو عنه مع مقدرته عليه رجاء أن يعفو الله عنه ورغبة في الثواب والنجاة من العقاب يوم الجزاء، والحث عليه في الروايات كثيرة، فقد ورد: «أحسن العفو ما كان عن قدرة»، «العفو مع القدرة جُنَّة من عذاب الله سبحانه»، «أحسن أفعال المقتدر العفو»، «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة».
والنحو الثاني مهم لكنّه أصغر من صاحبه، وهو العفو حالة العجز الفعليّ عن تحصيل الحقّ وإمكان تجدّد القدرة في المستقبل على معاقبة المسيء إليه، فينوي أنّه إذا قدر عليه أن يعفو عنه ويسقط حقّه لقاء وجه الله، وإن كان في الحاضر غير قادر على مجازاته أو استيفاء ما له عنده من حقوق إلّا أنّه قد سامحه، يقول تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران/ 134). ويقول الصادق (عليه السلام): «إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا». وممّا جاء في الحديث: «ألا أخبركم بخير خلائق الدُّنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وتصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك».
إنّنا ما لم نكن ممّن يعفون ويصفحون فلن نبلغ عتبة السلام الداخلي.. فالعفو هو وسيلة تغيير إدراكاتنا والتخلّص من مخاوفنا والشعور بالظلم والتأذي. وإنّنا بحاجة إلى تذكير أنفُسنا باستمرار بأنّ الحبّ هو الحقيقة الوحيدة. وإن أي شيء نعيه ولا يعكس الحبّ فهو إدراك خطأ.
وبذا فإنّه يمسي العفو عملية محو وتجاوز مهما كان ما نعتقد أنّ الآخرين ربّما قد فعلوه حيالنا وأيّاً كان ما نعتقد أنّنا اقترفناه بحقّهم.. إنّ التسامح يصحح إدراكنا الخطأ بأنّنا منفصلون عن بعضنا البعض ويسمح لنا بعيش روح الوحدة والتعاضد ببعضنا البعض.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق