• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قراءة جديدة في أوراق كربلائيّة

فاطمة سالم*

قراءة جديدة في أوراق كربلائيّة

◄الذين يقفون اليوم لتحريف الواقع وتسويغه وفق بوصلة مصالحهم وأهدافهم، مطالبون بقراءة تاريخ عنوانه "كربلاء" وأما الذين يبحثون عن لغة جديدة لتضليل الشعوب باسم الراحة وتكتيك المهادنة، ويبشرونهم بعبثية المواجهة وشرعية الصلح وحبال المصلحة الوطنية التي – غالباً – ما تتحول في أيدي السحرة إلى حيّات مخيفة، هؤلاء مدعوون لزيارة الحسين بن عليّ (ع) في مثل هذا الموسم من عاشوراء، لا لمتابعة اللطم والنحيب وشق الصدور، ولكن لفهم معادلة الصراع بين الحق والباطل وادراك قضية العدالة المرتبطة بالعبودية الخالصة لله، فعاشوراء ما زالت تتحدد في كيانات هذه الأُمّة ثورة ضد الاضطهاد، بتمثلها الأجيال كفاحاً وتمرداً، وتنطق بها الأرض دماً لا يهدأ وروحاً تستأنس بالشهادة كما يستأنس الطفل بمحالب اُمّه، لا مجرد حماس وانفعال وثورة عاطفية تشتعل ثمّ تخمد، وإنّما فكر متعلق بالله وعمل شعاره "هوّن ما نزل بنا أنّه بعين الله"، وارادة مستمدة من دم الحسين ابن عليّ وهو يصعد إلى السماء في كفه مردداً: هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله (ص).

