• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قبسات عن فَكْر الآخر

طراد حمادة

قبسات عن فَكْر الآخر
◄قبسات جمع قَبَس. وفيها معنى العلم والاستفادة وبعضها يتضمن الأخذ من التراث، لأنّ في اقتباس الشاعر أو الكاتب تضمين كلامه آية دينية أو حديثاً أو قاعدة من بعض العلوم ومنه جاء معنى الاقتباس عند البديعيين. والقوابس الذين يقبسون الناس الخير، أي يعلمون. هذا ما جاء في منجد اللغة العربية عن معنى قبسات. وفي مفردات غريب القرآن للراغب الاصفهاني: القبس المتناول من الشعلة والاقتباس طلب ذلك، ثمّ يستعار لطلب العلم والهداية. إذا أردنا البحث في كتب أخرى وقعنا على معان جديدة تقبس من الأصل الأوّل. لكن قصدنا ليس الإفاضة في كشف معنى الاسم الذي نطرحه لك عزيزي القارئ: أحداثها مشكلاتها وتحدياتها، بل الكشف عن المضمون والمنهج. ونحن نستعين على ذلك ونقتبس من نور الإسلام الآخذ من نور الله سبحانه، نور على نور. ولا نقول كما فعل بعض الناس وقد انتبه قليلاً في آخر أمره، عند خمود حرارة الشهوات والاغراض، إلى نور المعرفة وبرد اليقين في قلبه، وظل مع ذلك مغروراً يظن انّه بأدنى اشتغال إلى التعلم وطلب استفاضة أنوار المعارف من حامليها من المعلمين على الحقيقة يصير ذا علم ومعرفة ونور عقلي، فيتوجه نحو المؤمنين حقيقة والعلماء حقاً فيخاطبهم بالتوجه إليه والالتفات نحوهم قائلاً: "انظرونا نقتبس من نوركم". ظناً منه انّ ذلك منة عليهم لأنّه من المعتبرين عند نفسه. لكننا ونحن نستضيء نور الإسلام نعرف انّ الله عزّ وجل قد هيأ أسباب المعرفة والعبادة للناس كما جاء في الآية الكريمة من سورة الحديد (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الحديد/ 12). وجاء في التفسير الكبير لصدر المتألهين الشيرازي، انّ النور المشار إليه في هذه الآية هو نور المعرفة واليقين، فإنّ النفس الإنسانية من عالم النور والمعرفة لكنها بسبب التعلق بعالم الأجسام الكثيفة صارت ظلمانية محجوبة عن الإدراكات فإذا ارتاضت ذاتها بالرياضات الدينية والأعمال الشرعية من الأفكار والأذكار والعبادات، وخرجت من مرتبة القوى الهيولانية إلى المرتبة الفعلية حصل لها العقل المستفاد، وهو نور يستضيء ويضيء في المعاد، فصار نوراً على نور. وهذا النور العارض انّما يقذف في قلب المؤمن من عالم الملكوت بسبب اكتساب العقليات واليقينيات عند تصوره الخير الحقيقي أو بسبب اكتساب الاعتقادات المحمودة والظنون الحسنة عند تصوره الخير المظنون. قال قتادة: "انّ المؤمن يضيء له نوره كما بين عدم وصنعاء ودون ذلك، حتى انّ من الناس من لا يشيء له نوره إلا موضع قدميه". وقال عبد الله بن مسعود "ويؤتون نورهم على قدر أعمالهم. فمنهم من نوره مثل الجبل وادناهم نوراً نوره على قدر ابهام قدميه فيضيء مرة ويطفئ أخرى فإذا أضاء قدمه مشى وإذا طفى قام". يرد إلى الخاطر مع تأمل المعاني السامية التي تكشف عنها الآيتان الكريمتان من سورة الحديد، ما يثار من مسائل حول الثقافة والتمايز الثقافي مع حق الاختلاف، إضافة إلى العلاقة بين الحضارة والثقافة في حوار الحضارات وتفاعل الثقافات. ورغم انّ اللغة الألمانية تستعمل كلمة واحدة للدلالة على المفهومين كما يستخدمان كمصطلح واحد في الأدبيات الأمريكية، فإنّ مفهوم الثقافة في أدبيات القرن المنصرم لا يزال يدور حول المعاني الرئيسية التي عرفها عبر التاريخ، لذلك يذهب القائلون بالتداخل الثقافي والتمايز الحضاري إلى أنّ الثقافة الإنسانية تتوجه مع نهاية القرن المنصرم نحو تبني مفهوم التداخل الثقافي ومفهوم الاختلاف الحضاري، وهما معاً يضعان للقرن الحالي احتمال علائق مغايرة بين البشر. إنّ مفهوم التشكيك الوجودي الذي قا به صدر المتألهين الشيرازي، والذي يعني التفاوت مقابل التواطئ الذي يعني التساوي، الذي يصدق على الوجود ويلمس مثاله في قوة النور وضعفه واختلاف نسبته للأشياء والموجودات يكشف عن المعنى المراد في الآيتين الكريمتين وعن الاختلاف بمعنى التفاوت الحضاري والثقافي إذا اعطى للنور تفسير "نور المعرفة واليقين" كما ذهب ملا درا، وعليه يكون لكل ثقافة نورها أو نصيبها من النور ومنها ما يضيء كما بين عدن وصنعاء ومنها ما يضيء موضع قدمه إن أضاء مشى وإن خفت قام. لكن كل هذه الأنوار تستمد نورها على اختلاف شدته وضعفه من نور الأنوار، واهب كل شيء. وفي هذا تتساوى جميع الموجودات في معنى الوجود الفقري. أي افتقار وجودها إلى واجب الوجود، الذي عنده علم الأشياء، العلم الكلي والمعرفة التامة. يصف أحد الكتاب الانجليز الساخرين الفرق بين "المونولوج" و"الدايالوج" على النحو التالي: المنولوج هو أن يتحدث الإنسان إلى نفسه والدايالوج هو أن يتحدث شخصان إلى نفسه. وما ينطبق على الأشخاص ينطبق أيضاً على الحضارات. ويوافق هذا الوصف ما جاء في ندوة عن حوار الحضارات للمفكر الفرنسي جان بول شارنيه، مدير البحث في الاستراتيجيات والنزاعات واستاذ السوسيولوجيا العربية المعاصرة في جامعة السوربون – باريس الرابعة، في حديثه عن كتابه (الشروق المضادي) أو (عوالم الشرق الأخرى) Centre-Orients، وموضوعه كيف فَكْرُ الآخر حسب الذات، يقول: حيث بدأت أخرج من المنطقة العربية – الإسلامية وأذهب إلى وسط شبه القارة الهندية – الصين – الشرق الأقصى طرحت على نفسي عدة مسائل منها كيف فَكْرُ الآخر حسب الذت؟ ويتبعه: كيف فَكْرُ الآخر حسب ذاتي؟ قال لي البعض: لكن ما معنى هذا الكلام؟ يجب أن نَفْكَر الآخر حسب ذاته هو، حينئذ قلت: أنا موافق. إذا كنتم على ما يكفي من العبقرية، إذا كنتم قادرين على فكر الآخر حسب نفسه فهذا أفضل. أما أنا فغير قادر. وعندئذ تكون مشكلتي الكبيرة أن أحاول معرفة كيف سأفْكَر (وتقرأ بتسكين الفاء وفتح الكاف) الآخر وأنا أعلم أنني لن أستطيع أن أفعل ذلك إلا حسب نفسي وهذا يتركني في عالم الحسية. مثال صغير تقني: أنا أعمل منذ زمن طويل في الحقوق الإسلامية، اعلم انّه يجب أن لا أفكر في الشريعة والفقه بالطريقة نفسها التي أفكر بها كحقوقي تكون علي مدونة نابليون أو على الديجست (هي قوانين جوستنيان المتوفى عام 533م). كيف يمكن تمرير رسالتنا للآخرين دون اشعارهم انّ الصورة عنهم تمر في منظار مفاهيم حضارة أخرى. مشكلة الحوار مع الغرب كانت دائماً في هذا النوع من التفكير. يقدم نفسه إلينا كما يشاء هو نفسه، ويقدمنا إلى نفسه وإلى أنفسنا كما تفكر نفسه. ولذلك كان ولا يزال للاستعمار الحضاري تبعات واضحة. ونشأت الكثير من الحواجز النفسية التي تحول دون تفهم الشخصية المغايرة. وكان من تبعاتها فقدان الكثيرين لأصولهم وجذورهم الحضارية. بحيث لم يعد بوسعهم التعبير عن تطلعاتهم وطموحاتهم إلا في لغة الغرب أو مفاهيمه الأيديولوجية. ما زال الكثيرون من المثقفين العرب يدورون في دوامة هذا الصراع بين حضارتهم الذاتية وحضارة الغير، أو أنهم حائرون بين الغربة والتوحد مع أصولهم. وليس لنا أن ننكر انّ قيام الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي الإسلامي، زاد من أزمة العلاقة بين الشرق والغرب، وأدى ما عرف بمشكلة الشرق الأوسط إلى أضعاف روابط التقارب والتفاهم بين حضارة أوروبا وحضارة الشرق، وقلبه الشرق الإسلامي وليس "الشرق المضاد". خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستعمار. يتساءل كثيرون، ما معنى الحوار؟ واعطيت تفسيرات عديدة لهذا اللفظ وكان الحوار بمفهوم سقراط وأفلاطون هو الجملة والجملة المضادة أو "الفكرة والفكرة المضادة" من أجل تعريف الشيء ومن أجل النفاذ إلى الحقيقة. الحوار كحديث بين طرفين كما هو الحال في علم الكلام وعند الفلاسفة، الإلهيين أي مناقشة الشيء ما له وما عليه من أجل الوصول إلى المعرفة اليقينية. الحقيقة الواقعية والواقعة الحقيقية. وهذا التعريف يقترب من المفهوم الإسلامي للحوار، بينما بقي الغرب على أساس الحوار بين الجملة والجملة المضادة، كما كان الحال عند حكماء اليونان. فعلى أي قاعدة ومفهوم سيقوم الحوار، هل على قاعدة التضاد والتناقض أو الجدل كما عند أفلاطون، أم على قاعدة دراسة الشيء للنفاذ إلى حقيقته وتفسيرها. نعرف انّ الإنسان لا يمكن أن يمضي وحيداً وانّ الوحشة في الدرب أمر شاق. والصحبة هدف منشود. لكن من أين يأتي الأصحاب؟ من جبلتنا أم من طينة أخرى ومزاج آخر. وكيف تكون الرحلة؟ هل نأتي المتعة في الصحبة أو في طلب طويل الغاية؟ الدرب طويل والسفر يلزمه الزاد، وبعض الزاد الصحبة فيه... كيف يكون الإنسان وحيداً في هذا العالم. يعزله فكره؟ يتشرنق في عزلته. لا يمكن أن يحصل ما قلت، لأنّ الفكرة لا تعزل صاحبها، بل توصله. الفكرة وصل، وحياة في الوصل. لا تغدر الفكرة صاحبها لتتركه وحيداً. والآخر هذا الآخر كيف نلاقيه، الأرض الشاسعة تدور، ونحن نبحث في أرض تتحرك، تتغير، تتبدل فيها الأشكال وتزهو الألوان، تنأى بالناس وتجمعهم. تفكك أوصالاً وتوصل أخرى، وفي جمع العقد وفرط العقد يمضي الوقت، يتدحرج في دوران الأرض. هنا نحن نجلس، نتأمل أعلى القمم، ننظر في قصر الوديان، نتطلع صوب نسيم الحقل تلهبنا شمس الصحراء، أترى سرابٌ ما يلمع أم ماء؟ نبحث عن هذا الآخر كيف نلاقيه؟ لكن لا تأخذنا الرغبة في قعود دائم نتحدى ونمضي. قمر يشعل هذا الليل. شمس تلهب أقدامنا. نمشي في آخر نفق أو أقرب فسحة أفق، نأمل أن نجد الآخر، نمسكه من يده، نعطيه نصف الزاد. ونمشي سوياً في سفر ميمون. المصدر: مجلة النور/ العدد 33 لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top