• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

علاج الأمراض بــ«الميكروبات»

علاج الأمراض بــ«الميكروبات»
  كان التحول من طب الأعشاب إلى الطب الكيميائي أحد التحولات حاسمة الأهمية التي شهدتها الرعاية الطبية الحديثة. كان الأطباء يعرفون منذ آلاف السنين أنّ لحاء شجر الصفصاف وزيت بذر الخشخاش يخففان الألم، لكن لم يبدأ علم الصيدلة الحقيقي في المضي قُدماً حتى أواخر القرن التاسع عشر، وذلك عندما قام فيليكس هوفمان بتخليق نسخ من مكوناتها الفعّالة، ونعني تحديداً حمض الأسيتيل ساليسيليك وديامورفين (أو الأسبرين والهيروين كما يُعرفان عموماً).

من الممكن تماماً أن يكون هناك شيء مماثل يحدث الآن، حيث أظهرت السنوات القليلة الماضية أنّ إقامة علاقات طيبة مع الـ100 تريليون صنف من البكتيريا التي تستوطن الأمعاء ضرورية من أجل الصحة البشرية. فإذا انهارت هذه العلاقات، ربما يتعرض الإنسان لغزو من بكتيريا معادية وربما تتحول البكتيريا التي كانت من قبل صديقة إلى بكتيريا معادية. لكن عندما تسوء الأمور، يمكن لجرعات من البكتيريا التصحيحية أن تحدث فرقا، ويمكن إعطاء هذه الجرعات عن طريق الفم، أو في الأطعمة من قبيل الزبادي، أو – وعلى أصحاب الطباع العصبية أن يشيحوا بوجوههم بعيداً الآن – عن طريق الشرج، وذلك من خلال زرع براز مأخوذ من أشخاص أصحاء. لكن بعض الأطباء يرون أنّ هذه النهج تضاهي مستحضرات مغلي لحاء الصفصاف ومستحضرات صبغة الأفيون، ويودون إقامة الفكرة بأكملها على أساس علمي، وهناك فريقان منهم نشرا للتو أبحاثاً تمثل خطوتين على الطريق إلى فعل ذلك.

يأمل تريفور لولي وزملاؤه في معهد ويلكوم تراست سانجر، القريب من كامبريدج، أن يستبدل بالبراز المزروع بكتيريا تسمى كلوستريديوم ديفيسيل كطريقة للعلاج. وتعد هذه البكتيريا بشكل خاص بليّة تصيب مَن يتلقون علاجاً في المستشفيات بمضادات حيوية تؤخذ عن طريق الفم وتقتل – كأثر من آثارها الجانبية – كثيراً من ميكروبات الأمعاء ومن ثمّ تسمح لبكتيريا كلوستريديوم ديفيسيل بالتصرف خارج نطاق السيطرة. والبراز المزروع فعّال، لكن الدكتور لولي أراد أن يفهم أسباب نجاح هذا البراز وأن يعرف ما إذا كان ممكناً استعمال نسخة مكيّفة بدرجة أكبر من هذا العلاج.

وقد وجد الدكتور لولي أنّ هذا ممكن، عند الفئران على الأقل، حيث صنع مزرعة من بكتيريا برازية مأخوذة من فئران صحيحة وجرّب توليفات متعددة منها على حيوانات مصابة ببكتيريا كلوستريديوم ديفيسيل. Public Library of Science، فإنّ توليفة من ستة أجناس من البكتيريا (منها ثلاثة لم تكن معروفة من قبل للعلماء) نجحت بشكل يكاد يكون تاماً ويضاهي نجاح زرع البراز المتجانس. علاوة على ذلك، فإنّ المسألة لم تكن مجرد كون هذه الأجناس هي البكتيريا الناقصة الرئيسة في أمعاء الحيوانات المصابة، حيث حفز هذا الكوكتيل أيضاً نمو أجناس أخرى كانت بكتيريا كلوستريديوم ديفيسيل تكتبها. وإذا نجح شيء مماثل على البشر، صار ممكناً إلقاء على بليّة عدوى بكتيريا كلوستريديوم ديفيسيل التي تنتقل أثناء الوجود في المستشفيات وتقتل 14 ألف شخص كلّ سنة في الولايات المتحدة وحدها.

 

استجابة مرنة:

لكن علاج الدكتور لولي مازال يستخدم البكتيريا الطبيعية. وأمّا الدكتورة نتالي فيرنيول، الباحثة بالمعهد الوطني الفرنسي للبحوث الصحية والطبية، فتريد المضي مرحلة أبعد من ذلك، حيث يوظف علاجها المفترض لمرض الأمعاء الالتهابي – الذي تصفه هي وفريقها في مجلة "ساينس ترانسليشينال ميديسين" Science Translational Medicine بكتيريا مهندَسة وراثياً.

توجد أدلة على أنّ علاج التهاب الأمعاء (الذي يمكن أن يسفر عن أمراض مثل داء كرون والتهاب القولون التقرحي) ببكتيريا مثل لاكتوكوكوس لاكتيس، ولاكتوباسيلس كاسي يساعد على تخفيف الأعراض. وتوجد هذه البكتيريا في منتجات الألبان مثل الزبادي، وهذا هو أساس الادعاء بأّن أكل الزبادي مفيد للأمعاء. لكن الدكتورة فيرنيول ترى أنّه يمكن تعديل هذه البكتيريا كي تعمل بشكل أفضل.

أحد أسباب الالتهاب هو نشاط إنزيم يسمى إيلاستاز. وهذا الإنزيم – كما يشير اسمه – يقلل البروتينات التي تجعل جدار الأمعاء مرنا. ويقلص الالتهاب وفرة بروتين آخر (اسمه إيلافين) يثبط مفعول إنزيم إيلاستاز. ومن ثم زودت الدكتورة فيرنيول كلا من لاكتوكوكوس لاكتيس، ولاكتوباسيلس كاسي بالجين الذي يشفّر إيلافين وأطلقت العنان لهذه البكتيريا في فئران مصابة بالتهاب في الأمعاء.

كانت النتيجة نجاحاً مبهراً، حيث عادت أمعاء هذه الفئران، بشكل أو بآخر، إلى المظهر الطبيعي، وأثبت التحليل الكيميائي أنّ مستوياتها من البروتينات المسماة السيتوكينات (التي ترتبط بالالتهاب) عادت هي أيضاً إلى المستوى الطبيعي.

مازلنا لا نعرف بعد ما إذا كان أي من الطريقتين سينجح لدى البشر (وإن كانت الدكتورة فيرنيول مزجت البكتيريا التي لديها بخلايا مأخوذة من أمعاء مرضى مصابين بالتهاب القولون، فأدى هذا إلى تهدئة الخلايا على النحو الذي هُدّئت به أمعاء الفأر). وإذا نجحا فربما يفتحا آفاقاً للعلاج البكتيري لحالات مرضية أخرى مرتبطة ببكتيريا الأمعاء، من ضمنها البدانة والسكري بل والتوحد. ومن ثمّ فنحن ربما نكون على أعتاب عهد جديد من الطب البكتيري.

 

الكاتب: طارق راشد 

المصدر: مجلة العربي/ العدد 20 لسنة 2013م

ارسال التعليق

Top