◄ثمة مقاربة للضمني في القرآن عن الكلمة تكمن في أن نتساءل عما قيل ـ وعما لم يُقل ـ عن محمّد. وتفرض نفسها على وجه السرعة معاينة مزدوجة.
المعاينة الأولى أنّ (محمّداً ذو حضور كلي). وليس ذلك لأنّه هو الذي أعلن الكلمة المنزلة فحسب، بل لأنّه يقوم على الغالب، داخل هذه الكلمة، بدور الناطق بلسان المتكلم: (قل…) ، والإيعاز (الطلب، الأمر) يدخل باستمرار قولاً موضوعاً على لسان محمّد ويتكرر 332 مرة في القرآن.
إنّه يؤدي أيضاً دور مَن تتوجه إليه الكلمة الواجب نقلها، وذلك منذ هذه البداية الموضوعة في ظل آية الإعلان: (اقْرَأْ) (العلق/ 1 ـ 3). وفي مكان آخر: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء/ 192-194).
وهذه الوظيفة، في مناسبات كثيرة، متعينة. وهكذا، على سبيل المثال، في سورة هود: (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (هود/ 12). وهذه الوظيفة، وظيفة نذير، تكملها وظيفة التبشير بالنبأ العظيم: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 105-106). فالإنذار والتبشير معنيان يتكرران بصور متواترة في القرآن.
والمعاينة الثانية أنّ (محمّداً غير مسمى إلّا قليلاً جداً) في القرآن: إنّ اسمه لا يتكرر إلّا أربع مرات، وكلّ مرة في علاقة بوظيفته النبويّة: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ) (الفتح/ 29). (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب/ 40)، بل: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران/ 144)، وأخيراً: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (محمّد/ 2). وثمة مرة خامسة، سيكون محمّد مسمى ولكن هذه المرة باسم أحمد:
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف/ 6).
سيكون الأكثر جدارة بالمديح من كلّ الأنبياء، كما لفت النظر إلى ذلك راغب الأصفهاني، وخاتم الأنبياء، كما يشير إلى ذلك بدوي.
ولا يقول لنا كلّ ما سبق شيئاً محدداً عن الإنسان محمّد، ولكنّه لا يصفه لنا إلّا بوظائفه في خدمة التنزيل، والكلام الإلهي، وكما أنّه يتدخل مع ذلك، على نحو أو على آخر، في السور، فليس ثمة أي آية تحيل إليه صراحة أو ضمناً في السور من 1 إلى 70 سوى السورة 55 الرحمن.
وحتى الاتهامات بالكذب، وبالجنون أو السحر، هي خاصّة بهذا الدور في خدمة الكلمة. ومع ذلك، إذا كانت السور الأولى لا تعلّمنا شيئاً عن شخصية محمّد، فإنّ السور الأخرى تُخبرنا عن الوسط الذي كان يتحرّك فيه: إنّ القرآن يروي لنا، في 14 مناسبة، اتهامات بالسحر. وينبغي لهذه الاتهامات أن توضع من جديد بين الحالات العديدة التي ذكر القرآن فيها السحر: السحرة شخصيات لا تحدث الدهشة كما تشهد على ذلك بوجه خاص مداخلاتهم العديدة المسرودة في السورة الشعراء. إنّهم يأخذون سلطتهم من الشياطين كما يبيّن ذلك راغب الأصفهاني، وهؤلاء الشياطين الذين يشغلون، هم أيضاً، مكاناً في القرآن ذا أهمية نسبياً، ذلك أنّهم يتدخلون في 88 مناسبة.
ويقابل دور الملائكة دور الشياطين، ملائكة مألوفين أيضاً ويتدخلون بقدر ما يتدخل الشياطين. وسيكون محمّد متهماً، في هذا العالم الذي يتحرّك فيه (الجن)، بأنّه (مجنون) بسبب تبشيره. وثمة صفتان تنشدان على نحو أكثر صراحةً أيضاً، عبر محمّد، تلك الكلمة التي ينقلها: صفة كاهن في مناسبتين، وصفة شاعر:
(فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (الطور/ 29).
تلكم هي الآيات التالية التي تتكرر في القرآن هادفة دائماً إلى أن تعيد الكلمة الإلهية التي ينقلها محمّد إلى مكانها الحقيقي:
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ *وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الحاقة/ 40-43).
