◄إنّ من سمات الفن والجمال عدم التنافر، والتطرّف، والتكرار الملل.. وهذه هي سمات السعادة المميزة في الحياة.. لأنّها تكون خالية من الرتابة ذات الوتيرة الواحدة.. إنها الإيقاع الذي يتلوّن ويتجدّد ويتغيّر من نبرة إلى نبرة دون الإيحاء بأي جديد أو مبتكر.. وإلّا لكانت تلك الموسيقى مزعجة، ولأصاب الملل كلّ من سمعها..
أوكل إلى أحد أنجح الصحفيين العامليين أن يختبر بعض المتقديمن للعمل الصحفي.. وبعد أن اطلع على نماذج مما كتبوه أشاد ببعضهم موضحاً أنهم بالإمكان أن يصبحوا صحفيين ناجحين في يوم ما.. ولكنه رفض أحدهم رفضاً باتاً قائلاً بامتعاض ظاهر:
"لا يمكن لهذا أن يصبح كاتباً صحفياً.. إنّه لا يعرف ألف باء الكتابة..".
ولما سئل: وما هي ألف باء الكتابة؟.. أجاب: "هناك شيء اسمه الإيقاع.. وموسيقى الألفاظ.. إنّه نوع من الانسجام بين كلمة وأخرى.. وهذا الانسجام لا يحصل عليه الإنسان بمجرد حصوله على شهادة من الجامعة، أو حفظه لمعاني الكلمات ومشتقاتها، واطلاعه على وجوه نحوها وإعرابها..".
هذه الموسيقى هي التي تجذب القارئ إلى متابعة العبارات، وتسحره في جوّها، فيتصور أنّه في لذلة ما بعدها لذة.. وفي سبيل تلك اللذة يتحمل السهر ويصبر على المشاق التي يعاني منها فيما يواجهها من جداول أو إحصاءات أو أرقام..
ما المقصود بالانسجام الموسيقي أو التناغم؟
يقتضي لمعرفة الإجابة على هذا السؤال ثقافة واسعة في علم الأصوات وتداخله في علم الفيزياء.. ولكن ليس من الضروري لكل عارف باللغة أو لكل متذوق للموسيقى أن يدرس التموّجات الفيزيائية للأصوات وذبذباتها أو علم الأصوات اللفظية.
ويبدو أنّ مثل هذه الأمور المتخصّصة شكّلت عقبة في فهم ما كتب الفارابي في مصنّفه "كتاب الموسيقى الكبير" فأجفل من تحقيقه بعض الباحثين، واستصعبوا شرحه، أو تقريب تعابيره..
من المفيد إذا أن نعرف موقع التناغم والانسجام في الموسيقى التي نسمعها كلّ يوم.. يقول الباحثان ددلي وفاريسي: إنّ الانسجام أو التناغم هو مزيج من أنغام متداخلة متناظرة لذيذة..
والنغم صوت مميز عن مجرد الضوضاء.. لأنّه ذو ذبذبات منتظمة وبطبقة صوتية ثابتة..
والفرق بين الضوضاء والموسيقى هو في درجة انتظام الذبذبات... فإن كانت هذه لا تتبع أسلوباً معيّناً، بحيث تطغى عليها الفوضى وعدم الانتظام في التتابع والتقطيع، كانت أصواتاً ذات جلبة وضوضاء مزعجة فقط.
وكما هو الفرق بين رائحة العطر والنتن هو كذلك في درجة الذبذبات في التموّجات التي تطلقها تلك الروائح في انتظامها أو عدمه.. لكأن الإنسان في كيانه حركة منتظمة.. فإنّ أيّة ذبذبات تأتيه من الخارج قد تنسجم مع إيقاع حركته الداخلية، فيتقبلها وتسري فيه سريان العطر في نفسه أو الموسيقى العذبة في كيانه..
وعلى هذه يمكن الاستنتاج أنّ الإنسان متى انسجمت ذبذبات كيانه الكلية مع موسيقى الحياة من حوله كان في وضع من اللذة والسرور، ويمكن تسمية وضعه هذا بالسعادة..
وهل يوصي الأطباء والمختصون في علم النفس بالاستماع إلى الموسيقى الخفيفة في أثناء تناول الطعام إلّا لتحقُّقهم من أنّ الإيقاع الموسيقي يساعد على التناغم في الإيقاع الحركي لمختلف أعضاء الجهاز الهضمي وإفرازات غدده..؟ .. يقول الدكتور هارلو وزميله: من الممكن بعث النشاط في حركة المعدة الخاملة، أو إيقاف حركة المعدة النشطة، وكذلك فيما يخص ضغط الدم والجهاز العصبي ككل.. وكان كنفوشيوس يستخدم الموسيقى في علاج الأمراض النفسية..►
المصدر: كتاب الذكاء والتفوّق والعقد النفسيّة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق