• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الذاكرة والتعلُّم والنشاط العقلي.. آيات الحكمة الإلهية

د. محمد نبيل النشواتي

الذاكرة والتعلُّم والنشاط العقلي.. آيات الحكمة الإلهية
◄قال بعض العلماء: إنّ المعلومات التي يكتسبها الإنسان من خلال القراءة والتعلُّم ومن خلال الحواس المختلفة ستُحفظ في الاتِّصالات العصبية Synapses التي تربط الألياف العصبية الدماغية ببعضها بعضاً. هذا غير صحيح، لأنّ التفاعلات التي تحدث في هذه الاتصالات عند عبور الشيفرة التي تحملها لن تدوم أكثر من ميلي ثانية واحد، بينما تبقى الأفكار والعلوم محفوظة في الدماغ أمداً طويلاً. وقال آخرون: إنّ المعلومة إذا دخلت جسم الخلية العصبية تُحدث تغيُّرات كيميائية – عضوية وبنيوية في تركيبها من خلال تأثيرها على الجينات. وبما أنّ النسيان من صفات الإنسان، وبما أنّ المادة لا تفنى، لذا لا يمكن أن تكون هذه النظرية صحيحة. ثمّ قال آخرون: إنّ المعلومة تُحدث تغيّراً في بنيان الخلية. إذا كان هذا صحيحاً، فكيف سيكون شكل وبنيان الخلية بعد أن تُخزِّن مليارات المعلومات؟ ولو فحصنا خلية لوليد وأخرى لعالم أو أديب فإنّنا سنراهما متطابقتين في الشكل والخواص وفي البنيان. لذا فالنظرية الأخيرة مرفوضة كسابقاتها. وإذا أصيب إنسان ما برضةٍ شديدة على الرأس أو بارتجاج في الدماغ، فإنّه سينسى المعلومات التي تخزَّنت في دماغه مباشرة قبل الإصابة. فلماذا لا تُمحى الذاكرة القديمة كما امَّحت الذاكرة القريبة؟ ولماذا لا يتغيَّر بنيان الخلية إثر امِّحاء الذاكرة منها؟ للإجابة على هذه التساؤلات خدَّر العلماء بعض الشمبانزي وصعقوا دماغ بعضها الآخر، فامَّحت ذاكرتهم القريبة، ولكن ما إن عادوا إلى طبيعتهم بعد زوال أثر المخدِّر والصعقة الكهربائية حتى عادت ذاكرتهم القريبة المفقودة. لذلك بقيت آلية حفظ الذاكرة مجهولة وتحتاج إلى دراسات وتجارب كثيرة وحثيثة. ولو سلَّمنا بالفرضيات الموضوعة، فكيف لنا أن نفسِّر النسيان التلقائي؟ وكيف يمحي الدماغ أو العقل المعلومات الخاطئة ويلغيها من ذاكرته إلى الأبد؟ وكيف تقوم خلايا الدماغ بالتفكير والإبداع؟ ولماذا نرى أناساً مبدعين ومفكِّرين بارزين وآخرين دون ذلك وبكثير؟ علماً أنّ تركيب أدمغتهم واحد؟ وبنيان خلاياهم واحد؟ وطبيعة وتركيب النواقل العصبية – الكيميائية لديهم واحدة؟ ويقتاتون من الأغذية نفسها ويعيشون على الأرض نفسها ويتنفسون الهواء نفسه ويشربون الماء ذاته؟!!.. لقد تمكَّن العلماء من اكتشاف وظائف بعض أجزاء الدماغ من خلال مشاهداتهم لنتائج الإصابات المختلفة التي تعرَّضت لها هذه الأعضاء لدى المصابين من الناس وأثناء العمليات الجراحية على أدمغتهم. كما تمكنوا حديثاً من تنبيه أجزاء الدماغ المختلفة مع رصد نتائج هذه التنبيهات وأثرها على الجسم وعلى تصرفات وسلوك الناس. بهذا الأسلوب أضحت بعض أجزاء الدماغ مكشوفة المهام. ولكن، وعلى رغم التطور العلمي الكبير بقيت الغالبية العظمى من كتلة الدماغ (90% منها) غامضة ومجهولة الوظيفة حتى شبَّهها البعض بالأدغال التي يستحيل استكشافها. وفيما يلي أهم المناطق المتخصِّصة في القشرة الدماغية والتي منها: 1-    المنطقة الجبهية: تخطِّط هذه المنطقة للحركات الشديدة التعقيد وتنسِّقها، خصوصاً منها التي تحتاج إلى أعمال دقيقة متتالية كتنفيذ عمل جراحي أو مباراة تنس أو ما شابه. كما تشارك هذه المنطقة بالتفكير العميق والمديد سواء كان مترافقاً بحركات وأعمال يدوية أو لم يكن، كما تصدِّر هذه المنطقة أفكارها وتعليماتها إلى باقي مراكز الدماغ وأجزائه خصوصاً منها المنطقة الحركية التي ترسل تعليماتها وأوامرها إلى الأطراف والعضلات.   2-    منطقة بروكا: وهي المسؤولة عن الأخذ والعطاء وعن التفاهم واختيار الكلمات وصنع أو تأليف العبارات والتعبير عمّا يختلج في النفس البشرية من أفكار وأحاسيس وعواطف، وهي التي تختار العبارات المناسبة لكل ظرف ولكل مناسبة، كما تحدِّد هذه المنطقة الانفعالات التي سترافق التعبيرات المختلفة وما يرتسم في الوجه من انطباعات وسمات. تتعاون هذه المنطقة تعاوناً وثيقاً مع منطقة فيرنيك ومع المنطقة المسؤولة عن السمع والكلام والتي تحرِّك عضلات الوجه.   3-    المنطقة اللمبية Limbic area: لقد خصَّص الخالق العظيم هذه المنطقة لتتحكّم بالعواطف والانفعالات والتصرّفات، هي التي تصنع الحوافز، وتحثُّ الإنسان ليقوم بما يتحتَّم عليه من أعمال إنسانية، وهي التي تدفعه إلى التعلّم والتحصيل.   4-    منطقة حفظ الأسماء: وفيها يحفظ الدماغ أسماء الناس والأشياء. تُحقِّق هذه المنطقة هذه الغاية من خلال اتصالاتها العصبية مع المناطق المخصَّصة بالرؤية والسمع والقراءة ومراكز الدماغ الأخرى. من خلال هذه المهمة الجليلة تشارك هذه المنطقة في تنمية الذكاء والقدرات العقلية المختلفة والتي من أهمها التعبير عمّا يختلج في النفس البشرية من مشاعر وأحاسيس.   5-    المنطقة المتخصِّصة بالقراءة وصياغة الكلام: بالتعاون بين هذا المركز وبين مراكز الرؤية ومركز فيرنيك ومركز اللغة والذكاء ستحلِّل هذه المنطقة ما تراه العين وتسمعه الأذن ثمّ تفسِّره وتحدِّد معانيه. كما تلعب هذه المنطقة دوراً رئيسياً في صياغة الأحاديث.   6-    منطقة السيطرة على أوضاع وحركات الجسم: تستقي هذه المنطقة معلوماتها من المراكز الحسيّة القادمة من الأطراف ومن مراكز السمع والإبصار، ثمّ تحدِّد أوضاع الجسم والأطراف أثناء الأعمال والحركات المختلفة، ثمّ ترسل معلوماتها وأوامرها إلى المراكز الحركية لتقوم بما يلزم من حركات وتصحيح لأوضاع الجسم ليبقى ثابتاً متَّزناً، وبذلك فإنها تلعب دوراً كبيراً في إنجاز كافة الحركات والأعمال والمهارات بأمان وإحكام تامّين. كما تعتبر هذه المنطقة من أهم المراكز التي تنمِّي الذكاء والقدرات العقلية.   7-    المنطقة القذالية – الصدغية occipitotemporal area: تتَّصل هذه المنطقة بالمراكز الحسيّة كافة في الدماغ فتأخذ ما فيها من معلومات فتحلِّلها وتفسِّرها ثم تعيدها إلى المراكز الأخرى لتعطيها بذلك فكرة واضحة عن الوسط المحيط وما فيه من مكامن خطر ومصادر للأذى وتبيِّن لها ما يجدر بها اتِّخاذه من إجراءات احترازية وأعمال فاعلة لدرء كل خطر داهم.   8-    منطقة التعرّف على الوجوه: تقع هذه المنطقة على السطح السفلي للدماغ. قد يتراءى للبعض أنّ مهمة هذه المنطقة بسيطة ومحدودة، وعلى رغم ذلك فقد حباها الله جزءاً كبيراً من قاعدة لا يتناسب مع مهمتها! ولكن لو علمت أنّ كلّ ما يقوم به الإنسان من أعمال تعتمد على احتكاكه مع الناس وعلى الأخذ والعطاء بينه وبينهم، وعلى تمييز الصالح من الطالح منهم والطيِّب من الخبيث، لأدركت مدى أهميتها وعظمتها. تتصل هذه المنطقة بمراكز الإبصار ومراكز السلوك والعواطف لكي تتمكَّن من تمييز الناس من خلال سحناتهم وسلوكهم وتصرّفاتهم. فسبحان الله.   9-    مراكز الإبصار: تقع هذه المراكز في نهاية الدماغ الخلفية. تقوم هذه المراكز بترجمة الألوان والأشكال والكتابات وتحوِّلها إلى معلومات، ثمّ ترسلها إلى باقي مراكز الدماغ لتستفيد منها أثناء اتِّخاذ القرارات ولتخزِّنها في الذاكرة لحين الحاجة إليها.   10-                        مراكز السمع: تقع على جانبيِّ الدماغ بين مراكز السلوك والعواطف وبين مراكز فيرنيك المتخصِّصة بالذكاء وبين مراكز صناعة وصياغة الكلمات والعبارات. من خلال الاتَّصالات العصبية الغزيرة بين هذه المراكز تتحول الحواس المختلفة إلى لغات وعلوم وثقافات وغير ذلك. تشارك هذه المراكز في استقبال أحاديث الناس فتفسرها وتردُّ عليها من خلال المحادثة التي ستنفّذها المراكز المخصَّصة بالنطق.   11-                        مراكز الدماغ الحسية والحركية: موجودة في منتصف القشرة الدماغية عند قمة الدماغ. مهمة الأولى استقبال الأحاسيس والمعلومات من الجلد والأوتار والعضلات ومن المراكز الحسيّة المتخصِّصة في الدماغ كمراكز السمع والشم والإبصار وغيرها، كما تستقي هذه المراكز الكثير من المعلومات من الخلايا القاعدية ومن المخيخ ومن الجذع الدماغي، فتحلِّل المعلومات ثمّ ترسلها إلى المراكز الحركية لتصنع القرار ولتصدر الأوامر التي ستذهب عبر ألياف عصبية غزيرة إلى النخاع الشوكي فتسلِّمها للعصبونات النخاعية الشوكية، ومن هناك ستذهب الشيفرة الحركية إلى العضلات فتحرِّكها تماماً كما أراد لها الدماغ أن تتحرَّك من دون زيادة ولا نقصان.   12-                        الخلايا القاعدية: عندما تذهب الأوامر الحركية من القشرة الدماغية إلى النخاع الشوكي ستمر عبر الخلايا القاعدية فتنمِّقها وتحسِّنها ثمّ تضع لمساتها الأخيرة عليها لتبدو منسجمة متناغمة ودقيقة وفاعلة. ومن دون الخلايا القاعدية ستبدو الحركات هزليّة وخالية من التناسق والروعة، حتى تبدو وكأنها عبث وتهريج!   13-                        منطقة فيرنيك Wernick`s area: تأخذ هذه المنطقة موضعاً استراتيجياً، إذ يحيط بها مركز الإبصار ومركز تحليل وتفسير المرئيات من الخلف، ومراكز السمع وتحليل وتفسير الذبذبات المسموعة من الأمام، والمراكز الحسيّة والحركية من الأعلى، ومراكز تسمية الأشياء والكلام ومنطقة بروكاس من الأمام، لذا نتوقَّع أن تكون وظيفتها تفسير المعلومات التي تردها من هذه المراكز كافة. ولذلك أضفى عليها العلماء اسم: منطقة المعرفة والذكاء، وأعطاها آخرون اسم gnastic area أي إنها تتعامل مع روح وجوهر الأشياء. تستقبل منطقة فيرنيك الألفاظ المسموعة والمرئيات وكلَّ ما نقرأه ونكتب وتحوِّلها إلى عبارات وأحاسيس في غاية التعقيد. كما تفسِّر هذه المنطقة ما يرد من لغات إلى مراكز الأسماء واللغات فتحوِّلها إلى أفكار وعلوم وخبرات. تتشابك المراكز الدماغية سابقة الذكر وتتواصل وتتعاون في ما بينها لكي تحلِّل الحواس والمعلومات واللغات ثمّ تحوِّلها إلى أفكار وحركات، وتخزِّن ما عليها تخزينه في الذاكرة وتضمها إلى خبراتها، وبذلك سيتقدَّم الإنسان علماً وذكاءً، وستبرز مهاراته اليدوية والثقافية والفكرية والرياضية وغير ذلك من مهام الدماغ المذهلة. وعلى الرغم من أنّ هذه المراكز موجودة في نصفيِّ الدماغ، إلّا أنّ النصف الأيسر هو المسيطر لدى 95% من الناس. وقد وُجد أنّ هؤلاء يستخدمون يدهم اليمنى في الكتابة والعمل وفي المهارات. والذي يجدر ذكره أيضاً أنّ كافة مراكز الدماغ وأجزاؤه وخلاياه على اتصال مباشر ببعضها بعضاً، وبذلك فإنّ أيّ فكرة ترده من أي حاسة أو اتِّجاه ستنتشر وخلال ميلي ثانية واحدة لتبلغ خلاياه كلها، التي ستتفاعل مع كل معلومة ثمّ تعطي رأيها في شأنها وما يجب عمله إزاءها، وبذلك سيكون الرأي جماعياً وحكم الخلايا شورياً وصناعة القرار دقيقة وحكيمة وحاسمة ومقرونة بالإرادة والعزيمة، فسبحان الخالق الحكيم. ولكن، وعلى رغم التطور العلمي الكبير، بقيت معلومات العلماء محدودة جدّاً في ما يخصّ آلية التفكير والتعلّم وحفظ الذاكرة، وما زلنا نجهل كيف وأين يتمُّ الإبداع العقليّ أو الفكريّ أو الفنيّ أو اليدويّ أو اللغويّ أو الرياضيّ وغيرها؟ كما فشل العلماء في تفسير ظاهرة النسيان وضدَّها؛ أي حفظ المعلومة في الذاكرة إلى الأبد. كما عجزوا كل العجز عن تفسير ظاهرة الذاكرة القصيرة الأمد التي سرعان ما تتلاشى من العقل خلال ثوان أو دقائق معدودة، كما لم يتمكنوا من تبيان الفرق بين الذاكرة الطويلة الأمد التي يحتفظ بها العقل عشرات السنين وبين الذاكرة المتوسطة الأمد التي تدوم من ساعات إلى أسابيع، وبقيت هذه الأمور وأمور أخرى كثيرة سراً من أسرار الخالق العظيم ليثبت لنا من خلالها قدرته ومدى حكمته وعلمه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...) (فصلت/ 53). لقد خلق الله آدم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعل له ولذريته السمع والأبصار والأفئدة، لنميِّز بها الخير من الشر، ووهب لنا دماغاً فذاً كان ولا زال آية من آيات الله ومعجزة المعجزات. وبسبب هذا الدماغ المذهل الذي فضَّلنا به سبحانه وتعالى على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبسبب العقل المبدع الذي لا نعرف مكانه ولا كنهه، وما إذا كان له شكل أو لون أو وزن! فبقي لغزاً حيَّر العلماء على مرِّ السنين، بسبب هذا كله، طلب سبحانه وتعالى من الملائكة الأبرار أن يسجدوا لآدم بمجرد أن تدبَّ الروح فيه: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر/ 29). لقد أمر سبحانه الملائكة الكرام بالسجود قبل أن يتمّ خلق آدم، أي قبل أن تدبّ فيه الروح، وهذا يعني أنّ السجود لم يكن لشخص آدم ولا لعظمته، لأنّ الملائكة لم يكونوا قد رأوا شيئاً من ذلك بعد، ولكن السجود كان لعظمة الخالق الحكيم التي من آثارها هذا الخلق العظيم، وكان السجود لعظمة خلق الدماغ الذي تعلَّم الأسماء كلها، وحتى أسماء الملائكة الأبرار. عندئذ أدرك الملائكة ما يرمي إليه ربّ العزّة والجلال فسجدوا أجمعون، إلّا إبليس كان من الجن فأبى واستكبر وكان من الكافرين، فالسجود إذاً كان لعظمة الخلق الفذّ ولخالق هذا الخلق، للكبير المتعال، لذي الجلال والإكرام: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام/ 102-103). إذاً، فقد كرَّمنا الله بهذا الدماغ، وفضَّلنا به عن المخلوقات كافة، وجعلنا نعقل وندرك ونميِّز الخير من الشر والصالح من الطالح: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 10). لذلك ضمَّنا سبحانه وتعالى إلى عالم المكلَّفين بالعبادات والطاعات فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56). وقد كانت هذه حكمته سبحانه وتعالى من خلق العباد والأنام: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 2-3). ولكن كيف للدماغ وهو مادة بروتينية ودهنية وسكرية أن يفكِّر ويعقل وأن يحلِّل ويركِّب وأن يحفظ وأن يخزِّن؟ كيف يحصِّل العلوم ويلمُّ بالحضارات والثقافات والفلسفات؟ وكيف يعتنق ديناً ويرفض آخر؟ وكيف له أن يتعلَّق بشريعة السماء وينبذ ما يراه وضعيّاً واهناً؟ وكيف له أن يطبع بين تلافيفه شخصية صاحبه وسلوكه وأسلوب تعامله مع ذويه وإخوته ومجتمعه؟ وكيف للدماغ أن يحدِّد لنا علاقاتنا ببيئتنا ووسطنا الذي ننتمي إليه؟ وكيف له أن يختزن العلوم والمعلومات والخبرات سنين طويلة تمتد ما امتدت الحياة؟ وكيف يستخرج منها ما شاء، متى شاء، وبسرعة لا تزيد عن جزء من ميلي ثانية؟ وكيف لهذه المادة الخاملة أن تصبح على هذه الدرجة المذهلة من الحيوية والنشاط والسيطرة؟ وكيف للدماغ أن يفسِّر ما يرده من تيارات عصبية من العين فيترجمها إلى صور ومعانٍ وأشكال ومعلومات؟ وما الذي يجعله يقول هذا أبوك وهذا عمُّك وهذا خالك هذا صديقك وهذا عدوّك وهذا خبيث وذاك طاهر السريرة؟ كيف له أن يستقبل اهتزازات محمولة على عصب الأذن فيترجمها إلى كلمات وشعر ونثر وألحان عذبة يستسيغها، وأخرى كليلة شاذة ينفر منها وينزعج؟ وكيف لخلايا الدماغ أن تدرك أن ما يُقال دعابة أو فكاهة فتستجيب ضاحكة مستبشرة معبِّرة عمّا يعتمل في أعماق النفس من خلال تقلُّصات عضلات الوجه التي تجعله مبتسماً ومعبّراً عن البهجة والسرور؟ أين تقع النفس البشرية؟ هل هي في الصدر؟ أم في القلب؟ أم في الدماغ؟ وإن كانت في الدماغ، فأين موقعها فيه؟ وما هو كنهها؟ كيف يتفاعل الدماغ مع الوسط والبيئة والناس؟ ولماذا وكيف يتجهَّم الوجه ويقطِّب ويعبس ويستنكر عندما يشاهد عدواً لدوداً؟ كيف يقوم الدماغ بكل هذا الإبداع ووزنه لا يزيد عن (1200) غرام؟ لقد فشل العلم على الرغم من تطوّره في كشف سبب حدَّة الذكاء لدى البعض وبلادته لدى البعض الآخر؟ كما فشل العلماء في تحديد أماكن الذاكرة وأماكن المحاكمة العقلية، وهل هي داخل الخلايا العصبية أم خارجها؟ وهل هي في القشرة الدماغية أم في أدغال الدماغ، التي ما زالت ظلمات لم يدرك العلماء شيئاً عن واقعها ووظائفها؟ وإن كانت داخل الخلية العصبية، ففي أيٍّ من هذه الخلايا التي قدِّرت بـ(100) مليار خلية؟ وفي أيِّ جزء من جسم الخلية؟ وهل هي في النواة أم مثبتةٌ على الكروموسومات وداخل بنيان الجينات؟ أم في اللويفات العصبية؟ أم في حبيبات نيسل Nissel التي لا توجد إلّا في الخلايا العصبية؟ أم أين يا ترى؟ ما زالت الإجابات من أسرار الخالق الحكيم، عالم الغيب والشهادة، خالق هذا الدماغ المذهل والعليم وحده بأسرار خلقه: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) (الرعد/ 9). (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) (الجن/ 26). وقال عزّ من قائل: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل/ 75). وقال سبحانه وتعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام/ 59). من آيات الحكمة الإلهية والخلق المذهل أن جعل الحكيم العليم خلايا الدماغ ثابتة لا تفنى ولا تتغير ولا تتجدد طيلة الحياة، ولو كانت متجدِّدة على الدوام كخلايا الدم ونخاع العظام وبطانة المعدة والأمعاء وخلايا الجسم الأخرى كافة فإنّ هذا يعني أنّ ما قد تمّ تخزينه من علوم ومعلومات ومعارف وخبرات ومهارات ستزول كلها عندما تزول الخلايا القديمة وتتجدّد، وهذا يعني بقاء الإنسان جاهلاً على الدوام ولن يدرك شيئاً ممّا يحيط به، ولن يعرف الناس، ولا حتى أقرب المقربين إليه، فيكون بذلك في عداد الأنعام أو دونها مقاماً وذكاءً ووعياً. من معجزات الخلق بقاء أجزاء كبيرة من الدماغ البشري مقفرة ومجهولة الوظائف، فبدت للعلماء وكأنها غابات يستحيل اقتحامها واستكشافها، أو عوالم وكواكب تعذَّر بلوغها وكشف معالمها وأسرارها!!.. لقد تبيَّن للعلماء أنّ عدد خلايا الدماغ ثابت لا يتغيَّر منذ الولادة وحتى الشيخوخة وصعود الروح إلى بارئها. لقد قدّروا عددها بحوالى مئة مليار خلية، واكتشفوا في كلٍ منها حبيبات وجسيمات دقيقة جدّاً تتهادى في سيتوبلازم الخلايا تهادي السفينة على سطح البحر، فسموها بحبيبات نيسل نسبة للعالم الذي اكتشفها. كما شاهدوا تحت المُجْهِرْ لييفات في غاية الدقّة تسبح جنباً إلى جنب مع تلك الحبيبات. لقد فشلَوا في تحديد وظائف هذه اللييفات وتلك الحبيبات، وإن قال البعض: إنها مركز حفظ الذاكرة والإبداع والنشاطات العقلية للدماغ كافة، ولكن هذا الكلام بقي فرضيات يعوزها الإثبات. لقد وجد العلماء أنّ الخلية العصبية الواحدة تتشابك مع ما ينوف على (180) ألفاً من الخلايا العصبية المجاورة، وبذلك فإنّ أيّ تحريض يبلغ إحداها سيصيب المجموعة كلّها في اللحظة نفسها، ليس هذا وحسب، بل سيبلغ التحريض من خلال الزوائد الشجرية الكثيفة المحيطة بخلايا الدماغ إلى جميع خلاياه فتتحرَّض برمّتها في أقلّ من ميلي ثانية واحدة. تصوّر عزيزي القارئ دماغاً يستقبل في لحظة واحدة ملايين الأحاسيس فيحلِّلها ويفسِّرها في اللحظة نفسها ثم يُصدر قراراته وأوامره إلى العضوية جميعها وباللحظة عينها أيضاً!!.. كيف سيكون حال هذا العضو البالغ الحيوية والنشاط؟ وبماذا يمكننا تشبيهه؟ إنّه لا شك أشبه ما يكون بعالمٍ عظيم يزخر بالمعجزات والخوارق وبالظواهر العلمية الأخّاذة. كما تبدو الخلية الواحدة وكأنها مدينة صناعية كبيرة مكتظة بالمعامل العملاقة المعقّدة، وهي مكتظّة بالناس، وشوارعها كثيرة ودائمة الحركة والصخب، ومستودعاتها ممتلئة بالمحاصيل وبالمنتجات من كل صنف من أصناف الصناعات، وموانئها مزدحمة بالبوارج والطائرات، وأناسها هائجون مائجون دائبون عاملون، وجنودها وحرّاسها مستنفرون وحريصون، وحكامها نشطون يقظون، وربهم وخالقهم حكيم خبير رحيم، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يؤووده حفظهم وهو سميع وعليم. هذا على مستوى الخلية الواحدة! فما بالك بمئة مليار من مثلها؟!!.. وكما سبق وأشرنا، فإن وزن الدماغ البشري لا يزيد عن (1200) غرام، ولكن الجزء النشط منه يتمثَّل في القشرة الدماغية التي لا تزيد سماكتها عن (4 إلى 5) مم، وهي سنجابية اللون ووزنها لا يزيد عن (120) غراماً فقط. وعلى الرغم من ضآلة حجم ووزن الخلايا الفاعلة في الدماغ، إلا أنها مصدر الإبداع والمهارات، وهي مركز الخيالات والتأمّل والتفكير والتحليل والتركيب، ومنها يتَّقد الذهن، ومنها تبرز قريحة الشعراء وفلسفات المتفلسفين وعبقرية العلماء والرياضيين والفيزيائيين، وهي التي تحدِّد صفات المرء ومعالم شخصيته، وهي السرُّ وراء تمييز الله لبني آدم وتفضيلهم على مخلوقاته كافة! فهل بإمكان علماء الجن والإنس أن يأتوا بمثل هذا الصنع وبهذا الحجم والشكل والوزن، ثمّ يقوم بكل هذه المهام المذهلة؟ لا وألف لا وإن اجتمعوا له. إنّه إعجاز ما بعده إعجاز، وقدرة إلهية فذّة لا تعدلها قدرة: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (لقمان/ 11). لقد دأب العلماء في مشارق الأرض ومغاربها وبذلوا قصارى جهدهم وعلومهم وإمكاناتهم وتعاونوا في ما بينهم وتبادلوا الآراء والمعلومات والنظريات والخبرات علَّهم يصلوا إلى سرِّ الخلق والحياة، فمنهم من صنع بيضة دجاج، ومنهم من حاول تركيب الأحماض النووية المختلفة، ومنهم من حاول صناعة الأميبا والجراثيم التي ابتدأت منها الحياة (بحسب معتقدات الماديين والملحدين) ومنهم ومنهم، ثمّ اجتمعوا ليتدارسوا ما وصلوا إليه في مجال الخلق والإبداع والتطوُّر. لقد جاؤوا من كل فجٍ عميق، من أقصى الأرض وأدناها، من أقصى الشرق وأدناه، ومن أقصى الغرب وأدناه، ومن أقصى الشمال ومن الجنوب، اجتمعوا ليعلنوا فشلهم وخذلانهم وعجزهم، وليقرُّروا أنّ الخلق كل الخلق لله وحده ولا يتمّ إلا بأمره سبحانه. لقد قالوا: إنّ نفخ الروح في أيِّ مادة أو كتلة عضوية صنَّعوها أمر فوق قدرات البشر، فبقي سرُّ الروح والحياة بيد الله وحده: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85). لقد اجتمعوا ليعلنوا فشلهم، ثمّ عادوا بخفيِّ حنين يجرّون وراءهم أذيالاً من الخيبة طويلة، وتعلوهم رؤوس سخيفة واجمة مطأطئة متكدِّرة ومخذولة. هل يتصور إنسان فيه بعض العقل ويتمتَّع بشيء من الحكمة والمنطق السويِّ أن تُوجِدَ خلايا الدماغ نفسها بنفسها؟ أو أن توجد بمحض الصدفة وهي على هذه الدرجة من الدقّة وإبداع التصميم والقدرات المذهلة؟ وهل يمكن لذرات وجزيئات الخلايا في الجهاز العصبي التي يقدَّر عددها بمليارات المليارات أن توجد نفسها بنفسها، ثمّ تكوِّن الخلايا بما تحتويه من عضيّات دقيقة كحبيبات نيسل والميتوكوندريا واللويفات والشبكة الإندوبلازمية والليزوزومات وأجهزة كولجي والنوى والكروموسمات وما تحمله من جينات وما يكتنفه الجين الواحد من شيفرات إلهية مذهلة؟ وهل يمكن للخلايا أن تجتمع مع بعضها بعضاً وعددها (100) مليار خلية على هذا النحو المتناسق وأن تتخصَّص كل مجموعة منها بوظيفة لا تتعدّاها فتلتزم بها أبد الآبدين؟ أم أنّ الصدفة قد أوكلت لهذه المراكز العصبية مهامها، وأوجدت لها شبكة معقّدة من الألياف العصبية تصلها بباقي أجزاء الجهاز العصبي؟ لقد تأكّد لنا وبشكل ماديٍّ وتجريبي طبيعة العلاقة بين الحواس الكثيرة والدماغ، فما هي طبيعة العلاقة بين الدماغ والعقل؟ وبين العقل ومراكز الإبداع والتفكير وتخزين المعلومات والكلمات واللغات؟ وما هي صلة الوصل بين الروح والعقل؟ أو بين النفس البشرية والدماغ؟ أو بين النفس البشرية والعقل؟ وما هي النفس البشرية؟ وما هي الروح؟ وما هو العقل؟ وأين يستقركل منها؟ وما وزنه وشكله ولونه؟ يقول العالم المستشار الهندسي الدكتور "كلوم هاثاواي"، الذي صمَّم العقل الإلكتروني للجمعية العلمية لدراسة الملاحة الجوية بمدينة لانغلي فيلد في أميركة: "كان من أسباب إيماني بالله ما قمت به من أعمال هندسية. فبعد أن اشتغلت سنين طويلة في تصميم أجهزة إلكترونية وكومبيوترات، صرت أقدِّر كل تصميم وكل إبداع أشاهده. ثمّ خلصت إلى نتيجة مفادها: إنّه مما لا يتَّفق مع العقل والمنطق أن يوجد التصميم البديع المذهل للعالم من حولنا، والذي يتألف من أعداد هائلة من التصميمات المعقّدة الفذّة من غير إبداع إلهي عظيم لا نهاية لحكمته وعلمه. حقيقة أنّ هذه الطريقة من الاستدلال العقلي على وجود الله قديمة وقديمة جدّاً، إلّا أنّ العلوم الحديثة صقلتها وجعلتها أكثر وضوحاً وأسطع نوراً وأقوى حجّة وإقناعاً منها في أيِّ وقت مضى. إنّ كل ذرة من ذرات هذا الكون العظيم أكثر تعقيداً من ذلك العقل الإلكتروني الذي صنَّعته بيديّ. فإن احتاج هذا الكومبيوتر إلى مهندس وإلى مصمِّم وإلى منفِّذ لينجزوه وليخرجوه إلى عالم الوجود، فإنّ الجسد مليء بالأجهزة والأعضاء الحيوية التي ينجز كل منها من المهام الفسيولوجية ما يعجز عنه عشرات الآلات من الأجهزة الدقيقة والكومبيوترات، لابدّ وأنّه هو الآخر بحاجة إلى خالق حكيم، وعالم مبدع ليوجده. وإذا قمنا بمقارنة أعقد وأضخم العقول الإلكترونية بالعقل البشري، ستتجلّى لنا عظمة الله وإبداعه وحكمته في كل ما خلق في ملكوته الواسع العظيم". (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28). وقال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ). وقال عزَّ من قائل: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس/ 5). وعلى الرغم من التطور الكبير الذي طرأ على العقول الإلكترونية، فإنّها تبقى أجهزة صمّاء تعمل على تطبيق قواعد معيّنة تبعاً لمعلومات تمّ تلقينها إيّاها من قِبلِ عقول بشرية هي أعظم وأبهى. لقد تمكّن العقل الآلي من إيجاد علاقات معيّنة تبعاً لأصول ومعلومات محدّدة تم زرعها فيه، ولكنه عاجز كلّ العجز عن التفكير ذاتياً وعن استخدام المنطق، كما أنّه يفتقر إلى المحاكمة العقلية، ولا يتذوّق الجمال ولا يستمتع بالموسيقى ولا يضحك لفكاهة جميلة إن سمعها أو تمّ تلقينه إيّاها، ولا يطرب إذا ما سمع طرفه عذبة، ولا يبكي ولا يتألّم ولا يحسّ، ولا يملك الإرادة. بينما يقوم العقل البشري بتحليل نفسيّة الناس وينتقدها، ويعالج كل خللٍ طرأ عليها. أمّا العقل الآلي فإنّه يبقى جماداً لا يدري من هذه الأمور شيئاً. يقول العالم "روبرت هورتون كاميرون" المتخصِّص في الرياضيات وفي التحليل الرياضي والقياس، والأستاذ في جامعتيِّ برنستون ومنيسوتا الأميركيتين: "بإمكاني تصميم عقل إلكتروني قادر على لعب الشطرنج، ولكنه سيبقى آلة صمّاء لا تسعد إذا ربحت، ولا تتأثّر بالخسارة، ولا تشمت عند خسارة اللاعب المنافس لها، كما لا يمكن لهذه الآلة أن تحلِّل الأمور ولا أن تفلسفها بشكل منطقي كما يفعل العقل البشري. ثمّ يتابع البروفسور كاميرون قائلاً: إنني أؤمن بوجود الله، وعلى يقين تام أنّه الخالق لهذا الكون وللناس أجمعين بسبب ما زوَّدني به من انفعالات، لأنّ الإنسان سيبدو في دونها كالحيوان أو كالجماد. كما أؤمن بوجود الله العليِّ القدير، لأنّه وهبني القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب، وجعلني أنشد العدل في معاملاتي مع الناس، كما جعلني أدافع عن حقوقي وأحرص على نيلها من خلال الإرادة التي وهبني إيّاها. إنني أؤمن بوجود الله الحكيم بسبب ما قدَّره في عقلي من ذكاء وإرادة ومن قدرة عجيبة على الشعور والإدراك. فعندما أريد عمل شيء ما سيعمل فكري بهذا الشيء ثمّ يصنع القرار، ثمّ يهيِّئ لي الإرادة لأنفِّذ ما أريد تنفيذه. ولولا الإرادة لما كان لأحدنا كيان ولا وجود". هذا الخلق الفذُّ السويّ الذي لا يمكن له أن يكون أحسن ممّا هو عليه، والذي يدلُّ على مدى عظمة الصانع وقدرته، لابدّ وأن يكون من صنع الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل/ 88). نعم إنّه الله: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة/ 7). الذي قال سبحانه: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (الملك/ 3). يتابع البروفسور كاميرون حديثه قائلاً: "إنني أدرك وجود الله من خلال البصر والبصيرة التي وهبني الله إيّاها؛ أما البصر فهو ما نتعلَّمه في حياتنا وما نكتسبه من علوم وثقافات وخبرات من خلال الحواس ومن خلال الأخذ والعطاء، ومن التعامل مع الناس ومن خلال التفاعل مع البيئة والمجتمع الإنساني. أما البصيرة فإنّها ذلك النور الإلهي الذي يُفرغه الله في قلوبنا فيكشف لنا به ما تعذَّر علينا فهمه، كالإيمان به سبحانه وتعالى. إذاً لابدّ لمن يسعى وراء الإيمان من أن يتأمّل ويتبصَّر في ملكوت الله وفي عظيم قدرته حتى يتمكَّن من إدراك آياته الخالدة في كل مخلوقاته، بعد ذلك يستخدم عقله وحكمته وبصيرته ليستدلّ بها على حقيقة الوجود الإلهي والهيمنة الإلهية التي وضعت نواميس الكون والطبيعة، وكل ما يسعى فيها من نجوم ومجرات، وتعاقب الليل والنهار وتعاقب فصول السنة، والمدِّ والجزر وغير ذلك مما يزخر به الملكوت العظيم". يردف البروفسور كاميرون فيقول: "إنني أؤمن بالله لأنّه وهبني العقل وكرَّمني بالحكمة والبصيرة التي ميَّزتني عن سائر المخلوقات فنلت بها شرف خلافة الله على هذا الكوكب الجميل". فالعقل والحكمة والبصيرة نعمٌ من نعم الله الكثيرة علينا: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) (البقرة/ 269). وبالحكمة والبصيرة سيستدلّ الإنسان على وجود الله وسيستيقن أنّه الواحد الأحد خالق هذا الكون والمالك الوحيد لهذا الملكوت العظيم وما يزخر به من سماوات ومجرّات ونجوم: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). قبل أن أنهي حديثي عن أوجه الإعجاز الإلهي في الجهاز العصبي، أحبُّ أن أذكِّر الملاحدة والمادِّيين والماركسيين والداروينيين وأتباع نظرية الخلق الذاتي والتطوّر وبقاء الأصلح والطبيعيين والذين يدَّعون أنّ الإنسان يخلق الإنسان من خلال التناسل – بالآية (73) من سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). كما أحب أن أذكر لهم الآية (111) من سورة الإسراء: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا). لذلك كان حقاً علينا الابتعاد عن الملحدين الضالين المضلين، ونبذ أفكارهم وسمومهم وفلسفاتهم، وألا نتخذ الكافرين أولياءً وأصحاباً من دون الله ابتغاء عزَّة زائفة أو عرضٍ زائل أو جاهٍ دنيوي. (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء/ 139). وتأملوا في قوله سبحانه وتعالى في هؤلاء الملاحدة وفلسفاتهم: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة/ 77).   المصدر: كتاب الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان وتفنيد نظرية داروين

ارسال التعليق

Top