• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف تشكّل الثقافة تطوّر الإنسان؟

كيف تشكّل الثقافة تطوّر الإنسان؟

◄سانت أندروز ــ تُرى هل يوجد تفسير تطوّري لأكبر النجاحات التي حقّقتها البشرية ــ في التكنولوجيا، والعلوم، والفنون ــ ويمكن تتبع جذوره إلى السلوك الحيواني؟ طرحت هذا السؤال لأوّل مرّة قبل ثلاثين عاماً، ومنذ ذلك الوقت كنت عاكفاً على التوصل إلى إجابة عليه.

الواقع أنّ العديد من الحيوانات تستخدم الأدوات، وتُصدِر إشارات، وتقلّد بعضها بعضاً، وتحتفظ بذكريات من أحداث من الماضي. حتى أنّ بعض الحيوانات تطوّر تقاليد مُتَعَلَّمة تصاحب تناول أغذية بعينها أو إنشاد نوع بعينه من الأغاني ــ وهي أفعال تشبه إلى حدٍّ ما الثقافة البشرية.

بيد أنّ القدرة العقلية البشرية تتجاوز ذلك بأشواط بعيدة. فنحن نعيش في مجتمعات معقّدة ومنظّمة حول قواعد، وأخلاقيات، ومؤسسات اجتماعية يُرمَز لها لغوياً، وتعتمد هذه المجتمعات بشدّة على التكنولوجيا. فقد ابتكرنا آلات تطير، ورقاقات إلكترونية، ولقاحات. كما كتبنا القصص، والأغاني، والسوناتات، ورقصنا في بحيرة البجع.

وقد أثبت علماء النفس التطوّري أنّ المهارات الإدراكية والمعرفية التي يمتلكها صغار الأطفال من البشر تماثل تلك التي تتمتع بها حيوانات الشمبانزي والأورانجوتان البالغة، عندما يتعلّق الأمر بالتعامل مع العالَم المادّي (على سبيل المثال الذاكرة المكانية واستخدام الأدوات). أمّا إذا تحدّثنا عن الإدراك الاجتماعي (مثل تقليد الآخرين أو فهم النوايا والمقاصد)، فإنّ عقول صِغار الأطفال متطوّرة بشكل أكبر كثيراً.

ونلاحظ نفس الفجوة في كلّ من مهارات الاتصال والتعاون. فلم تصمد تحت الفحص والتدقيق الادعاءات المبالغ فيها حول إنتاج القِرَدة العليا للغة: صحيح أنّ الحيوانات قادرة على تعلّم معاني الإشارات والربط بين تركيبات بسيطة من الكلمات، ولكنّها لا تستطيع إتقان بناء الجملة. وتُظهِر التجارب أن القِرَدة العليا تتعاون بقدر أقل كثيراً من السهولة مقارنة بالبشر.

وبفضل التقدّم في عِلم الإدراك المقارن، أصبح العلماء الآن على يقين من أنّ الحيوانات الأُخرى لا تمتلك قدرات مستترة في التفكير الاستدلالي والتعقيد الإدراكي، وأنّ الفجوة بين ذكاء البشر وذكاء الحيوان حقيقية. كيف إذن نشأ وتطوّر شيء بهذا القدر من الاستثنائية والتفرد الذي يحظى به العقل البشري؟

مؤخراً، نجحت جهود مضنية في تخصصات متعدّدة في التوصل إلى حل لهذا اللغز التطوّري القديم قِدَم الأزل. فقد تبيّن أنّ الخصائص الأكثر استثنائية التي يتسم بها نوعنا ــ الذكاء، واللغة، والتعاون، والتكنولوجيا ــ لم تتطوّر بوصفها استجابات تكيفية لظروف خارجية. بل إنّ البشر مخلوقات من صُنع ذواتها، فهي تتمتع بعقول لم تُبنّ للثقافة فحسب، بل وأيضاً بالثقافة. بعبارة أُخرى، عملت الثقافة على تحويل هيئة العملية التطوّرية.

وقد استقينا أفكاراً أساسية من الدراسات التي تناولت السلوك الحيواني، والتي أظهرت أنّه على الرغم من انتشار عملية التعلّم الاجتماعي (التقليد) في الطبيعة، فإنّ الحيوانات انتقائية للغاية في اختيار ماذا ومَن تقلد. ولا يمنح التقليد ميزة تطوّرية إلّا عندما يكون دقيقاً وفعّالاً. وبالتالي، ينبغي للانتقاء الطبيعي أن يُحابي البُنى والقدرات التي تعزّز دقّة وكفاءة التعلّم الاجتماعي في الدماغ.

وبما يتسق مع هذا التكهن، تكشف الأبحاث عن روابط قوية بين التعقيد السلوكي وحجم الدماغ. فالرئيسيات ذات الأدمغة الكبيرة تستحدث سلوكيات جديدة، وتقلّد إبداعات وابتكارات الآخرين، وتستخدم الأدوات أكثر مقارنة بالرئيسيات ذات الأدمغة الصغيرة. ويكاد يكون من المؤكد أنّ عملية انتقاء الذكاء المرتفع تستمد من مصادر متعدّدة، ولكنّ دراسات حديثة تشير ضمناً إلى أنّ انتقاء الذكاء للتعامل مع البيئات الاجتماعية المعقّدة في القِرَدة والقِرَدة العليا أعقبه انتقاء أكثر تقييداً للذكاء الثقافي في القِرَدة العليا وسعادين الكبوشي، وقِرَدة المكاك.

لماذا إذن لم تخترع الغوريلا الفيسبوك، أو لماذا لم تصنع سعادين الكبوشي مركبة فضاء؟ الواقع أنّ تحقيق مثل هذه المستويات العالية من الأداء الإدراكي المعرفي لا يتطلب الذكاء الثقافي فحسب، بل يستلزم أيضاً الثقافة التراكمية، حيث تتراكم التعديلات بمرور الوقت. وهذا يتطلب نقل المعلومات بدرجة من الدقّة لا يتمكن من بلوغها سوى البشر. وتؤدّي الزيادات الطفيفة في دقّة النقل الاجتماعي إلى زيادات كبيرة في تنوّع وطول أمد الثقافة، فضلاً عن البِدَع، والموضات، والمطابقة.

كان أسلافنا قادرين على تحقيق مثل هذا النقل العالي الدقّة للمعلومات ليس فقط بسبب اللغة، بل وأيضاً بفضل عملية التعلّم ــ وهي ممارسة نادرة في الطبيعة، ولكنّها تشمل البشر جميعاً (بمجرّد التعرّف على الأشكال الدقيقة التي تتخذها). وتكشف التحليلات الحسابية أنّه على الرغم من صعوبة تطوّر عملية التعلّم في عموم الأمر، فإنّ الثقافة التراكمية تعمل على تعزيز عملية التعلّم. وهذا يعني ضمناً أنّ التعلم والثقافة التراكمية يتطوّران معاً، فينتجان نوعاً قادراً على تعليم أقربائه ضمن نطاق عريض من الظروف.

في هذا السياق، ظهرت اللغة. وتشير الدلائل إلى أنّ اللغة نشأت في الأصل لتقليل التكاليف، وزيادة الدقّة، وتوسيع مجالات التعلّم. ويفسّر هذا التعليل الخصائص العديدة التي تحملها اللغة، بما في ذلك التفرّد، وقوّة التعميم، وحقيقة أنّها مُتعَلَّمة.

الواقع أنّ كلّ العناصر التي دعمت تطوّر القدرات الإدراكية لدى البشر ــ حجم الدماغ نسبة إلى حجم الجسم (الزيادة التطوّرية في حجم الدماغ)، واستخدام الأدوات، والتعلّم، واللغة ــ تشترك في سِمة أساسية: فقد عملت الأنشطة الثقافية على خلق الظروف التي دعمت تطوّر البشر من خلال الاسترجاع الانتقائي. وكما تشهد الدراسات النظرية، والأنثروبولوجية، والجينية جميعها، فقد دعمت الديناميكية التطوّرية المشتركة ــ التي بموجبها عملت المهارات المنقولة اجتماعياً على توجيه عملية الانتقاء الطبيعي التي شكّلت التركيب البنيوي البشري والإدراك ــ تطوّر البشر على مدار 2.5 مليون سنة على الأقل.

كما عمل استعدادنا الشديد للتقليد والتعلّم واكتساب اللغة على تشجيع مستويات غير مسبوقة من التعاون بين الأفراد، فضلاً عن خلق الظروف التي عززت آليات التعاون الطويلة الأمد مثل تبادل المنفعة والتعاضد، بل وأيضاً توليد آليات جديدة. وفي هذه العملية، خلقت ثقافة الجينات والتطوّر المشترك سيكولوجية البشر ــ الدافع للتعلّم، والتحدّث، والتقليد، والمحاكاة، والاتصال ــ التي تختلف تمام الاختلاف عن سيكولوجية الحيوانات الأُخرى.

وقد ألقى التحليل التطوّري بعض الضوء على نشوء الفنون أيضاً. على سبيل المثال، تشرح لنا دراسات حديثة لتطوّر الرقص كيف يتحرّك البشر بشكل موقوت مع الموسيقى، وبالتزامن مع آخرين، وكيف يتعلّمون سلاسل طويلة من الحركات.

الواقع أنّ الثقافة البشرية تميزنا عن بقية أفراد المملكة الحيوانية. ويساعدنا استيعابنا للأساس العلمي الذي تقوم عليه الثقافة على إثراء فهمنا لتاريخنا ــ ولماذا أصبحنا النوع الذي أصبحنا عليه.►

تعليقات

  • محمد رموز

    الثقافة من العوامل المؤثرة في بنية الدماغ لأن عقل الانسان يستوعب الماهيات والمجردات عكس الحيوان فهو غريزي وتحركه الغرائز كغريزة الاكل وغريزة التوالد

ارسال التعليق

Top