يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون)، ويقول سبحانه: (ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون)، ويقول أيضًا: (قل إنّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين).
في هذه الآيات الكريمة وفي غيرها، يؤكّد الله تعالى في القرآن الكريم مسألة خسارة النفس والأهل وربح النفس والأهل، ويثير المسألة على أساس أن الخسارة كل الخسارة هي خسارة الآخرة، لأنها الخسارة التي لا ربح بعدها، بينما خسارة الدنيا قد تنتظر الربح في موقع آخر أو في مرحلة أخرى، وهذا هو الذي أراد الله تعالى للإنسان أن يفكر فيه، وأن يأخذ به ويخطط لحياته على هذا الأساس، بحيث ينظر إلى كل انتماء ينتمي إليه، وكل عمل يعمله، وكل موقف يتخذه، وكل كلمة يقولها، على أساس أين الربح وأين الخسارة على مستوى الدنيا والآخرة، ليضمن لنفسه أن يقدم على الله والله تعالى راضٍ عنه.
وهكذا، نلاحظ في مسألة عاشوراء، كيف انطلقت النماذج الإنسانية في هذه المسألة على أساس حسابات الخسارة على مستوى الدنيا أو على مستوى الآخرة، فنلاحظ أنّ مسألة الفريق الذي عاش مع الحسين (عليه السلام)، كانت قيمته بكل نماذجه، سواء كانت نماذج شابة أو غير شابة، أنّها كانت تعيش الله كأعمق ما يكون الإيمان، وكانت تحدّق بالموقف أمام الله على أساس مبادئها والتزاماتها الإيمانية، بحيث أنهم كانوا يعيشون في كربلاء العبادة في كل مواقعهم ومواقفهم، وكان الله تعالى في عقولهم وقلوبهم، وهذا ما عبّرت عنه بعض كلمات السيرة الحسينية، عندما تصف أصحاب الحسين (عليه السلام) في ليلة عاشوراء وهم ينتظرون لقاء الله في صبيحة تلك الليلة، كانوا بين قائم وقاعد وراكع وساجد وبين تالٍ للقرآن، كانوا يعيشون مع الله وإن كانت أجسادهم في الأرض، وكان الحسين (عليه السلام) بالنسبة إليهم الإمام الذي افترض الله طاعته والذي تنطلق محبته من محبة الله، باعتبار أن المؤمن إذا أحبّ الله أحبّ أولياءه واندمج في حركته معهم، بحيث كان قوله قولهم، وكانت سيرته سيرتهم، ومعركته معركتهم، لأن الإمام يمثّل التجسيد الحيّ المنفتح على الرسالة في كل ما قاله وعمله، باعتبار أن الإمامة تمثل الامتداد الروحي والحركي للرسالة، ولهذا فإن كلام الإمام المعصوم يمثل شريعة في كل ما يتضمنه من أفكار وأوضاع.
وهكذا، نجد تلك الروح العبادية الإيمانية وذاك العشق الإلهي، وذلك القرب لله في يوم عاشوراء، والسهام تنطلق إليهم فتصيبهم، بحيث يقف شخص ليقول للحسين (عليه السلام) وقت الظهيرة في حال احتدام المعركة: «إني أحبّ أن لا أترك هذه الدنيا إلا وقد صلّيت هذه الصلاة»، وصلّى الحسين مع أصحابه تلك الصلاة، ليدلّل على أن هذا الفريق الحسيني هو الذي يفكّر بالله قبل أن يفكر بالذات.
