أشار القرآن الكريم إلى أنّه أُنزل في شهر الصيام، (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). أما كونه هدىً للبشر كافة، فيُشعر بأنّه من اليسر والوضوح، بحيث يسعهم أن يعقلوه، ويدركوا معانيه ومراميه، مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17)، وقوله عزّ شأنه: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء/ 195)، فالهدى معنى قريب مشتركٌ فهمُهُ بين الناس كافة. أما "البيِّنات" فهي أدق وأخص معنى، لأنّها شواهد ودلائل اقناع تحمِلُ في طياتها أصول برهان قضاياها، وعناصر عقلية تنهض بحقّيتها، من دقيق المعاني الذي يتضمنه هذا الكَلِمُ الإلهي المقتدر البليغ المُعجز، وهذا يفتقر – بلا ريب – إلى طاقات عقلية، وفضل اجتهاد، وبحث يقوم على التفكير المتعمَّق من أهله، لتبيُّنها واستنباطها وتمثُّلها، وهذا هو أسلوب القرآن الكريم في الجَمْع بين "العقل والوحي". هذا، والصوم – بما هو مجاهدة نفسية، واقعية، تؤول إلى تجرُّدٍ روحي، وتفتُّحٍ عقلي، وإشراق نفسي – قد اتخذه الله تعالى وسيلة فعّالة لتمكين العقل والنفس من اجتلاء وتمثُّل تلك "البينات" التي قوامها شواهد وأدلة إقناعية – مفهوماً وغاية – تنهض بالحقائق الكبرى في هذا الوجود، وعلى رأسها الإيمان بالخالق الباريء جلّ وعلا، وما يفيض عنها من القيم العليا، والمُثُل الخالدة: من الحقّ، والعدل، والحرّية، والمساواة في الاعتبار الإنساني، والرحمة، والإحسان، والفضل، والتضحية والجهاد، لتأصيلها وإعلائها، والإيثار وإنكار الذات، وغيرها مما يمثِّل في مجموعه، مُثُلاً عليا للكمال الإنساني، ويعتبر "فرقاناً" فاصلاً بين الحقّ والباطل، أو فيصلا حاسماً بين عهود وجهالات قد زالت وانقضت، وبين حياة إنسانية فُضلى قد ابتدأت بنزول هذه النعمة الكبرى على البشر كافة (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). هذا، ولا مِرْيةَ أنّ للظروف – ولا سيّما الروحية الخالصة – تأثيراً بالغاً على الملكات والقوى المعنوية في النفس الإنسانية، فالمشاعرُ تُرهف وتتَّقد، والنفس تصفو وتُشرق، والعقل يُشحَذُ ويتفتّح، فينبري للتفكير والإمعان والتأمل، إذ يغدو بصفاء النفس والروح، أقدر على اجتلاء أسرار هذا البيان الإلهي المعجز، وما كان يسهل عليه النفاذ إليها – حقيقة وغاية – لولا هذا الظرف المتجرِّد، بما ينطل فيه الروح من أغلال المادة وأوضارها، ليحلِّق في أُفُق رَحب من المعاني، والحقائق، والقيم، فيتقوى ويرقى إلى استشرافها، ليقتدر على أن يُوجِّه السعي لرغائب هذا الروح، بما اتخذ من الجسد مطية ذلولاً لتحقيقها بحكم سلطانه عليه، ولا ريب أنّ "قوة الروح" هي الكنز المعنوي للإنسان، به تتحقق إنسانيّتُهُ، أنّى كان، والصوم من أقوى روافده، بما يمده من القوى التي يعلو بها عن المشتهيات المادية، ومنازع الهوى، وَشِرّة "الأنانية" الرابضة في أعماق النفس البشرية، وليس هذا قولاً منا نزعمه، أو نتخيله، أو نبدعه، وإنما هو الواقع الحيوي الذي كان يحياه الرسول نفسه - (ص) - في شهر الصيام خاصة من كلّ عام، ليضرب للبشرية في أحقابها المتطاولة، مثلاً واقعياً حيّاً، فيما يدبر الصوم من أمر هذا الإنسان تدبيراً يؤثِّر على كيانه، جسداً وروحاً وعقلاً ونفساً وإرادةً، حيث كان - (ص) - في شهر رمضان، يَهْجُرُ النوم إلّا قليلاً، ويجتزِىءُ بما يقيم الأودَ من الطعام، ويرتقى جبل "حراء" ليستعين بالصوم والتجرد، على التفكير والتأمل، استجلاءً للحقيقة الإلهية العليا، في هذا الجو الروحي النقي الخالص.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق