• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عظمة نزول القرآن في ليلة القدر المباركة

عمار كاظم

عظمة نزول القرآن في ليلة القدر المباركة

في هذه الأيّام المباركة، وفي الليلة الثالثة والعشرين من الشهر الفضيل، يصادف نزول القرآن في السنة الأولى من البعثة النبويّة. يقول تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان/ 3-4). حيث نزل القرآن الكريم على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جملة واحدة في تلك الليلة الشريفة (ليلة القدر)، ثمّ نزل بصورة تدريجية طيلة ثلاث وعشرين سنة، لتأخذ المعاني والمفاهيم القرآنية أهدافها وموقعها في النفوس، وتحدث الأثر المطلوب، وليكون الكتاب الذي يبني حضارة وأُمّة ومستقبلاً مشرقاً للإنسانية.. المهمّ أنّ ما يمثّله القرآن الكريم من كتاب سماوي فيه شفاء لما في الصدور على مستوى الفكر والشريعة والعقيدة والعِبرة وغير ذلك، قد نزل رحمةً للعالمين، ومصباح هداية لهم من الظلمات إلى النور، وقد اختار الله تعالى ليلة القدر لنزول هذا الوحي العظيم، الذي شكّل منعطفاً أساسياً في حياة البشرية ولا يزال.

إنّ الله تعالى هو المدبِّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشيء كن فيكون، ولكنّ حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزمن، ولذلك خلق الأرض والسماء في ستة أيّام، وهو القادر على أن يخلقها في لحظة. أمّا هذه الليلة، فإنّها الليلة التي أودع الله فيها الكثير من الأسرار التي تملأ كلّ ساعاتها، تماماً كما يضع الله الأسرار في المكان، فهناك مكان يعظّمه الله كما الكعبة، وفي الزمان في بعض الأيام والليالي كيوم عرفة، وما إلى ذلك. وكذلك أودع الله في هذه الليلة أسراراً روحية تنظيمية سخية عظيمة، تستوعب الكون كلّه، وتشرف على كلّ قضايا الإنسان في كلّ حياته، بحيث تحدّد له أجله، وتحدّد له رزقه وصحّته وعافيته ومرضه وموقعه ونصره وهزيمته، فهي الليلة التي تدخل في عمق الوجود الإنساني، لأنّ الله سبحانه عندما خلق الكون وخلق الإنسان، أودع فيه عنصر السببيّة: (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق/ 3)، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49).

جعل الله سبحانه وتعالى هذه الليلة الفريدة في السنة، خيراً من ألف شهر، وأراد أن يبيّن لنا أن حجم الزمن لا يُقاس بطبيعة ساعاته، بل بما يختزن من أسرار، وما يُقام فيه من أعمال، ومن مواقف وطاعات. فالمسألة إذاً هي أنّ الإنسان يستطيع أن يجعل من يومه شهراً، ومن شهره سنة، لأنّ المسألة هي في النوعية وليست في الكمية.. تلك هي ليلة القدر التي قد يكون لها موعد معيّن معلوم، لأنّ الله ربما أخفاها في الليالي، لينطلق العباد في أيّامه ليصلوا إليها، ليتعبّدوا إلى الله في أكثر من ليلة، لاحتمال أنّها ليلة القدر، حتى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقُرب من الله، وذلك ما يريده الله لعباده، أن يقربوا إليه ويلتقوا به ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنّهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) (القدر/ 4)، وهذا هو سرّ الليلة الذي تتنزّل به الملائكة، الذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتّصل بالإنسان من كلّ أمرٍ يهمّه أو يتعلّق بشؤونه، في رزقه، وحركته وعمره، ونحو ذلك. كما يتنزّل به الروح الذي قد يكون المراد به جبريل (عليه السلام)، الذي امتاز عن الملائكة ـ حسب الأحاديث الكثيرة ـ بأنّه الرسول الذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للناس، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الذي يتميّز بقدرةٍ خاصّةٍ غامضةٍ، أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة. ولكن ما هي تفاصيل ذلك الأمر؟ وما هي ملامحه الدقيقة؟ إنّ ذلك ممّا لم يبيّنه الله لنا، ولكنّنا نعرف أنّ هناك بياناً لكلّ أمرٍ حكيم، أمراً من عند الله، وقد فسّره المفسِّرون بالأرزاق والآجال والأوضاع المتّصلة بحياة الإنسان.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر/ 5)، فليس فيها أيّ معنىً يوحي بالشرّ والبغض والأذى ممّا يرهق مشاعر السلام للإنسان؛ إنّه سلام الروح الذي يمتدّ في روحانية هذه الليلة، في كلّ دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، ليبدأ يومٌ جديدٌ يتحوّل فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسانٍ جديد، هو إنسان الخير والمحبّة والسلام، في آفاق الله الرحمن الرحيم الذي هو السلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبّر. في هذه الأوقات الفضيلة، كلّ الأمل أن نعود إلى الله تعالى، وأن نستقبل ما قدّره تعالى لنا بمزيدٍ من الحكمة والوعي والمسؤولية، وأن نُقبل على كتاب الله إقبالاً فيه كلّ الحرص على الإفادة منه، بما يهدّئ من انفعالاتنا وعصبيّاتنا، ويعطينا القوّة على الثبات والتحدّي.

ارسال التعليق

Top