إنّ الذين يقرأون هذه المحنة التي لقيها الهاشميون من آل عترة المصطفى (ص)، سيدركون – لا ريب – حجم القوّة الإيمانية التي تدفع اثنين وثمانين رجلاً وامرأة للوقوف مع الحق في وجه أكثر من اثني عشر ألفاً من جيش يزيد بن معاوية، وتجعلهم مع محارمهم اللواتي ما هتك لهنّ ستر قطّ يواجهون عطشاً وحصاراً، ظلماً وجبروتاً يقع بعده الشهيد تلو الشهيد من أبناء الحسن وجعفر وآل أبي طالب أحفاد رسول الله (ص)، دون أن يدفعهم ذلك إلى قبول "الذلة" ومبايعة يزيد بالخلافة. السر في ذلك يلخصه لنا الحسين بن عليّ في إحدى خطبه فيقول: "... لا والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر اقرار العبيد، ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة. يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وانوف حمية ونفوس أبيّة". والسر في ذلك يعرضه لنا "جَوْن" مولى أبي ذر الغفاري حين أشار عليه الحسين بن عليّ أن يتنحى عن المشاركة في قتال "عاشوراء" فيجيبه "جَوْن": "لا والله، أنا في الرخاء الحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم؟! والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم..." فأذن له الحسين حتى استشهد بعد أن قتل خمسة وعشرين رجلاً. تُعلمنا عاشوراء كيف نمد أيدينا لنصافح أو نعاهد أو نعاقد، كيف نسحب أيدينا حين تكون المسألة عزة وانفة وحين تحس النفس المؤمنة بأن عقد الصلح عقد لإذلالها واذعانها لشرعية الطاغوت، يعلمنا الحسين الفقير الذي تربى في حضن جده المصطفى، كما تربى والده عليّ (ع) منذ ولد في كنف ابن عمه محمد (ص) كيف نحافظ على بساط التفاوض مع الأعداء، والاقرار لهم كما يفعل العبيد دون أن نملك أن نقول: لا؛ وذلك كاعطاء الذليل الذي يشعر بانسحاق إرادته امام سيده، فالعزة ليست في المنصب والمال ولا في السلة التي يوهمنا بها ادعياء الاستقرار، ولكنها بمقدار ما يملك الإنسان من إرادة وعزيمة، وبمقدار ما يرتفع إليه من إيمان وشجاعة والتزام. وأمّا الذين يتسابقون بدافع الخوف من قوة الآخر وجبروته للسجود بين يديه، والاستناد إلى الواقع لا المنطق لتبرير هذا الانجرار، وأما الذين يذرفون دموع التماسيح على تاريخنا المجيد في كربلاء وفي غيرها من مواقع التضحية التي لا ينفع عندها لطم الوجوه وقد الجيوب، فهؤلاء لم يسمعوا حنظلة الشبامي وهو ينادي على الحسين: "صدقت يابن رسول الله أفلا نروح إلى الآخرة" ولم يصغوا للشيخ الطاعن في السن أنس الكاهلي الذي رأى النبيّ وسمع حديثه وشهد معه بدراً وحنيناً وقد برز رافعاً حاجبيه بالعصابة ومقاتلاً دون الحسين حتى استشهد. لم تكن قلة العدد – إذاً – معياراً للهزيمة أو الانكسار، ولم يكن الانكسار مؤشراً لاندحار الحق وغلبة الباطل، وما كان الصادقون قصّراً عن تبرير الواقع وتسويغه ليناسب حجم المحاذير والرغائب. كان الحسين بن عليّ وقد اقفل عائداً من مكة إلى كربلاء بعد أن قطع الحج وترك الذين ينتظرون خطبته على عرفه، كان يدرك وهو يصارح من انسحب خلفه من القوم أن كثيراً منهم لا يريد سوى الدنيا، وكان صادقاً معهم وهو يقول عشيّة السفر: "ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً". وقد انسحب منه الكثيرون بعد أن أدركوا حقيقة ما قاله الفرزدق: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، وبقي القلة من الذين كان حاديهم يقول: "لوددت أني قتلت واحرقت ثم احييت يفعل بي ذلك سبعين مرة ما توانيت عنك". هو – إذن – درس في امتحان الصحابة وفرزهم عن جموع الموظفين الذين يتزاحمون ساعة الطمع ويفرون ساعة الفزع؛ والقائد هنا لا يكذب على اتباعه بالشعارات، ولا يصفّهم بالحديد والنار ليقاتلوا دونه، ولكنه يصارحهم بالحرية في البيعة والوضوح في القصد؛ فالبطولة ليست بهلواناً، والمعركة ليست قتالاً مجرداً من العقيدة والإرادة. وهو أيضاً درس في ترسيم العلاقة مع الله، العلاقة الدائمة غير الرسمية أو الموسمية مع أوامر الخالق، العلاقة التي لا تقتصر على الصلاة والصيام فحسب بل تتعداها إلى كل ما يدور في حياة المسلم وما يتعلق بواقعة داخل المسجد وخارجه. فهل يحتاج الفرد المسلم إلى وقفة "كربلائية" تعيد رسم شخصيته من جديد؟ هل تحتاج الحركة الإسلامية إلى موقف "حسيني" يشحذ همتها نحو التضحية ويعيد تفكيكها وتركيبها وفق قاعدة رفض السِّلة والذلة؟ وهل تحتاج الدولة الإسلامية إلى يوم "عاشورائي" يطهرها من دنس المصافحة والانجرار خلف صكوك هذا الهوان. إنّ الذين يتحركون من خلال ما تسجده "عاشوراء" من فكر في التضحية والالتزام بالحق، لا من خلال ما تبثه وسائل الإعلام من تبريرات وتوجيهات لمسخ العقل الإسلامي، هؤلاء يتوجهون بقلوبهم إلى طلعة الحسين وهي مخضلة بالدم تعيد إلى التاريخ ما فعلته عترة المصطفى من أجل هذه الأُمّة، وما يجب أن يفعله كل مسلم من أجل دينه لتعميق الحضور الوجداني الإيماني في نفس هذا الجيل، الذي أصبح فاقداً لوجوده وهويته بفعل معاول الاستعمار وعملائه وارسالياته، والذي لا يمكن بوجودها من غير الإيمان أن يستعيد لحظة من عزته أو ذرة من كرامته. من قال – إذاً – إنّ مصلحة الأُمّة في الراحة والذلة؟ ومن قال – إذا – إن مصلحة الوطن في حسن التعامل مع الواقع المهين بمفرداته وآلياته وبدوافع الضعف أو عدم القدرة على تغييره أو مواجهته؟ ألم يمتحن رسول الله صحابته حين أرسل بعضاً منهم إلى قلعة ضخمة لبلوغها، وحين عادوا مقرِّين بضعفهم وجبنهم عن دخولها قال لهم محمد (ص): "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرّاراً غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"؟ إن أوّل شروط نبذ الضعف والجبن الذي يسوغه البعض تكتيكاً والتزاماً بالواقع هو محبة الله ورسوله، ولكن أين الذين يحبهم الله وأين الذين يحبونه ورسوله في عالمنا هذا المهزوم؟ وأين الذين قال فيهم عليّ بن أبي طالب: "من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل اشداء الباطل"؟ كيف يمكن إذاً أن تتكرر مشاهد عاشوراء في هذا الزمن الأسود؟ كيف يمكن أن يقف الشعب خلف قيادته وأن يعلن رجل من بيننا يصارع الموت كما أعلن مسلم بن عوسجة في حضرة الحسين بن عليّ بوصيته لصديقه، وما هي وصيته؟ يقول حبيب بن مظاهر: "لما صرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الإمام الحسين وكنت معه، وجلسنا عنده وهو يحتضر قلت له: والله لو لا أني أعلم أني في الأثر لاحببت أن توصي إليَّ، فإنّ الصديق يوصي صديقه لحظة الاحتضار، يوصيه بأهله وعياله، ولكن مشكلتي أني سأموت من بعدك وسأسير في نفس الطريق، فقال له مسلم: لي وصية تستطيع أن تنفذها الآن. قال: وما هي وصيتك؟ قال: أوصيك بهذا – وأشار بيده للإمام الحسين (ع) – جاهد دونه حتى تموت". وما دام هنالك قضية عادلة، وحق يقابل باطلاً ليدحضه، فالموت ليس مهماً والدم أقرب اللحظات التي توصل الأرض بالسماء. ألم تسمع ماذا قال عليّ الأكبر ابن الإمام الحسين وهو يرى أنفاس والده تعانق السماء وقد ظل يكرر: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156)، يا أبتاه لمَ تسترجع؟ فأجابه: يا بني عنَّ لي فارس وأنا في المنام يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير خلفهم، فعلمت أن نفوسنا نعيت إلينا. قال عليّ: يا أبتاه ألسنا مع الحق؟ قال الحسين: بلى والذي نفسي بيده. قال عليّ: لا نبالي يا أبتاه – إذن – أن نموت محقين. ولكن كيف يمكن لأطفالنا أن يتساءلوا عن قضيتنا؟ وكيف يمكن لنا نحن – التعساء – أن نجيبهم؟ لقد علّم الحسين ولده درس التضحية وهو يحتضر في سبيل الحق والدعوة إلى الله، فكيف نعلّم أبناءنا درس التضحية ونحن نسبل عيوننا لاستقبال خيرات العهد الأوسطي الجديد؟ كيف يمكن لنا أن نقنع أجيالنا بما نصنعه وما نعهده لهم ونحن غير مقتنعين بما نفعل، وغير قادرين على مجرد الاحتجاج أو الحركة بشكل إيجابي ضد ما يحدث؟ الحركات الإسلامية ما زالت تبحث عن مخارج فقهية للاشتراك في العمل السياسي، وما زالت تتعهد بالحفاظ على مساهمتها "الفاعلة" جدّاً في جهاد النفس وتنظيف الفرج واللسان ومقاومة التطبيع بالبيانات والتنديدات. الحركات الإسلامية لم تخرج عن مألوفها في إدارة دفة الدين الرسمي لاقناع الناس بالصمت والاعتدال، وانتظار ما قد تحمله الظروف من رياح التغيير نحو الأفضل. أمّا الحسين بن عليّ فيترك فريضة الحج من أجل مقاومة الباطل ومفاصلة الاستعباد، وهو يعلم عدد أصحابه وعدتهم في كربلاء لم يقل ننتظر الظروف المواتية، لم يقل نطهر النفوس من ادرانها ونتدرج في اقناعها بالجهاد والتغيير. اقرأوا إذن عاشوراء، لتدركوا معاني كربلاء الحقيقية، معنى المكابدة من أجل رضا الله، معنى التضحية بكل شيء من أجل الحق، معنى الإيمان الخالص بالقضية العادلة والدفاع عنها مهما غلا الثمن. اقرأوا عاشوراء لتعرفوا كيف نحدد أهدافنا ونوضحها، وكيف تميزوا بين الصحابة والموظفين، بين المؤمنين بأوطانهم وقضاياها وبين المندسين طمعاً في المغانم، بين المرتبطين عقلاً وقلباً بالإسلام وبين المرتبطين عاطفياً وموسمياً به، ومدى حاجتنا إلى القيادة الحركية القادرة على تحريك الأُمّة نحو جهاد مستمر وعمل لا ينقطع. اعيدوا قراءة عاشوراء ودماء الحسين في كربلاء لتنكروا بأرواحكم ما يفعله هواة الرقص والتطبيع، وما يمارسه سدنة الترويج من أجل الرفاه القادم والخيرات المنتظرة التي ستغمر فردوسنا الأوسطي الموعود. وأما الذين يظنون أنّ الحسين مُلْكاً لفرقة دون فرقة، وأن عاشوراء مناسبة دينية لمذهب دون آخر فهؤلاء يجهلون التاريخ، فالحسين (ع) هو معلمنا جميعاً، وعاشوراء وكربلاء مناسبتان عابقتان بالدم والتضحية في تاريخنا السياسي والإسلامي لأنّهما ثورة ضد الطغاة، ضد الإذلال، ضد التطبيع والمصافحة، ضد الاستهتار بالأُمّة، ضد تسويغ الواقع وتبرير السقوط في آباره الآسنة، ضد كل خطط الإذلال التي تحاك هنا وهناك للقضاء على روح الجهاد في هذه الأُمّة. عاشوراء لنا جميعاً بلا استثناء، لفقرائنا وساستنا لحركاتنا التائهة ولانساننا الذي ما زال يخشى السياسة. عاشوراء لغة الواقع التي يجب أن تصنع لنا المستقبل وهي لفتة الحرية في تاريخنا المليء بالاستعباد. تظل تعيد في أذهاننا ما قاله لحسين (ع): "والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر اقرار العبيد". قال النبي الكريم (ص): "حسينٌ منِّي وأنا من حسينٍ، أحَبَّ الله من أحَبَّ حسيناً، حسينٌ سبط من الأسباط".►   *كاتبة من الأردن   المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ العدد 16 لسنة 1996م

ارسال التعليق

Top