• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التواصل، الحوار والتسامح من سنن الكون

د. جيلالي بوبكر

التواصل، الحوار والتسامح من سنن الكون

  إن الحديث عن التسامح في حياة الإنسان عامة وفي حياة المسلمين خاصة ومن الوجهة الدينية بصفة عامة والوجهة الإسلامية بشكل خاص يقتضي ربط التسامح بنقيضه، وهو اللاّتسامح والتعصب وروح الانتقام وسائر الحالات التي تغذي مشاعر الحقد والغل والكراهية والبغضاء والشحناء واختيار طريق العنف بمختلف صوره في مواجهة الآخرين بعيدا عن العفو والصفح والتراحم وعن كل ما من شأنه يجمع ولا يشتت، يقبل الآخر ويحبه ويصغي إليه ولا يقصيه، يتسامى فوق كل ما هو سفيه تافه، ومادامت دلالات وصور وسلوكيات اللاّتسامح منبوذة عقلا وشرعا وواقعا في حياة الفرد والجماعة على الرغم من أن الإنسان مارسها ولازال يمارسها على نحو يشذ عن حاجة الإنسان الدءوبة صوب التسامح باعتباره سبيل ارتياح الإنسانية فرديا واجتماعيا وأمميا، وإمكانية تصنع عالم الأمان والسلام  وتُصرف الإنسان إلى الاشتغال برسالته في الحياة وعلى الأرض خلافة وتعميرا وتحضرا.

 الرسالة العظيمة أمانة عظمى تحمّلها الإنسان لجهله بمعنى التسامح وبآثار اللاّتسامح، فكثيرا ما يختار مالا يسمح بأداء الرسالة على أكمل وجه، فينزاح عن الفطرة السليمة التي جُبل عليها وعما يوافق السنن الكونية في الطبيعة والإنسان من فكر وسلوك، ويحيد عن الحق باعتباره سبيل النجاة في الدنيا وطريق الخلاص في الآخرة، ومسلك الخير مبني على التواصل والمحبة والحوار والتسامح والتعايش والسلام وسائر القيم العليا السمحة في مقابل القيم الدنيا وأبرزها اللاّتسامح.        
إذا كان الحديث عن التسامح يحيلنا بالضرورة إلى التفكير في معاني اللاّتسامح لأن  دلالات التسامح تتضمن معاني اللاّتسامح والأشياء كثيرا ما تُعرف بأضدادها، فإن موضوع التسامح لا تقوم له قائمة من دون موضوعات أخرى ترتبط به ويرتبط  بها ارتباطا سببيا أو غائيا أو منهجيا أو أخلاقيا واجتماعيا. 
  أبرز هذه الموضوعات التواصل الذي يؤسس للاجتماع البشري ويحققه في مستوى أرقى من كل المستويات التي عرفتها المخلوقات على وجه المعمورة، لما للإنسان من تفرد وتفضيل بالتكريم الإلهي له، فالتواصل سنّة كونية وهبة طبيعة في البشر تتضمن أسباب اندفاع بني الإنسان إلى بعضهم البعض نحو العيش الجماعي والنفور من الفردية وتجنب الاعتزالية باعتبارها شذوذا عن الطبيعة التي تؤكد حيوانية الإنسان في اتجاه الاجتماعية والمدنية، وهي طبيعة وضعت الإنسان في أعلى مراتب سلم ترتيب الكائنات الأرضية في الدرجة والقيمة تأثيرا وتأثرا وفعّالية، فالتواصل يحوي دواعي الارتباط الإنساني في كل مستوياته وفي مختلف أشكاله وصوره، ويزرع حراك التواصل المفعم بالخلود والأبدية بذور التقارب الإنساني في الفكر والسلوك فأنتج وينتج الاجتماع الإنساني بأشكال شتى عرفها التاريخ عبر عصوره الطويلة وإلى الآن، الأسرة والعشيرة والقبيلة والمجتمع المدني والدولة والأمة والمجتمع الإنساني، الاجتماع الإنساني الذي لا يقوم ويستمر ويحقق كل ما يحتاج إليه لضمان هذه القوامة والاستمرارية في غياب التواصل أولا ومن دون التسامح ثانيا، فالتواصل يجمع بني الإنسان ويشد بعضهم إلى بعض بطريق شعوري ولاشعوري يقوم على التجاذب الطبيعي في حدود الطبيعة البشرية التواقة إلى الأفضل والكمال والمفطورة على الخير، الناهدة دوما إلى الأعلى في مقابل الشر وكل ما يعكر صفو حياتها ويحول بينها وبين مراميها، أما التسامح هو المادة الأسمنتية التي تضمن قوة ومنعة واستمرار وديمومة التماسك بين العناصر المكونة للاجتماع البشري أيّا كان تكوينا وبنية وحركة وفعّالية.
 لقد منح التكريم الإلهي الإنسان القدرة على الحركة التواصلية، وفي فعاّلية حركة التواصل ونجاعتها ينتج الاجتماع البشري في أرقى الصور التي تعرفها المعمورة، فيحتاج البنيان الاجتماعي إلى التسامح ليقوى ويشتد عوده تأسيسا للحضارة والعمران  وضمانا لخلافة الإنسان على الأرض،  لكن بلوغ هذا المسعى يشترط تأصيل التواصل وتأسيس التسامح على مسلك الحوار في صورتيه الذاتية والغيرية، بين الأنا وذاته من جهة وبين الأنا والغير من جهة أخرى، الحوار المجسد للفطرة الإلهية والمعبر عن الحقيقة الإنسانية في أرقى صورها، الحوار الذي يتخذ أشكالا عدّة، وأول هذه الأشكال المحاورة الذاتية التي تجري في النفس الإنسانية مجرى الدم في العروق، وتحيي الروح والعقل حياة كل شيء بالماء، إنّها حركة التفكير التي لا تتوقف ولا تنقطع إلاّ في حالات النوم والإغماء ونحوها.
 إنّ التفكير بسائر ملكاته ووظائفه حوار، هو أول ما ينطلق من الذات باعتبارها موضوعا مفكرا فيه يثري الحوار والتفكير، وتمثل الذات الإنسانية عالما داخليا ذاتيا غاية في التعقيد والعمق والاتساع، عالم هو مادة خصبة للتفكير والتأمل والحوار مع الأنا في المستوى الأول الذاتي الداخلي، إلى جانب المستوى الحواري الثاني الموضوعي الذي يخص العالم الخارجي ويشتغل فيه التفكير والحوار باستمرار، ومادام الحوار ظاهرة إنسانية طابعها فردي واجتماعي، فهو على المستوى الإنساني الاجتماعي ميادينه شتى تشكل جميع مجالات الاجتماع البشري، وبصفة خاصة مظاهر الثقافة وتجلياتها، الثقافة عامة وثقافة الحياة اليومية والعلم والدين والسياسة والأخلاق والحضارة وغيرها، وصورة الحوار دوما تقوم على إثبات الأنا والاعتراف بالغير وعدم إقصائه والتعاطي معه إصغاء وسماعا، ووصولا إلى التوافق في حده الأدنى أو الأعلى أو عدم التوافق، وتكتمل صورته بالاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة، فيأخذ الحوار مكانه في شبكة العلاقات الاجتماعية في بنيان الجماعة البشرية المؤسسة على التواصل، في سبيل حمايتها من التفكك من خلال حماية التواصل ذاته واستثمار قيم التسامح ذاته الذي هو جوهر نجاح الحراك التواصلي وسر فلاح الفعل الحواري في أي عصر وفي كل مصر. 
أما الصورة السلبية للتواصل والحوار والتسامح تظهر عند اجتماع مضادات الفطرة الإلهية وموانع السنّة الكونية، مضادات وموانع تمنع التواصل وتلغي الحوار بإقصاء الأنا أو الغير أو الأنا والغير معا وتسد كل منافذ التسامح من دون أمل في فك الحصار عنها، في هذه الحال تتغلب الفرقة وتسيطر على الوضع فتشق طريقها  في داخل المنظومة الاجتماعية عاطفيا وفكريا واجتماعيا، وتقوى الفرقة ويتسع مجال التشتت باستقواء مشاعر الأنانية والانتقامية وما يصحبهما من مظاهر سلوكية تجنب الإنسانية ما وجدت لأجله، فينحدر الإنسان صوب الأسفل ويفقد كرامته والتكريم الذي خصه الله به وسقط في هاوية البهيمية التي يقودها شرع الغاب وتحكمها مقولة السمك الصغير له الحق في أن يسبح والسمك الكبير له الحق في أن يأكل ولا سبيل إلى النجاة  إلا بالعودة إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها فطرة التواصل ومنهجه الحوار المبني على التسامح.     
أما الصورة الإيجابية للتواصل في ارتباطه بالحوار والتسامح داخل الاجتماع الإنساني يصنعها الحراك الإرادي من خلال إقصاء كل ما من شأنه يعارض الفطرة الإلهية ويمنع السنّة الكونية من أن تتحقق في حياة الإنسان، فيتجه الحراك الإرادي إلى تجميع كل ما من شأنه يضمن التواصل الذي يستخدم الحوار ويفضل التسامح على غيره وفي كل الأحوال، وذلك من خلال استلهام المعاني والقيم العليا من التاريخ والثقافة بمختلف مظاهرها ومن الواقع المعاش بواسطة إعمال العقل والتدبر في الكون، وهو أمر مطلوب وضروري لتحقيق الدور الرسالي الخلافي المنوط بالإنسان وبوجوده الفردي والاجتماعي، هو ما أكدت عليه وتدعو له الاتجاهات الفكرية والدينية والاجتماعية وغيرها صاحبة الذوق الرفيع والوجدان الطيب والمنطق السليم.

 فالاستلهام التاريخي لدلالات ومعاني دعم التواصل وتكريس الحوار وتعزيز التسامح يحيلنا بطريقة مباشرة وغير مباشرة وفي مصادر شتى إلى التتالي الحضاري والتعاقب الثقافي وإلى تلك التراكمية الحضارية الثقافية الإنسانية المفعمة بمواد ومحتويات حضارية وثقافية شتى ذات ألوان زاهية لم تحد عن الفطرة ولم تبغ غير سنّة الدور الرسالي الإنساني الممجد، والأمر ذاته مع الاستلهام العقلي الذي استقى هو الآخر من خلال التواصل مع ذاته ومع محيطه كل ما تحتاج إليه ظاهرة التواصلية من شروط ومن دون أن يعود إلى الاستعانة بغيره، فاجتهد من خلال المحاولة والخطأ وشيّد عوالم إنسانية بلغت من السمو والرفعة درجة كبيرة وبلغ أصحابها من السؤدد درجة أكبر، والأمر أكبر وأوسع وأعمق مع الاستلهام الثقافي والثقافة لسان حال الحضارة تشملها وتعبر عنها، فمن خلال الدين والعلم والفلسفة والسياسة والأخلاق والعرف والتقنية وغيرها كل هذا شكل منابع وقدم  مسارات وقاد الإنسانية والعقل وسائر مقومات التثقيف والتحضر وجميع قيم الإنسان العليا نحو تجسيد مهام الخلافة وتأكيد أداء الرسالة، ويتأكد باستمرار الاستلهام التاريخي واستلهام العقل واستلهام الحضارة والثقافة بسائر مظاهرها باستلهام الواقع كل من جهته في عصره وفي مصره، إذ لم يعد خفيا على أحد في واقعنا المعاش في كافة الأصعدة أن من الناس يعيش البؤس واليأس والقنوط ومنهم يعيش الرفاهية والأمل والسعادة.
 ففي الحالة الأولى يجافي الإنسان الفطرة ويجحد النعمة ويُدبر عن كل جدّ واجتهاد، متهاو في حضيض الأنانية ونكران الغير، مشبع بروح الانتقام والتعصب والضعف والانهزامية وانكسار الإرادة وعدم الثقة في النفس، مشغول بالانقضاض على ما ينتجه الآخر قيّما وأفكارا وأشياء للاستهلاك ومن دون أدنى حركة في سبيل تحكيم الفطرة والتسلح بقوّة العزيمة لخوض معركة الحضارة والتأسيس للخلافة وأداء الرسالة. أما في الحالة الثانية فالإنسان مُدبر عن كل ما يسيء إلى السنن الكونية ومقبل تماما على كل ما من شأنه يضمن قوّة الحراك التواصلي وقوّة الحوّار وقوّة التسامح ومن وراء ذلك قوّة الإرادة ودماثة خلق حب العمل وبذل الوسع في ذلك بروح عالية شامخة في قبول الآخر والتعاون معه، إذ أن الجميع يستفيد من الجميع والكل يحترم الكل،  والجميع مشغول بالأنا استقامة وعملا واجتهادا وبالغير احتراما وتعاونا وبالمجتمع استنهاضا وتطويرا وازدهارا وبالحضارة إنتاجا وعطاء وبالتاريخ استلهاما للقيم والعبر. 
لقد تأكد للإنسان عبر التاريخ وبالعقل والشرع والواقع أنّ القوامة الحضارية تقوم على استقامة الفعل الإنساني الفردي والاجتماعي، والاستقامة في الفعل الحضاري تعني كلما تحلّى الفعل في حراكه الذهني أو المادي وهما معا بمعان وقيم هي محل إجماع العقول والشرائع والاتجاهات الدينية والفلسفية والاجتماعية والثقافية وغيرها في خيريتها وإيجابيتها وفي أفضليتها وأولويتها على غيرها، وقد لا تُقبل عليها بعض الاتجاهات في السر والعلن فكرا وسلوكا لكنها عاجزة عن رفضها صراحة ومقالا لأن في ذلك مجلبة لعدائها وخطر عليها، فالتواصل بين الناس بمختلف صوّره وأساليبه فطرة فطر الله الناس عليها، وسنّة كونية لا تنمحي ولا تتحول ولا تتبدل، وضرورة تاريخية لا يتوقف حراكها ولا تتقطع مساراتها، وحتمية إنسانية اجتماعية تحرك الناس نحو بناء الجماعة ونحو السعي إلى المحافظة على أواصر الترابط والتماسك والوحدة فتعددت أشكال الجماعة وتعددت مطالبها، وضرورة حضارية، فما كان للإنسان أن يصنع المدنية والتحضر وسائر منتجات الحضارة وتتناقلها الأجيال من عصر إلى آخر لولا التواصل، وأصل التحضر تواصل الإنسان بخالقه الذي علّمه ما لم يكن يعلم وتواصله مع أخيه الإنسان بعد ذلك.
 إن معاني التواصل وإفرازاته لا تقوم لها قائمة في غياب دلالات الحوار ونتائجه، باعتبار الحوار الأسلوب الوحيد الذي يضمن تبادل الفكر والسلوك والمواقف والاتجاهات بين بني البشر، والواقي من منطق الإقصاء والأحادية والتسلط والهيمنة المستبدة بصاحبها وبمن معه، والكاشف لقيّم التواصل ولكل ما يضر أو ينفع نظرا وعملا من أراء وفهوم شتى لا الرأي الواحد، والمفضي إلى سداد الرأي ورشاده الذي لا يخرج عنه إلا صاحب زيغ وظلال، ويكون الحوار إيجابيا كلما تمثل حقّا وفعلا روح التسامح في رقتها ولينها ولطفها وعفوها وإشفاقها وفي سائر محامدها، وكثيرا ما يفشل التواصل في غياب الحوار الإيجابي، وكثيرا ما يفشل الحوار في غياب التسامح، وفي كثير من الحالات لا يجد التسامح مرتعا له في عالم اللاّتواصل واللاّحوار واللاّتسامح.     
كثيرا ما يُقال أن الطبيعة تأبى الفراغ وتنفر من العنف والعدوان، فهي تتجه نحو الحركة بدأب وديدان، وتنكشف مخزوناتها وتتعرى طاقاتها وتنفجر في حدود الإرادة الإنسانية وما تبذله من جهد واجتهاد بإيمان قوّي بقدرة الإنسان على التغيير وعلى خوض معارك البناء الحضاري من دون يأس وخيبة أمل، هو العلا الأعلى كما يسميه البعض، لكن حسم المعركة لصالح الإنسان لا يتم إلا بالتواصل والحوار المبني على التسامح، فالمعركة محسومة لغير العلا الأعلى في جو الفرقة والشقاق والتشتت، وفي سيطرة منطق الإقصاء والعنجهية والأنانية وواحدية الرأي، وفي السقوط الحر في بحر أمواجه طوفانية تدفع باتجاه الكراهية والبغضاء وضغينة، فيقتحم الإنسان عالم اللاّتسامح  والعنف الذي تتعدد أشكاله، وكثيرا ما ينتهي العنف بالتناحر والاقتتال، فلا تقوم للتعايش قائمة قي غياب الأمن والسلام.
 ورد في الأثر الطيب أنّ أحد الحكماء عُرف عنه كثرة العلم، وغزارة الفطنة، والصدق في القول والعمل، يحاور ويهزم، لم ينكسر قط فيما ناظر وحاجّ، فتعجب أهل العلم والحجاج لذلك، ورأوا في الأمر سرّا، وذات يوم سأله أحد تلاميذه عما يفعله قبيل الشروع في المناظرة، فأجابه قائلا: ما ناظرت أحدا قط في حياتي إلاّ سألت الله بيني وبينه أن يّظهر الحق على لسانه هو وليس على لساني أنا. فالتواصل في هذا المشهد عرف الحوار في قمة التسامح. فأين نحن من هذا؟. 

     
02 رمضان 1432 هـ
الموافق 02 أوت 2011 م

ارسال التعليق

Top