ومن هذا الفريق، شخصية عاشت الدنيا بكل طموحاتها وامتداداتها ومواقعها، وعاشت أحلامها المستقبلية، لأن الدنيا كما كانت مفتوحة له في ماضي حياته، فإنها كانت مفتوحة له في مستقبل حياته، كانت الدنيا تنتظره أميراً، وهو الحر بن يزيد الرياحي، هذا الإنسان الذي كان أول قائد لألف مقاتل أُريد لهم أن يعطّلوا مسيرة الإمام الحسين (عليه السلام) ويأتوا به إلى الكوفة ليتسلّمه ابن زياد، هذا الإنسان الذي رقّ للحسين (عليه السلام)، لأنه كان يحمل القيمة الروحية الأخلاقية في أعماق نفسه، وإن كانت وظيفته تختلف مع ذلك، لكن أخلاقيته غلبـت مهمته، ولذلك نجد أنه عندما قال له الإمام الحسين (عليه السلام): «ثكلتك أمك»، امتنع عن أيّ ردِّ فعل لهذه الكلمة، وعمل على حلٍ وسط، بأن يسلك الحسين طريقاً لا يُرجعه إلى المدينة ولا يدخله إلى الكوفة، وهكذا كان. فالرجل كان يفكِّر في الله، لم تضغط عليه وظيفته ومهمته، ولكن كانت تضغط عليه روحيته وأخلاقيته، لأنه كان يمثل الحرية الإنسانية التي تفكر وتحاول أن تتفهّم الأمور في عمقها، لا كالذين يعيشون العبودية الذاتية لأطماعهم وشهواتهم، فتمنعهم من أن يفكروا في الخيار الآخر والجانب الآخر. كان حراً، لأن الحرية هي أولاً حرية أن تفكر تفكيراً موضوعياً عقلانياً تحسب فيه حساب الربح والخسارة، وتحسب فيه حساب النفع والضرر، كان الرجل غير مرتاح لموقعه، وإن كان موقعه يجرّ إليه الغنائم، كان يفكّر في الله، لقد خرج من كل هذه الظلمة المادية التي كانت تخاطب فيه أطماعه وتقوده إلى ليل لا نور فيه ولا ضوء، ليل الأطماع والشهوات والدنيا الفانية.
كان ينطلق من ضوء بدأ يشرق في قلبه فينيره، ويشرق في عقله فيضيئه، ويشرق في مستقبله فينفتح به على المستقبل، وبدأ يتحرك في القرار الصعب، لأنه ليس قراراً يتصل بحاجة هنا وهناك، ولكنه قرار يتصل بالمصير والحياة والموت، يتصل بموقف بحيث يترك كل ما لديه من ثروات وزعامات وما ينتظره من أحلام وأطماع، وبدأ يرتعد ويهتز، وجاءه صاحبه واستنكر هذه الرعدة والاهتزاز وقال له: «أترتعد، لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة، ما عدوتك»!! وقال له: «أنا لا أرتعد جبناً ولا خوفاً، ولكني أخيّر نفسي بين الجنة والنار ـ النار هنا مع ابن سعد وابن زياد، والموقف مع الحسين الذي لا دنيا فيه على مستوى الواقع ولكن في آخره الجنة، ثم قرر وأراد وعزم وتحرك ـ فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت أو أُحرقت». وانطلق إلى الحسين خاضعاً مطأطئاً تائباً، ورحّب به الحسين (عليه السلام) الذي كان يرصد في هذا الشخص روحيّته وإرادته الحرة التي لا تسقط أمام الأطماع، تماماً كما هم أصحاب الحسين الذين ثبتوا معه، وكان قائلهم يقول: «وددت لو أُقتل ثم أُحرق ثم أُحيى، يُفعل ذلك سبعين مرة وإني أدفع عنك القتل قربةً إلى الله ما تأخرت عن ذلك».
كان الحسين (عليه السلام) كما كان جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يبحث عن الإنسان الحر، الإنسان الذي يعرف كيف يختار مصيره ويقرِّر موقفه، كان (عليه السلام) في حواره مع جيش ابن سعد يريد أن يُخرج الناس من عبوديتهم للسلطان الجائر ليدفع بالإرادة الحرة إلى مواقفهم، وهذا هو دور الإسلام في هذا المجال، وهو ما قاله الإمام عليّ (عليه السلام) في تأكيد حرية الإنسان: «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً»، إن حريتك جزء من إنسانيتك وإيمانك وذاتك، فلا تسقطها لتستعبد نفسك أمام إنسان آخر. كانت المسألة هي أن الحسين اعتز بأصحابه لأنهم كانوا الأحرار كما كان هو سيد الأحرار، واستقبله الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهد بين يديه، وأعطاه الوسام الإيماني، وسام الحرية في سبيل الله: «أنت الحر كما سمّتك أمك، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة»، حرّ في الدنيا لأنك أطلقت إرادتك الحرة، وسعيد في الآخرة لأنك انفتحت على رضى الله، فكانت شهادتك صلاة وعبادة وحركة في سبيل الله.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق