أ. د. محمد أديب الصالح
◄- أبعاد قصة نوح (ع) في العقل والقلب والمشاعر:
أن تكون الواقعة التاريخية العملية مع نبي كريم من الأنبياء عليهم السلام، ومع إنسان هو ولدُه وفلذة كبده: أمر يفسح للقضية المراد تثبيتُها من خلال هذه الواقعة، أن تأخذ أبعادها في العقل والقلب والمشاعر.
وأنت واجد أنّ المسلمين – وهم يخوضون معركة الصراع بين التوحيد والوثنية، وما لها من عقابيل جاهلية على صعيد القيم والمعايير – كانوا – والمجتمع الجاهلي يئن من أذى المفاخرة والمكاثرة بالباطل – بأمسِّ الحاجة إلى مثل هذا النموذج الحيِّ، الذي حصل لنوح عليه السلام مع ولده من صلبه، الأمر الذي يزيد وضوح الرؤية ويضاعف القدرة على مواجهة التحديات الجاهلية التي قد تكون من الوالد أو الولد أو غيرهما من القرابة؛ والابتلاء بذلك أمر لا يحتمله وينجو من فتنته إلا المؤمنون الصادقون.
إنّ نوحاً (ع) دعا ربه متسائلاً عن حال ولده الذي غرق.. لقد غرق مع أنّ الله وعده بنجاة أهله – كما نصَّت الآيات – ووعدُ الله الحقُّ الذي لا يُخلف (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود/ 45)، فبيَّن الله لنوح – وهو الأب الشفيق – أنّ ولده هذا ليس من أهله الذين وعده الله إنجاءهم، لأنّ الله وعد نوحاً بنجاة من آمن من هؤلاء الأهل؛ فهم لا ينجون لأنّهم أهله، ولكن لأنّهم مؤمنون، شأنهم في ذلك شأن من آمن من قومه ذلكم قول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) (هود/ 40).
وهكذا بمنتهى الوضوح – كيما يكون أهل الإيمان على بينة من أمرهم على تقلب الأجيال والعصور – يأتي الرد معلّلاً لا لَبْسَ فيه ولا احتمال: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود/ 46).
لقد كان الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحاً (ع)، وذلك متسق تمام الاتساق مع سنة الله في ارتباط الحكم على الإنسان بما يكون من إيمانه أو جحوده، وما يكون من استقامته على أمر الله أو مخالفته عنه.
ومن عجب أنّ الآية التي حملت هذا الإعلان على طريق التربية وبناء الإنسان المؤهل لحمل العبء، وضبط المعايير التي يقاس بها قدرُه ويحكم من خلالها عليه.. من عجب أنّها جاءت مثقلة بالتأكيد الذي صحب النفي والإثبات (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).
هذا في النفي (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) وهذا في الإثبات. ثمّ أتبع ذلك بقوله تعالى: (فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
وما كان أسرع نوحاً (ع) – وهو الرسول المبلغ عن الله – إلى الوقوف عند حدود الله، والرضا بأمره، ولو كان الغريقُ ولدَه وفلذّةَ كبده! فرضا الله أوّلاً، وهو يرجو بعد ذلك مغفرة الله ورحمته، فهو الأعلم بما يصلح عباده وما فيه خيرهم في الدنيا ويوم الدين (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود/ 47).
وأكرم الله نوحاً (ع) بهذه البشارة: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (هود/ 48).
إنّ حاجة الأُمّة اليوم ملحة إلى التبصُّر في هذه القضية التي تأخذ مكانها في قواعد المنهج الرباني، حيث تنزلت هذه الآيات على الفئة المؤمنة تزيدها وضوحاً في الرؤية وتضبط خطاها، وتحدد لها المعايير وهي تصارع الوثنية والعادات الجاهلية ورواسب التخلف.
والشَبَه من بعض الوجوه قائم – دونما ريب – بين اليوم والأمس، خصوصاً فيما يتعلق بالانضباط والمنهجية والمعافاة من التشرذم على طريق بناء الإنسان المسلم الذي يُراد له أن يتحمّل مسؤولية التحوُّل وتبعات استئناف المسيرة الخيِّرة والاحتكام. إلى القيم المنبعثة عن العقيدة ووضع معيار الإيمان والإستقامة موضعه اللائق على ساحة التطلعات المستقبلية وتنمية الموارد البشرية القادرة – بكفاياتها العلمية والتجريبية، وفكرها النيِّر المتميِّز – على حمل العبء والإفادة مما وضع الله لدى الأُمّة من طاقات وإمكانات، وتسييرها في قنواتها التي تؤول بها إلى أن تكون مورد قوة تعيد لهذه الأُمّة مكانها الطبيعي تحت الشمس إن شاء الله.
ومهما يكن من أمر: فلابدّ من إثبات حقيقة، يجدر إثباتها هنا، وإن كان المقام ليس مقام التفصيل فيها؛ وهي أنّ الله تبارك وتعالى – وهو أعدل العادلين المتفضل بالحب والإحسان – قد بشَّر أولئك الذين لا يحيدون عن الصراط السوي بطاعتهم وأخلاقهم، بشّرهم بالجنة التي وعد المتقون، وضم إلى ذلك بشارة أخرى بأنّهم يدخلون جنات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب؛ فالذرية الصالحة التي تنتهج طريق الآباء الصالحين تنال ما ناله السابقون.
ذلك ما جاء في صفات أولي الألباب التي جاءت على ذكرها آيات كريمات من سورة الرعد وما يكرمون به من عقبى الدار جنات عدن والحمد لله. يقول الله جلّ ثناؤه: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 19-24).
إنّه قانون إلهي كريم: من صلح من الآباء والأزواج والذرية يشاركون ذوي قرابتهم أولي الألباب الصالحين، بأن تكون لهم عقبي الدار، جنات عدن يدخلونها، ويتفضل الله عليهم بأن تقول لهم وهم يدخلون عليهم من كل باب الملائكة: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
وهذا – في الواقع – متوائم كل التواؤم مع قوله تعالى لنوح (ع) في شأن ولده الذي حاد عن الصراط السوي: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ومع قوله جلّ وعزّ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124).
وسبحان من إليه يرجع الأمر كلُّه وهو الحكيم الخبير.
المصدر: كتاب الإنسان والحياة في وقفاتٍ مع آيات
ارسال التعليق