• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قصص تربوية لترويض النفس وبناء الذات/ ج (1)

أسرة

قصص تربوية لترويض النفس وبناء الذات/ ج (1)
 القصّة الأولى "كما تَرى تُرى!!" قرّر مجموعةٌ من الأصدقاء أن يقوموا برحلةٍ إلى منطقةٍ جبليّة، وبعد أن بلغت السيارة بهم مرادَهم ترجّلوا، ثمّ انطلقوا باتِّجاه قمّة أعلى جبلٍ هناك، وقد تمكّن أحدهم من تسلّقه والوقوف على قمّته. ومن أعلى الجبل، نظرَ الواقفُ على القمّة إلى أصدقائه وهم في أسفلِ الوادي، فأرسلَ قهقهةً عاليةً تردّدت أصداؤها بين الجبال. قال لهم بصوتٍ مرتفع: أتدرون كيفَ أراكم؟ قالوا: كيف؟ قال: كأنّكم ديدان!! فما كان من بعضهم إلا أن ردّ عليه: أتدري كيف نراك؟ قال: كيف: قال: نراكَ كالبعوضة!! وكان فيما بينهم شابٌّ يُحسن الشِّعر، فأنشد: ومَن رآني بِعَينِ نقصٍ **** رأيتهُ بالذي رآني ومَن رآني بِعَيْنِ تمٍّ **** رأيتهُ كاملَ المعاني!   - الدروس المُستخلَصة: 1- كما أنّ لك عيناً ترى عيوبَ الآخرين، للآخرين عيونٌ ترى عيوبك. 2- مَن ينتقص من قدر الناس وشأنهم، ينتقصوا من قدره وشأنه. 3- لا تنظر إلى الآخرين من فوق.. انظر وهم بالقُرب منك، فالصورة من فوق خادعة، كما أنّها من تحت مُضلِّلة.   القصّة الثانية "قُل حُسناً تسمعْ حُسناً!!" خرجَ صبيٌّ في عطلةِ يومٍ ربيعيٍّ إلى غابةٍ قريبةٍ من منزله للتريّضِ واللّعب، وبينما هو يتغنّى ببعض الأناشيد التي حفظها في المدرسة، سمع صوتاً كأنّه آتٍ من شخصٍ آخر يُردِّد نفس الأناشيد التي كان يُنشدها، فتصوّر أنّه يهزأ به ويسخر منه، فناداه: - مَن أنتَ؟ فجاء الجواب: مَن أنت؟ قال الصوت: أخبرني مَن أنتَ؟! قال الصبي بانزعاج: كيف تسرق نشيدي؟ قال الصوت: كيف تسرق نشيدي؟! قال الصبي: يا لكَ من وَقِح؟ فردّ الصوت: يا لكَ من وَقِح؟ قال الصبي بانفعالٍ شديد: أنتَ بذيء ولا تستحي. أجابه الصوت: أنتَ بذيءٌ ولا تستحي!! عاد الصبي إلى أمّه غضبانَ أسفاً، فلمّا رأت احمرارَ وجهه وزعله، سألته عمّا به؟ فحكى لها قصّة ما جرى. فتبسّمت الأُمّ ضاحكةً من قوله، وقالت: لم يكن هناك أحدٌ في الغابة غيركَ يا ولدي، وليس هناك مَن يستهزئُ بك، إنّما كان هذا هو صوتك تُطلقهُ فيردِّده الصّدى، فلو قُلْتَ حُسناً لسمعتَ حُسناً!! ثمّ قالت له: أعرفُ أنّك تُحبّ الشعر، فاحفظ هذين البيتين حتى لا تنسَ قصّتك مع الصدى، قال الشاعر: لا تَفُهْ ما حييتَ إلا بخيرٍ **** ليكون الجوابُ وقفاً لدَيكا قد سمعتَ الصّدى وذاكَ جمادٌ **** كلُّ شيء تقولُ ردَّ عليكا!   - الدروس المُستخلَصة: 1- الوردةُ إذا تنفّست، خرجت أنفاسُها عبقاً وعبيراً وعطراً، والبالوعةُ إذا تنفّست خرجت أنفاسها نتناً وعفناً وجيفة، فاختر بأيِّ اللّغتين تتكلّم: لغة الوردة أم لغة البالوعة؟! 2- الكلامُ الطيِّب يجلبُ الكلام الطيِّب، والكلام الخبيثُ يجرّ كلاماً خبيثاً، فقُل طيِّباً لتسمع طيِّباً، ولا تَقُلْ خبيثاً حتّى لا تسمع خبيثاً. 3- البدايةُ منك.. فأنتَ (الصوتُ) والآخر ( الصّدى)، فنبرةُ الحبِّ واللّطف عذبةٌ عندما تسيلُ من شفتيك، وهي أعذب حينما ترتدُّ لتسمعها بأذنيكَ مقرونةً بالشكر والإمتنان.   القصّة الثالثة "إحتَرَمْتُ نفسي فاحتَرَمَتْني!!" دخل غلامٌ بُستاناً يتنزّه فيه، وكانت أشجارُ البُستان مُثقّلةً بحملها، فهي مُزدانة بألوان الفواكه اللّذيذة، وأشكال الثّمار الناضجة الشهية، فلم تمتدّ يده لتقطف من فواكهها وثمارها شيئاً، بل كان يُمتِّع نظره بالخضرة اليانعة والألوان الضاحكة في ربوع البُستان. في هذه الأثناء، كان البُستانيُّ يُراقب الغلام مختبئاً وراء شجرة، وبعد أن أنهى الغلام جولته في البُستان، وهمّ أن يُغادر، جاءه البُستاني وألقى عليه التحيّة مشفوعةً بابتسامةٍ عذبة، وقال له: لقد رأيتُ شيئاً عجباً!! فقال الغلامُ: فعلاً، في البُستان أشياء عجيبة! قال البُستاني: لا، لا أقصدُ البُستانَ، بل أعني أنِّي كنتُ أراقبُكَ منذ أن دخلتَ البُستانَ، فتعجّبتُ كيف لم تمتدّ يدُكَ لتقطف تفّاحةً أو رمّانةً أو خوخةً، أو أيّ فاكهة أخرى أعجبتك، ولم يكن هناك أحدٌ في البُستان؟! قال الغلام: علّمتني أمِّي منذُ صغري أنّني لا أرتكب القبيح حتى إذا لم أرَ أحداً، طالما أنّ نفسي معي تراقبني، فصرتُ أكره ارتكاب القبيح أمامها! فسرّ البُستاني من جوابِ الغلام المؤدّب المُهذّب الذكي، وطلب إليه أن يجلس على بساطٍ مفروشٍ على حافّة ساقية، ثمّ قطفَ له من الفاكهة تشكيلة جميلة، وأتاهُ بها في صحنٍ وفوقها بعض الورود. قال البُستاني للغلام: تفضّل كُل هنيئاً مريئاً. قال الغلام: أرأيتْ! احتَرَمْتُ نفسي فاحتَرَمتني!   - الدروس المستخلَصة: 1- الرّقابة الذاتية أفضل أنواع الرقابات قاطبةً، لأنّها تُشعل إشارة الممنوع في داخلك، حتى إذا لم يكن هناك شُرطي مرور أو إشارة ضوئية خارجيّة. 2- إذا أضفتَ إلى رقابة الذات، رقابة المَلَكين الكاتِبَين (كاتب الحسنات وكاتب السيِّئات)، ورقابة الله تعالى، فإنّ هذه الرّقابات الأربع، ستصنعُ سياجاً واقياً يحميكَ من المعاصي والمزالق والقبائح. 3- إحترامكَ لنفسك مدعاةٌ لاحترامِ الآخرين لك!   القصّة الرابعة "أنتَ حيثُ تجعلُ نفسَك!!" كان (كافور الأخشيديّ)، العبدُ الذي حكمَ مصر في عهد المماليك، وصاحبٌ له، عبدين أسودين مملوكين، هذا من قبل أن يُصبح ملكاً، فتمنّى صاحبهُ مرّةً أن يُباع لطبّاخ حتى يملأ بطنه بما شاء. وتمنّى (كافور) أن يملكَ مصرَ، فمضت الأيّام، وإذا بالأوّل يُباع لطبّاخ، وكافور يُباع لقائد، فأظهر كافور كفاءةً واقتداراً عاليين، فلمّا ماتَ مولاه (سيِّده الذي اشتراه)، قامَ مقامَه. وفي ذاتِ يوم، مرّ كافورُ الملكُ بصاحبه المُباع لطبّاخ، فقال لِمَن معه: لقد قعدت بهذا همّتُه، فكان كما ترون، وطارت بي همّتي فأصبحتُ كما ترون! ولو جمعتني وإيّاهُ همّه واحدة لجمعنا عملٌ واحدٌ تحت سقفِ هذا المطبخ! أحد الشعراء التقطَ القصّة، فقال فيها شعراً: وما المرءُ إلا حيثُ يجعلُ نفسَهُ **** فكُن طالباً في الناسِ أعلى المراتِبِ   - الدروس المُستخلَصة: 1- أنا حيث أضعُ نفسي لا حيث يضعني الناس، فكلّما ارتفعتَ بي همّتي نلتُ من المراتب أعلاها. قال الشاعر: نفسُ عصامٍ سوّدت عصاما **** وعلّمتهُ الكرَّ والإقداما و(سوّدت) يعني جعلتهُ سيِّداً في قومه. 2- كثيراً ما تكون الأمنيات التي تحملها النفوس الكبيرة سبباً لارتقاء المناصب العالية، فهم يجعلون من أمنياتهم أهدافاً ويسعون للوصول إليها.   القصّة الخامسة  "أخشى أن أعتاد القبيحَ!!" غضِبَ أميرٌ على سائسٍ (مربِّي خيول) عنده، وكان الأميرُ حليماً، ولم يكن معتاداً على الشّتم والسّبِّ، ففكّر في كيفيّة شتم السّائس المُقصِّر، ثمّ اهتدى لطريقةٍ تصوّر أنّه بها يُنفِّس عن غضبه، فنادى أحد الخدم الذين تحت إمرته، وقال له: إشتم لي هذا السّائس!! إلا أنّ الخادم النبيلَ اعتذرَ بطريقةٍ لبقةٍ، فقال: أرجوك يا مولاي أن تعفيني من هذه المأموريّة الشاقّة، لأنِّي أخشى أن يعتاد لساني القبيح من الكلام!! فسُرّ الأميرُ الحليمُ من حُسْنِ جوابه، ولم يجبرهُ على ارتكاب القبيح.   - الدروس المُستخلَصة: 1- إعتيادُ القبيح خطوةٌ تتبعها خطوات، فإذا لم تخطُ الخطوة الأولى في تجريب المُنكر والبذيء والمُسيء نجوت.. وإذا تداركتَ ذلك في البداية نجوت، أمّا إذا استُدرجتَ فقد هويت. 2- أن أكون عاملاً عند البعض، لا يعني أن يُسخِّرني في مآربه الدنيئة والبذيئة والمسيئة، فإذا لم يفصل بين عملي وبين مآربه، فعليَّ أن أفصل، فكَوْني عاملاً لا يعني كَوْني عبداً، وكوني مُستخدَماً لا يعني استخدامي في الشّتم وإطلاق البذاءات. 3- التصرّف الصحيح يُريحُ النفس، ويُريحُ الآخر، فإذا رفضتَ أن تُستغلّ، وأن تكون الضحيّة وكبش الفداء، فسيحترمكَ الآخرون، وإن لم يفعلوا فقد احترمتَ نفسك. 4- قُل لِمَن يريد توريطَكَ في الحرامِ والمكروه والممنوع: إذا كنتَ لا ترضاهُ لنفسك، فكيف ترضاهُ لي.. كما أنّ نفسك عزيزةٌ ومحترمةٌ لديك، فلا تريدُ إهانتها، نفسي كذلك عزيزةٌ ومحترمةٌ ولا أريد أن أهينها أو أنتقصُ من كرامتها!   القصّة السادسة  "أستحي أن...!!" قيلَ للإمام الحسن بن علي (ع): لأيِّ شيءٍ نراكَ لا تردُّ سائلاً (طالِب مال)، وإن كنتَ في فاقةٍ (حاجة شديدة)؟ فقال: إنِّي لله سائلٌ، وفيه راغبٌ، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأردَّ سائلاً!! وإنّ الله تعالى عوّدني عادة: عوّدني أن يُفيضَ عليَّ، وعوّدتهُ أن أفيضَ نِعَمِهِ على الناس، فأخشى إن قطعتُ العادة، أن يمنعني العادة!!   - الدروس المُستخلَصة: 1- "أستحي أن أكون سائلاً (طالباً من الله نعمةً أو حاجةً)، وأردّ سائلاً يطلبُ حاجةً منِّي"!! الحياءُ من شيءٍ حين تعمله لنفسك ولا تفعلهُ لغيرك، معلِّم ذاتيٌّ عظيم، ومُربٍّ كبير.. حياءُ (المنعِ) في قبالِ (القبضِ). 2- "عوّدني عادةً.. وعوّدتهُ عادةً".. فإذا عوّدك الله تعالى أن يكون لطيفاً رحيماً كريماً معك، فما أجمل أن تعوِّده أن تكون لطيفاً كريماً رحيماً مع غيريك.. إنّ مبدأ (العادة المُتبادلة) مبدأ تربوي ضخم. 3- شعارُ "أستحي أن..." يوازي شعار "أخشى أن..."، أعِدْ قراءة القصّة ثانيةً وتأمّل في الشعارين.. وجرِّبهما ولو لمرّة!!

ارسال التعليق

Top