• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

موقع الزكاة ومعطياتها

السيد محمد باقر الصدر

موقع الزكاة ومعطياتها

◄انّ النظام الاقتصادي الإسلامي هو أحد النظم الإسلامية الرائعة التي أثبت الإسلام عظمتها من خلال تشريعها.

كما أثبت فشل كلّ الأنظمة الاقتصادية المادية اليوم وجوبَ الرجوع إلى الإسلام واستهدافه في مجال تنظيم الحياة الاقتصادية.

فالنظام الاقتصادي الإسلامي يمتاز بأنّه يوفر الأمرين الذين عجزت عن توفيرهما كلّ النظم الأخرى. وهما مسألة الحرية في التملك وإشباع الذات، ومسألة الضمان والتكامل والتوازن الاجتماعي. فقد قال بهما في آن واحد باعثاً الطاقات على العمل وموفراً للإنسانية نوعاً من الثقة والاطمئنان بالمستقبل.

 

الزكاة جانب ثابت:

والزكاة أحد الموارد الرئيسية التي تمكن الحاكم الشرعي المسؤول عن إدارة المجتمع أن يقوم بواجبه في خلق التكافل والتوازن.

ولما كانت الزكاة معينة محددة فهي إذن تعالج جانباً ثابتاً من حاجات الإنسان. وتعتبر في نظر الإسلام حاجة ضرورية للمجتمع إذ توفر أدنى الدرجات التي تكفي للقيام بجانب من مهمة التكافل الاجتماعي.

وهناك أحاديث دلت على هذا المعنى نقتبس منها ما يلي:

أ) عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنّه قال: "انّ الله فرض للفقراء من مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم. إنّهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عزّ وجلّ ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم مما فرض الله لهم، ولو أنّ الناس أدّوا ما فرض الله لهم لكانوا عايشين بخير".

ب) وعنه (ع): "إنّ الله عزّ وجل، فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو علم أنّ الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم".

ج) وعنه (ع): "ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً ولا محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله له، وأنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلّا بذنوب الأغنياء".

 

القاعدة الفكرية للزكاة:

ولما كانت كلّ تشريعات الإسلام تبتني على أرضية معينة يهيئها الإسلام مسبقاً لتؤدي الأحكام آثارها المطلوبة في الحياة، ولما كانت هذه الأرضية تتألف من عناصر ثلاثة متتابعة هي العقيدة، والمفاهيم، والعواطف، فقد رأينا أنّ تشريع الزكاة قد بني على أساس من الاعتقاد بالله العظيم، خالق السماوات والأرض، والمالك لكلِّ شيء في الوجود، والواهب لكلِّ النعم، والاعتقاد بالحياة الأخرى والثواب الجزيل هناك.

وهاتان العقيدتان أبتنيت عليهما مفاهيم لها أثرها الكبير في كثير من الأحكام الإسلامية ومنها الزكاة. ومن هذه المفاهيم التي أبتنيت عليها الزكاة:

مفهوم خلافة الإنسان للأرض. فالقرآن يصرّح في مواطن عديدة بأنّ الإنسان خليفة الله تعالى في أرض، وأنّه يجب أن يحقق مقتضيات هذه الخلافة من إعمار الأرض والإنفاق لسد أي خلل اقتصادي يعوق المسيرة الإنسانية:

(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30)، (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7)، (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) (الأنعام/ 94).

ومفهوم أنّ الله تعالى خلق للإنسان ما في الأرض جميعاً وهيأ له كلّ ما يحتاجه (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) (إبراهيم/ 34)، (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا) (البقرة/ 29).

ومفهوم أنّ الرزق مقسوم للإنسان، فلن يخاف المسلم من النقص الطبيعي إذا أدى ما عليه من عمل، ومفهوم أنّ هناك ترابطاً بين عالم الغيب والشهادة، فإذا أنفق الغني في سبيل الله إزدادت النعم عليه.

ومفهوم الربح الأعم من الدنيوي والأُخروي. ففرق بين أن يعتقد الإنسان بأنّ حياته هي هذه الدنيا لا غير، أو يعتقد بوجود حياة أخرى هي الحياة الخالدة وهي الحيوان، وأنّ كلَّ تنازل عن لذة مادية دنيوية بأمر الله تعالى يعني الثواب الجزيل، والخلود في النعيم العظيم. فالربح إذن سيتغير مفهومه واللذة ستكون أعظم من هذه اللذائذ المعنوية.

ومفهوم الأُخوّة العامة الذي يذهب كلّ ما في البين من حسابات الربح والخسارة.

إنّ كلَّ هذه المفاهيم وغيرها تشترك في عملية دفع الإنسان المسلم لأن يقوم بواجبه خير قيام بل ويشعر معه باللذة التامة والعواطف المتأججة الدافعة نحو القيام بواجبه الاجتماعي في خلق التكامل والتوازن وإعطاء الفقير منها، بل الإنفاق فوق الواجب والمساهمة في رفع مستوى الفقراء إلى حد الغنى والاستقلال الذاتي في العمل والنمو خصوصاً وهم يعتقدون بأنّ الزكاة ستكون تحصيناً لأموالهم وإنماءً لها؛ بالإضافة للثواب الأُخروي، وأداء شكر الله تعالى على نعمه.

فعن الإمام الرضا (ع): "إنّ علة الزكاة من أجل قوت الفقراء وتحصين أموال الأغنياء، لأنّ الله عزّ وجلّ كلف أهل الصحة، القيام بشأن أهل الزمانة والبلوى كما قال الله تبارك وتعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (آل عمران/ 186)، في أموالكم إخراج الزكاة، وفي أنفسك توطين الأنفس على الصبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم الله عزّ وجلّ وللطمع في الزيادة مع ما فيه من الرأفة والرحمة لأهل الضعف والعطف على أهل المسكنة، والحث لهم على المواساة، وتقوية الفقراء والمعونة لهم على أمر الدين، وموعظة لأهل الغنى وعبرة لهم ليستدلوا على فقراء الآخرة بهم، وما لهم من الحث في ذلك على الشكر لله تبارك وتعالى لما خولهم وأعطاهم، والدعاء والتضرع والخوف من أن يصيروا مثلهم في أمور كثيرة في أداء الزكاة والصدقات وصلة الأرحام واصطناع المعروف".

يقول أمير المؤمنين (ع) كما في نهج البلاغة:

"وإذا وجدت من أهل الحاجة من يحمل لك زادك فيوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه، واغتنم من استقرضك في حال غناك، واجعل وقت قضائك يوم عسرتك". ويقول أيضاً: "والزكاة تسبيباً للرزق" ويقول (ع): "الله الله في الزكاة، فإنها تطفئ غضب الرب. الله الله في الفقراء والمساكين، فشاركوهم في معايشكم".

وعن الصادق (ع): عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)، قال: "قال رسول الله (ص) لا تزال أُمتي بخير، ما لم يتخاونوا، وأدوا الأمانة، وآتوا الزكاة. وإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين".

وقال رسول الله (ص): "إذا منعت الزكاة منعت الأرض بركاتها".

 

الأثر النفسي لإعطاء الزكاة:

أنّ لإعطاء الزكاة تأثيرات نفسية عظيمة لا يمكن أن نذكرها إلّا موجزاً.

إنّه يدفع المسلم لأن يجسد النعيم الأُخروي والرضوان الإلهي في ذهنيته، ويركز نظرته على تلك العوالم التي لم تر مثلها عين ولم تسمع مثلها اذن، وانّ هذه الحياة الدنيا إنما هي مقدمة لتلك الحياة ومزرعة لها. وأن ما يمتلكه الإنسان في هذه الحياة لا يقاس إلى ما يعطاه في تلك الحياة الخالدة "ما عندكم ينفد وما عند الله باق". وغير خاف انّ هذا التجسيد والتركيز له ما له من آثار على نفسية الإنسان وصوغها عاملة مسخرة لصالح البناء الإنساني العام، ومتجاوزة كلّ المصالح الشهوية التي تهدر تلك الطاقات. كما أنّ إعطاء الزكاة يربي عنصر التسليم المطلق لله تعالى في كلّ أوامره وخصوصاً الأوامر التي تتعلق بالجانب الاقتصادي حيث درج الإنسان على أن يحب المال حباً جماً... فتذوي لديه كلّ الشهوات أمام أوامر الله تعالى والتي هي الضمان الوحيد لرقيه وتكامله. كما أنّ الإسراع في تسليم الزكاة وإخراجها يركز في النفس التقوى وهي الملكة الجوهرية في التقييم الواعي للحياة والمفعمة بمعاني التقدم والسمو والصيانة. هذا بالإضافة إلى ما يعبر عنه دفع الزكاة من إنسانية، وشعور بالمسؤولية، وتحسس بآلام أبناء الجنس، بل الأعضاء التي ينشد معها إلى جسد واحد.

 

الزكاة تطهير:

ومما تجدر بنا الإشارة إليه خلال هذا العرض الخاطف، أنّ الزكاة – كما يوحي به اسمها – تطهير ونماء في آن واحد. فنحن نعرف أنّ الإسلام جعل الزكاة حقاً لله جعله للفقراء فهي حقّ لهم، وهي ما لهم بمجرد استحقاقهم، ومن هنا وجبت مبادرة الشخص المالك لدفعها إليهم، وتطهير ماله من أن يختلط به حقّ الغير.

 

الزكاة نماء:

وهنا تتلاحم نظرة معنوية أخرى مع هذه النظرة المعنوية وهي مسألة النماء. فإنّ تعاليم الإسلام التي عبرت دائماً عن الصلة بين عالم الغيب والشهادة ركزت على أنّ مثل هذا الدفع سيعود بالآثار المادية والنماء المادي فضلاً عن الآثار المعنوية الكبرى في الدنيا والآخرة. فقد رأينا الحديث يعتبر دفعها تسبيباً للرزق هذا في حين يعبر منع الزكاة عن كثير من الصفات النفسية الرذيلة من شح وبخل، وعدم إيمان بالثواب والعطاء، وعدم تحسس بآلام الإنسان، إلى غير ذلك. تماماً كما يعبر عن توقع النقص في الجوانب المادية نفسها. وقد جاءت الروايات الكثيرة التي تذم مانع الزكاة وتعتبره خارجاً عن جادة الحقِّ. ونحن نكتفي بذكر بعضها:

عن الصادق (ع) أنّه قال: "أنّ لله بقاعاً تسمى المنتقمة فإذا أعطى الله عبداً مالاً ولم يخرج حقّ الله منه سلط الله عليه بقعة من تلك البقاع فأتلف ذلك المال فيها ثمّ مات وتركها".

وعن ابن عمار، قال: حدثني من سمع أبا عبدالله (ع) يقول: "ما ضاع مال في بر أو بحر إلّا بتضييع الزكاة".

وقد ورد:

"من منع الزكاة وقفت صلاته حتى يزكي".

وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة.

موقع الزكاة من عملية التوازن الاجتماعي

لأجل التعرف على موقع الزكاة من عملية التوازن الاجتماعي نحتاج للتعرض بشيء من الإيجاز إلى روح هذه العملية والمنطلقات التي تشكل الأسس التي اعتمد عليها الإسلام في هذا المجال معتمدين على أعمق الآراء الإسلامية بهذا الصدد.

فإذا حاولنا تلمُّس المنطلقات الأصلية لعلاج الإسلام لقضية التوازن الاجتماعي نجد انّ الإسلام انطلق في علاجها من حقيقتين: إحداهما كونية والأخرى مذهبية مبنية على أساس تصوره هو لفكرة العدالة.

أما الحقيقة الأولى: فهي انّ أفراد البشرية متفاوتون من حيث الطاقات الجسمية، وهذا التفاوت موجود قبل أي تفاوت اجتماعي؛ إذ كلّ التفاوتات الاجتماعية انما هي رهينة على الأغلب لتلك التفاوتات التكوينية.

وأما الحقيقة الثانية: فهي ما آمن به الإسلام – على أساس من تصوره الخاص عن العدالة – من أنّ العمل هو أساس الملكية وما يتبعها من حقوق.

انّ الإيمان بهاتين الحقيقتين يعني قبول حصول تفاوت في الثروة من قبل الإسلام، وانّه لا يرى فيهما خطراً على التوازن الاجتماعي.

ويخلص الإسلام من ذلك إلى القول بأنّ التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل.

والتوازن في مستوى المعيشة معناه أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم إلى درجة تتيح لكلِّ فرد العيش في المستوى العام. أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنه تفاوت درجة وليس تناقضاً كلياً في المستوى كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي. وهذا لا يعني أنّ الإسلام يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة، وإنما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة هدفاً تسعى الدولة في حدود صلاحياتها إلى تحقيق الوصول إليه بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها.

ولأجل تحقيق هذا المبدأ فقد رأينا أنّ الإسلام حرّم – من جهة – الإسراف والتبذير، ونهى عن الترف المفرط، وحث على التحلل من القيود التجملية الخارقة ومشاركة الفقراء حتى في أسلوب حياتهم، وإشعار الأغنياء لهم بالمواساة، ومن جهة أخرى فقد دلت النصوص الكثيرة على أنّ هناك مستوى يجب أن يبلغه كلّ الأفراد، وهو الغنى، فهو الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه لكلِّ أفراد المجتمع الإسلامي. ►

 

المصدر: كتاب نظرة عامة في العبادات

ارسال التعليق

Top