• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مبدأ السلم مع الآخر

عمار كاظم

مبدأ السلم مع الآخر

دلّت الآيات القرآنية على تأصيل مبدأ السلم مع الآخر بحيث يكون السلام هو المناخ الذي يحيط بأي علاقة بالآخر مهما كان بعيداً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 208)؛ ولكنّ الدعوة إلى السلم لا تنطلق من الجبن والخوف وإنّما من الروح الإيجابية وقوّة الرحمة في الإسلام: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمّد/ 35). والنظرة القرآنية لهذا التعامل إنّما تنطلق من الرحمة الإلهية في التعامل مع الآخر، قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة/ 109).

ومن هنا فإنّه من الضروري الرجوع إلى المبادئ العامّة التي أرساها القرآن الكريم للتعامل مع الآخرين والتي تختزن في جوهرها الرحمانية والرحيمية تجاه الآخر، ومحاولة مقارنتها ومقاربتها على المستوى الفردي والعام للسلوك الذي نتصف به اليوم، ومن أهمّ هذه المبادئ والقواعد الإلهية:

- الحوار: قال تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24)، والآخر هنا من الفئات الضالّة، ومع ذلك فقد أطلق الإسلام لغة الحوار معه، وأطلقها في مناخٍ من الراحة والهدوء غير المسبوق بقناعات وعقائد مسبقة، أي حوار مبني على قاعدة أنّ المتحاورين يمكن أن يكونا على هدى، ويمكن أن يكونا على ضلال، وفي ذلك منتهى احترام إنسانية الآخر.

- الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/ 125)، فلغة الدعوة وبيان الحقائق الإلهية ينبغي أن تكون حكيمة في مخاطبتها للعقل والقلب، كما أنّه ينبغي في الداعي أن يكون واعياً مُلمّاً بهذه المعارف الإلهية حتى لا يُسيء للشريعة وهو يحسب أنّه يُحسن صنعاً، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف/ 108). ولذا نجد القرآن عبارة عن حوار وجدال بين الأنبياء وأقوامهم الذين خالفوهم ولم يتبعوا تعاليمهم وبقوا على ضلالهم وباطلهم.

- الجدال الأحسن: وهو لغة التخاطب والتعامل مع الآخر عند الاختلاف في وجهات النظر وتعدّد الآراء حيال مسألة ما، فالقرآن الكريم لم يرتضِ من المسلم في هذه الحالة أن يقدّم الحسن بل دعاه عند الاختلاف إلى ضرورة تقديم الأحسن؛ لأنّ القرآن يعتمد على قوّة الفكر، وبالتالي فإنّ القرآن اعتمد الجدال الحسن لغة أساسية للدعوة والتعامل مع كلّ الأطراف، قال تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

- دعوة الآخر إلى النقاط المشتركة: قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله) (آل عمران/ 64). وهذه الدعوة بحسب ظاهر الآية تنطلق من التوحيد الذي يعتبر مساحة مشتركة بين الطرفين إلى العبادة العملية لله وحده لا شريك له؛ لأنّ مقتضى العبودية لله عدم الشرك به من الناحية النظرية، وهناك بُعد آخر على المستوى العملي وهو عدم اتخاذ أرباب من دونه كالمال والسلطة والهوى والشهوات.

- الإعراض الإيجابي عن أعمال الآخر: قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص/ 55). وذلك عبر الإعراض عن الجاهلين والمشركين، والغض عن تصرّفاتهم، باقتلاع الخوف وإظهار الأمن والسلام لهم، ويظهر الإعراض الإيجابي من قوله تعالى: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (القصص/ 55).

- الدفع بالأحسن: قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34). فليس المطلوب في مواجهة سيِّئات الآخر دفعه بسيِّئةٍ مثلها بل ينبغي التمتع بالنظرة الإيجابية تجاهه، كلّ ذلك كفيل بنقل الآخر من جهة الضلال والعداوة إلى جهة الحقّ والولاية، وليس إلى الولاية فحسب بل الغريب أن تنقله العداوة والبغضاء إلى الحميمية العالية.

ارسال التعليق

Top