وما ينجم عن كلّ ما سبق يبيّن أهمية محمّد بوصفه إنسان الكلمة. وتحتل هذه الكلمة مثل هذا المكان في عمله بحيث أنّ كلّ ما قيل لنا عنه، نبيّاً، رسولاً، منذراً، حامل النبأ العظيم، يحيلنا باستمرار إلى هذه الكلمة. إنّه هو ذاته لم يُسمَّ إلّا قليلاً، وفي كلّ مرة يسمى نبيّاً. وأخيراً، تحيل الاتهامات الموجهة ضده، كالكذب، والكهانة أو الشعر، والجنون والسحر في أدنى حدّ، إلى الكلمة أيضاً.
وإذا كان ذلك لا يقول لنا شيئاً محدداً عن محمّد، باستثناء كونه إنسان الكلمة، فالحقيقة أنّ الاتهامات بأنّه شاعر أو كاهن تتيح لنا، على الحال السلبي، أن نفهم فهماً أفضل وضع الكلمة في السياق الذي عاش فيه محمّد. كان ثمة، ولاريب، في عصر محمّد، كهنة وشعراء، ذلك أنّ المرء لن يفهم جيِّداً، إذا كان الأمر غير ذلك، لماذا كان القرآن قد عُني أن يبرئ محمّداً من هذا الاتهام الممكن. يضاف إلى ذلك أنّ هؤلاء الكهان وهؤلاء الشعراء كانوا بالضرورة ذوي قول كان القرآن يمكّنه، عند الاقتضاء، أن يلتبس به، بالنسبة للناس الذين لم يحزموا أمرهم. والكاهن، في رأي راغب الأصفهاني، هو مَن يخبر عن الأحداث الماضية والخفية على حال من الظن، والعرّاف هو مَن يخبر عن الأحداث القادمة على النحو نفسه. والحال أنّ محمّداً كان له قول أيضاً عن الأحداث الماضية كان الكافرون يمنهم أن يشبهوه بالظن. فإن يكون هؤلاء الكهان والعرافون قد وجدوا بعدد لا يستهان به، ذلك أمر يمكن أن تتيح الاعتقاد به كمية (الحديث) الخاصّة بهم.
وحالة الشعراء أكثر إرهافاً وعلاقات الشعر بالقرآن أفسحت المجال لمناقشات ليس هنا هو المحل للمشاركة فيها. والجذر ش ع ر، في رأي راغب الأصفهاني يصبح بعد أن استخدم للدالة على الوبر والشَعر، علامة معرفة دقيقة ومحددة، ولكن القرآن يمنحه، بالنسبة لعصره، معنى معرفة كاذبة، مستنداً إلى معنى الآية 224 من السورة 26 الشعراء: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ). وربما ينبغي أن نفهم ما الشعر انطلاقاً من سورة 36، يس، آية 69 ـ 70: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ *لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ). إنّ الله يعارض تعليم ضرب من صناعة الكلام وتقنيته بذكر الكلمة ذات الامتياز. ألا يكمن في ذلك رفض الكلمة الدنيوية؟ وإذا كانت الحال على هذا النحو، فإنّ ذلك سيكون ضرباً من السمة الإضافية للتأكيد أنّ الكلمة في القرآن هي (فعل) الله بصورة أساسية، وأنّها إلهية، وأنّ ما يرتبط بها يتدخل دائماً في السياق الديني للتنزيل.
كنا قد قلنا إنّ محمّداً هو إنسان الكلمة. وبدا لنا أنّ الأمر هو على هذا النحو، إذ يتحرّك في سياق تسمه الكلمة بقوّة. ولكن كلّ ما قيل للتو يبيّن كيف أنّ هذه الكلمة، كلمة محمّد، معروضة بصورة ضمنية على أنّها كلمة امحاء الإنسان أمام الله، وخضوع الإنسان للكلمة الإلهية، وإنّها صمت الكلمة الإنسانية التدريجي أمام الكلمة المنزلة.
