◄العبارة الشائعة في الخطاب الثقافي المعاصر عن أنّ العالم أصبح قرية كبيرة، تشير إلى أننا نعيش الآن في "عالم منكمش" إن صح التعبير ليس بفعل أي تغيرات مناخية أو ظواهر كونية وإنما نتيجة للتقدم الهائل والرائع في تكنولوجيا الإتصال بمختلف أشكالها وخصائصها النوعية ابتداء من وسائل النقل الحديثة والسريعة التي يسّرت الحراك السكاني والإحتكاك الفيزيقي بين البشر وتبادل السلع والخدمات، وحتى وسائل الإعلام المتنوعة والكمبيوتر والإنترنت، التي سهّلت الحراك الفكري والاحتكاك الثقافي والاجتماعي وتبادل المعلومات والأفكار، وحققت بذلك، وبأعلى درجات الوضوح والفاعلية معنى وأبعاد وأهداف العولمة ووصول تأثيراتها ونتائجها إلى أصغر الوحدات الاجتماعية، بل وإلى جميع الأفراد في كلّ أنحاء كوكب الأرض.
فقد أفلحت تيارات العولمة في فرض نفسها على كلّ مظاهر الحياة اليومية، بشكل أو بآخر، وتغيير الكثير من انماط السلوك والقيم والأخلاقيات المتوارثة وفرض أفكار وقيم جديدة مستوردة من المجتمعات والثقافات المهيمنة وخلقت بذلك شكلاً جديداً من الاستعمار الفكري الذي يتخفى تحت شعار التقدم وتحقيق التقارب بين الشعوب والثقافات. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا هنا هو: هل قضى ذلك الانكماش وتلك التغييرات الجذرية التي طالت كلّ شيء على الهويات الفردية والاجتماعية والثقافية؟ وأعتقد أنّ الإجابة ستكون "نعم". فلقد أدت كثافة الإتصالات وتبادل التأثيرات الاجتماعية والثقافية إلى تقليص وإختزال مفهومي الزمان والمكان وكان لذلك آثار واضحة في التغيرات التي طرأت على شخصية الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين وإعادة تشكيل العلاقات الإنسانية على أسس ومبادئ جديدة تكشف وتعبر عن تراجع الفوارق المميزة للأفراد والجماعات وشحوب مقومات الهويات الخاصة، وأصبح الإنسان المعاصر يواجه الآن وعلى جميع المستويات وشتى المجالات، مشكلة البحث عن هوية في عالم تختلط فيه النظم والقيم واللغات والثقافات وتتعرض فيه الخصائص والمقومات المتمايزة لعوامل ومؤثرات تحاول أن تحل التشابه والتماثل والتجانس محل الاختلاف والتباين والتغاير الذي عهدته الإنسانية خلال تاريخها الطويل، وهو ما يستتبع نشوب صراعات صريحة أو مستترة بين قوى التغيير التي تحملها تيارات العولمة وقوى المحافظة على كلّ ما هو تقليدي ومألوف.
إنّ أبسط مظاهر هذه التعقيدات والصراعات وشحوب الهويات هي التي تنشأ عن الهجرات البشرية الواسعة التي تعتبر أحد متطلبات ونتائج العولمة، وما يرتبط بتلك التحركات والهجرات من تغييرات في التركيب السكاني والبناء الاجتماعي والثقافي في المجتمعات التي تتعرض لتلك الهجرات الواسعة. فالأغلب هو أن يحمل هؤلاء المهاجرون أو النازحون معهم التقاليد وأساليب الحياة وأنماط القيم السائدة في مواطن إقامتهم الأصلية، وكثيراً ما تتعارض هذه الأساليب والأنماط السلوكية والأخلاقية مع ما هو سائد في المجتمعات الجديدة بحيث يصعب تقبّلها والتكيف معها تماماً، وإن كان يتحتم عليهم مسايرتها حتى تستقيم حياتهم اليومية، وذلك في الوقت الذي تعمل وسائل الإعلام والإتصال الحديثة والمتطورة على الإبقاء على العلاقات التقليدية بين هؤلاء المهاجرين ومجتمعاتهم وأوطانهم الأصلية، مما أدى إلى قيام نوع من الإزدواجية في مشاعر الإتماء والتوزيع العاطفي بين مجتمع الأصل ومجتمع الإقامة الجديدة وإلى إضطراب الشخصية التي أصبح من الصعب فهمها والتعامل معها ومعرفة إتجاهاتها ومطالبها ونظرتها إلى الأمور وتقييمها للأشياء في ضوء الأوضاع الجديدة وحدها أو بالرجوع إلى ثقافة المجتمع الأصلي وحدها، وإنما يتطلب الأمر العودة إلى الثقافتين والمجتمعين معاً، بل وقد يتطلبان الرجوع إلى مجتمعات وثقافات أخرى عاش فيها هؤلاء المهاجرون من قبل وتأثروا بأساليب العيش فيها مما زاد من تعقد شخصياتهم وارتباك علاقاتهم بالآخرين.
أسلوبان متعارضان:
وهنا يجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم أمام أسلوبين متعارضين للحياة. فهناك من ناحية الممارسات اليومية والعلاقات الاجتماعية الواقعية التي تقوم بالفعل بين الأفراد في المجتمع الجديد أو المجتمع "المضيف" حسب التعبير الذي يحب بعض الكتاب في الخارج استخدامه، للتدليل على الرفض المبدئي الصريح لفكرة قبول واستيعاب الوافدين، وهو على أيّة حال أسلوب حياة يحاول التوافق والتلاؤم مع القواعد السلوكية والقيم المتعارف عليها في ذلك المجتمع الجديد، أي أنّه أسلوب أو طريقة للوجود فحسب ولذا فهو يتعارض مع ما يمكن أن نطلق عليه أسلوب الإنتماء الذي يشير إلى الروابط بالمجتمع الأُم عن طريق التمسك بقيمه حتى وإن لم يلتزم بها في كل تصرفاته اليومية وكذلك وربما كان هذا هو الأهم والأكثر دلالة عن طريق الذاكرة والحنين بل والخيال في بعض الأحيان. ولكن الأغلب أنّ هذه الإزدواجية الناشئة عن الانتقال الواسع المدى لا تستمر إلا مع الجيل الأوّل الذي مرّ بالتجربة وحمل معه ذكريات الماضي، ثمّ لا تلبث أن تختفي تدريجياً في الجيل أو الأجيال التالية، ولا يطلق عليها بعض المفكرين تعبير ظاهرة الجيل الواحد أو الظاهرة وحيدة الجيل لأنها تضعف حتى تزول في الأجيال التالية، التي لا تعرف شيئاً كثيراً عن ثقافة وأساليب الحياة ونمط التفكير ومنظومة القيم في المجتمع الذي خرجت منه تلك الهجرات. ومن هنا كنا نجد من الناس من يعيشون بطريقة دائمة أي يوجدون في غير موطنهم الأصلي وقد يحملون تبعاً لذلك أكثر من جنسية أو هوية واقعية ولكنهم يرتبطون عاطفياً بذلك الموطن الأصلي. وبذلك يحملون في وقت واحد هوية الإقامة أو الوجود وهوية الإنتماء على أساس العواطف والنزعات والميول السيكولوجية التي تظل موجهة في الأغلب نحو الوطن الأُم. فالشخص في هذه الحالة يكون موزعا بين هويتين متعارضتين يصعب التوفيق بينهما. وعلى أيّة حال فإنّ التغيرات التي تحدث في الهوية الأساسية إنما تتم ببدء شديد حتى وإن لم يتعمد الفرد أو المجتمع مقاومة التغير إعتزازاً بالمقومات الأصلية التي صاغت شخصيته وتميز كيانه الواضح المستقل.
ولكن إذا كان الحراك الفيزيقي للبشر عبر الحدود الإقليمية يمثل أبسط وأقدم صورة للعولمة ويترتب عليه كلّ هذا الانقسام في هوية الفرد والمجتمع، فإنّ الحراك الفكري الذي يتم الآن عن طريق وسائل الإعلام الحديثة وأساليب الإتصال الرقمي تقوم بهذه المهمة ذاتها ولكن على نطاق أوسع وبكفاءة أعلى بكثير من النقلة المكانية، وإن لم يترتب على ذلك أي صراع أو عداء أو صدام فيزيقي على ما يحدث في حالة الحراك السكاني والهجرات البشرية. فالحراك يتم هنا عن طريق وسائل الإتصال الحديثة دون أن يضطر الإنسان للإنتقال بجسمه أو أن يبرح مكانه، فهو حراك غير مجسد تلعب فيه التكنولوجيات الإلكترونية والرقمية الدور الأساسي في تحقيق عولمة طليقة أو متحررة من القيود والحواجز المادية، ومن كل القواعد والقوانين التي قد تفرضها الحكومات على حرية الإنتقال والنزوح والإقامة. فالإحتكاك عن طريق التكنولوجيات القرمية إتصال فكري مجرد، يتم عن بعد وبين أطراف يجهلون كلّ شيء عن بعضهم بعضاً، ولكن آثاره على الهوية أبعد وأعمق بكثير وأشد خطورة على الرغم من أنّه يحدث بطريقة ناعمة تكاد تكون غير محسوسة قلما تدعو إلى العداء والمقاومة العلنية الصريحة.►
المصدر: كتاب علاقة الحياة بالعلوم المعرفية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
SID AHMED ABD ALMONIEM
شكراً