وسنلاحظ، من وجهة النظر هذه، ذلك العدد القليل من أسماء الأعلام، والأشخاص، والأماكن أو الأحداث، التي يتضمنها القرآن، والخاصّة بالعصر ذاته الذي كان يعيش فيه محمّد، في حين أنّ أولئك الذين لهم علاقة بالتاريخ المقدس يعودون عوداً متكرراً: مثل آدم، نوح، إبراهيم، لوط، يعقوب، يوسف، موسى، هارون، فرعون، عيسى.. إلخ.
ومن المؤكد أنّ الإلماعات إلى حوادث معاصرة ليست مفقودة في القرآن بل هي متواترة فيه، كما تشهد على ذلك الآيات العديدة الموجهة إلى الكافرين، الملحدين أو المحرضين، وجاحدين آخرين. ونجد فيه أيضاً أثر حركات مختلفة من الردة، وجواب مواطني محمّد والأعراب عن تبشيره. ولكن علينا أن نضيف، بمعزل عن كون هذه المراجع إلماعية ولا تتضمن تفصيلات ظرفية محددة، أنّ هذه المراجع ذات علاقة بحدث خاص، حدث التنزيل، حدث يجعل التاريخ كما يتصوره المؤرخون تأريخاً متعالياً، أكثر من كونها ذات علاقة بالحوادث التاريخية منظور إليها بوصفها كذلك. هكذا هي الحال في هذه الآيات التي يختلط فيها القصصي بالنبويّ:
(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا *وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا *وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُم) (الفتح/ 12-15).
كذلك ثمة عدد من الأسماء الجغرافية، الخاصّة في القرآن بالزمن المعاصر لمحمّد، ذات علاقة مباشرة بالتنزيل والشعائر التي ينقلها كالحج: هكذا الأمر بالنسبة لعرفة البقرة/ 198، الصفا والمروة البقرة/ 158، الكعبة المائدة/ 95 و 97. والإشارات الواضحة، الخاصّة بالمدينة التوبة/ 101 و120، أو مكة باسم بكة آل عمران/ 96، ذات علاقة بالتنزيل أو الحج.
أضف إلى ذلك أنّ لدينا بعضاً من الإلماعات أكثر وضوحاً كما في السورة 63، المنافقون، آية 8، عن هزيمة سكان المدينة، أو في السورة 48، الفتح، آية 24، عن النهاية السعيدة للمسلمين في نزاع بـ (بطن مكة)، أو في السورة 3، آل عمران، في مجال النزاعات دائماً، آية 123، التي تبيّن أنّ الله فعّال خلال معركة بدر، أو في السورة 9، التوبة، آية 25 ـ 26، التي تشرح بالتدخل الإلهي نصر المسلمين في معركة حنين. ولكن التاريخ المعروض، هنا أيضاً، تابع للتاريخ المقدس أكثر مما هو تابع لتاريخ كتاب الحوليات أو للتاريخ بالمعنى الحديث للمصطلح.
وتبقى ثلاثة إلماعات واضحة نسبياً ترافقها أسماء أعلام معاصرة لمحمّد ولا ترتد إلى تاريخ التنزيل، تاريخه وحده: تتناول الآيتان 1 و2 في السورة 106، (قريشاً)، سكان قبيلة (قريش)، و(لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ). وتتناول السورة 111، المسَد، موت أبي لهب، عم محمّد، وموت امرأته. وأخيراً، ذكر الابن المُتبنى لمحمّد زيد في السورة 33، الأحزاب، آية 37، بمناسبة حادثة محددة جدّاً: طلاق امرأته زينب وإجازة الله محمّداً أن يتزوجها، جراء هذا الطلاق.
وينجم، على هذا النحو، إذا استثنينا ذكر هذه الحالات الثلاث، أنّ (الكلمة القرآنية) كلمة (تضفي القداسة)، تضع الدنيوي، لا في التاريخ اليومي والحكائي للناس، ولكنّها تضعه في عرض يجعل هذا التاريخ العادي متعالياً حتى تجعل منه تاريخ التدخل الديني، كلمة تغزو كلّ مجالات الحياة الدنيوية لكي تضعها في المنظور المحدد لها في التنزيل.
وسيكون إذن إنسان الكلمة، محمّد، بصورة أساسية، إنساناً في خدمة التدخل الإلهي في هذا العالم. ►
المصدر: كتاب من القرآن إلى الفلسفة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق