• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المسؤولية في الإسلام.. إيماناً وتطبيقاً

كريم جبر الحسن

المسؤولية في الإسلام.. إيماناً وتطبيقاً
لعل أهمّ مفهوم إسلامي يُلزم الإنسان المسلم بالإسلام إيماناً وتطبيقاً، ويُلزمه بالعمل الجادّ والمتواصل في سبيل تغيير نفسه وتغيير الآخرين، هو مفهوم المسؤولية في الإسلام، وقد أكّد الإسلام على هذا المفهوم تأكيداً عظيماً وذلك من خلال الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، التي تركّز في أعماق الإنسان المسلم أنّه "مسؤول عن نفسه مسؤولية مباشرة، ومسؤول عن الآخرين بارشادهم وتبليغهم رسالات الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو مسؤول أمام الله سبحانه بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مختلف مجالات الحياة، وفي كل صورها المتعددة". وأوّل من تحمّل المسؤولية في الإسلام وأدّاها بكل جدارة وأمانة وبلّغها للناس بالرغم من كلّ تبعاتها ومسؤولياتها الثقيلة هو النبيّ محمد (ص) (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) (المزمل/ 5)، وستبقى هذه المسؤولية إلى يوم القيامة كتكليف شرعي لكل المسلمين عامة، ولا يُستثنى منها أحد إلا من ورد في الحديث الشريف: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". وهناك نصان صريحان كلّ الصراحة في مخاطبة الإسلام للمسلمين وتكليفهم بالمسؤولية الشرعية، نصّ من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24)، ونصّ عن النبي محمد (ص) يؤكّد فيه على مسؤولية الناس أجمعهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين: "ألا كلكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مالِ سيّده، وهو مسؤول عنه.." [الري شهري، ميزان الحكمة، ج4. ص327]. والمسؤولية الشرعية في الفقه الإسلامي مفصّلة ومبوّبة ومحدّدة لكل فرد مسلم بالغ عاقل يكون أهلاً لتحمّل المسؤولية، وقد عبّر عنها الفقهاء بمصطلحات الذمّة والأهلية، كما حدّد أهل القانون تعريفات خاصة للمسؤولية. إنّ تعميق هذا المفهوم في نفوس المسلمين وفي مداركهم العقلية، عبر تربية الناس تربية قانونية يجنّب المجتمع الإسلامي الكثير من المصائب والويلات والمشاكل، فيعرف كل شخص قدره وحدوده ومسؤولياته تجاه الآخرين وكيفية التعامل معهم تعاملاً إسلامياً فذّاً. إنّ من البديهيات الواضحة لكلّ إنسان مسلم، وهو وجود الحساب يوم القيامة على كلّ أفعاله وأقواله ونواياه، يقول سبحانه: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة/ 284)، فالمسؤولية عامة وشاملة لكلّ المسلمين (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الحجر/ 92-93)، وهي تشمل الرسل والأنبياء مثلما تشمل الناس الذين بُعثت إليهم الرسالة الإسلامية (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف/ 6)، والمسؤولية تشمل كلّ جوانب حياة الإنسان المؤمن الجسدية والعقلية والنفسية لتحيط به إحاطة تامة، ولتشعره بأنّه مسؤول بكل كيانه وبكل جوارحه أمام الله سبحانه (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36). ولكي يعي الإنسان المسلم جسامة المسؤولية وأبعادها الخطيرة في حياته الدنيوية وحياته الأخروية على حدٍّ سواء، ويكيّف سلوكه وفق الذي ينتظره يوم القيامة من الحساب الشديد والعقاب الصارم إن هو فرّط في هذه المسؤولية أو انفلت منها، قال تعالى محذّراً ومذكّراً ومنبّهاً: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الإسراء/ 13-14). ومن خلال الحديث الشريف سابق الذكر "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته.." نستطيع أن نقسم المسؤولية في الإسلام إلى ثلاثة أقسام هي:   المسؤولية عن النفس: تبرز أهمية المسؤولية عن النفس من أنها منطلق لكل المسؤوليات الأخرى فما لم يغير الإنسان المسلم نفسه لا يستطيع أن يغيّر الآخرين (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11). ويقول الإمام عليّ (ع): "ميدانكم الأوّل أنفسكم".. وفي حديث آخر: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم" وغيرها من الأحاديث الشريفة.. ولكنّ المسألة الأهم هي: كيف يحاسب الإنسان نفسه وكيف يغيّرها؟ وباختصار ما هي حدود مسؤولياته تجاه نفسه؟ إنّ الآيات الكريمة التي تتحدث عن النفس تبيّن خطورتها في حياة الإنسان المسلم (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10)، فقول الله سبحانه (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) له مداليل عديدة وأبعاد كبيرة قلّما يتصوّرها الإنسان المسلم، فهي صنع الله ولا يعلم صنعه إلّا هو، فقد تجنح هذه النفس بالمسلم إلى مهاوٍ سحيقة وخطيرة لا يستطيع الخروج منها إلا بقدرة قادر! ولذلك ورد عن النبيّ محمد (ص): "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". فكيف يغيّر الإنسان نفسه؟ وكيف يراقبها؟ وكيف يحاسبها؟ وكيف يسلك بها الطريق القويم في معارج السمو والكمال؟ إننا نعتقد أنّ هذا الأمر يتركز في ثلاث طرق: أ‌-      تنمية الإيمان: بالاعتقاد الصادق والمستند إلى العقل والبرهان والتجربة، والذي يؤدي إلى إزالة كلّ الشكوك التي قد تطرأ على ذهنية الإنسان المسلم فتبعده عن طريق الحق والصواب (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (إبراهيم/ 10)، وطرق تقوية هذا الإيمان عديدة ومتنوّعة أهمها المعرفة الحق، يقول الإمام عليّ (ع): "أوّل الإيمان معرفته" وتأتي هذه المعرفة عن طريق القراءة والدراسة والحوار الجاد والمثمر الذي يبحث عن الحقيقة في مظانها. ب‌- معالجة أمراض النفس: قد تتغلّب نفس الإنسان عليه، وقد تُثقله بالرغبات والشهوات، وقد تدفعه إلى ارتكاب الجرائم والموبقات، فعليه أن يتأهّب لذلك ويكون على حذرٍ دائم منها، فيعالج فوراً كل مرضٍ قد يعتريه من أمراض النفس بالاستغفار والتوبة وتقريب النفس من مجالس الصالحين ومن الأماكن التي تزيد في إيمانها وتقواها (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران/ 135)، فالمؤمن دائم المراقبة لنفسه، يحاسبها كل يوم، ويعالجها بالدواء والغذاء الرباني لأنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً كما ورد عن الإمام عليّ (ع). والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تؤكّد على مراقبة النفس وتغيير ما فيها كثيرة وعديدة لا مجال لذكرها. ج- الزام النفس: الإسلام هو دين المبادئ والقيم (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا) (الأنعام/ 161)، وليس هو دين المصالح الذاتية والحاجات الأنانية بل هو دين الله الذي أُرسل ليُسعِدَ البشرية كلّها، يقول سبحانه: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات/ 57). وهذا المفهوم يُوجب على الإنسان المسلم أن يتعرّف على قيم الإسلام الفذّة ويؤمن بها ويلزم نفسه بالسير عليها والتعامل مع الآخرين بمقتضاها.   المسؤولية عن الآخرين: تمتد المسؤولية عن الآخرين في اتجاهين رئيسيَّين يحدّدان سلوك الإنسان وحدود مسؤولياته تجاه الآخرين، فمن جهة يعتبر الإسلام بأنّ الإنسان المسلم مسؤول مسؤولية مباشرة تجاه نفسه، ولا يحاسب على أخطاء غيره، والآيات القرآنية الكريمة التي تؤكد على هذا المفهوم عديدة نذكر منها قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164)، وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر/ 38)، وقوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء/ 13)، هذه الآيات الواضحة كل الوضوح تؤكّد أنّ الإنسان المسلم مسؤول أمام الله تعالى بالدرجة الأساس عن نفسه، ولا يتحمّل ذنوب غيره أو ضلال الآخرين، يقول تعالى بنصّ قاطع صريح: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة/ 105). ومن جهة أخرى فإنّ الله سبحانه حينما أكّد على المفهوم سابق الذكر لم يترك الأمور على عواهنها، ولم يدع الإنسان المسلم يُلقي حبلها على غاربها، بل وضع عليه بعض المسؤوليات الاجتماعية، منها مسؤوليات اقتصادية ومنها مسؤوليات "أخلاقية" ومعنوية وفكرية، فمن المسؤوليات الاقتصادية مسألة التكافل الاجتماعي بأن يكفل الناس بعضهم بعضاً اقتصادياً، وهذه المسؤولية تمتد من أصغر قرية في المجتمع إلى أكبر مدينة في البلاد، فأناس كل حيٍّ مسؤولون عن فقرائهم وهكذا، وحديث النبيّ محمد (ص) المشهور: "ما آمن بي مَن بات شبعاناً وجاره جائع" أقوى دليل على وجوب التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وبدون ذلك ينتفي الإيمان عن شخص لا يواسي إخوانه الفقراء، وهذا الأمر الاقتصادي مفصّل كثيراً وكُتبت حوله أبحاث متعددة في الكتب الاقتصادية المعتبرة. أمّا المسؤوليات الفكرية والمعنوية و"الأخلاقية" فهي كثيرة ومتنوعة، وكلّها تتركز حول نقطة معيّنة بأنّ على الإنسان المسلم واجبات وتكاليف محدّدة تجاه الآخرين، فإن أدّاها رُفعت عنه المسؤولية وألقى الحجة على الناس، ومن هذه الواجبات والتكاليف أنّ عليه أن يبلّغ الناس، ويُرشد الضالّ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن استجاب له الآخرون فذلك خيرٌ على خير، وإن أبوا وأعرضوا فـ(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور/ 54)، (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام/ 107). (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 22). ولذلك فقد وضع الإسلام درجات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يكون في بعض الأحيان وبالاً وخطراً عليه: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك هو أضعف الإيمان". والمسؤولية في الإسلام مرتبطة بالحرية ارتباطاً وثيقاً، فما لم تكن للفرد حرية فلن تكون عليه مسؤولية، إذ كيف يكون مسؤولاً مَن لم تكنْ لديه القدرة على اختيار طريقة أو التصرّف وفق ما يمليه عليه عقله وضميره، وبناءً على ذلك جعل الإسلام الحرية حقّاً من الحقوق الفردية التي لا يمكن التهاون بها، وفي مقابل هذه الحرية وضع الإسلام على المؤمن المسؤولية الكاملة تجاه نفسه وتجاه الآخرين، فالإنسان حرّ حرية تامة في شؤون حياته كلّها، في السرّاء والضرّاء، يختط طريقه بنفسه من دون إكراه ولا إجبار، وبعد ذلك يحاسب على اختياراته وتصرفاته كلّها، والحرية بنظر الإمام الصادق (ع) والإمام الرضا (ع) تعني (التفويض).. يقول الإمام الصادق (ع): "إنّ الحرّ حرٌّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تراكمت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً كما كان يوسف الصديق الأمين لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر". ويقول الإمام الحسين (ع): "إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم". ولكن ما هي حدود هذه الحرية؟ وما أبعاد هذه المسؤولية تجاه الآخرين؟ إنّ البحث في هذه المسألة يطول، ولكننا نختصر فنقول: إنّ الأحاديث الواردة عن الرسول محمد (ص) وعن أهل بيته الطيبين الطاهرين (ع) توضح هذه المسألة توضيحاً تاماً، وتبيّن عظمة الإسلام في الإيمان بالحرية إيماناً مطلقاً يفوق ما يتبجّح به الآخرون عن الحرية والديمقراطية، إنّ حدود الحرية في الإسلام تقف حينما تصطدم بحرية الآخرين وتكون ضرراً عليهم قد يؤذي حياتهم، ويصوّر لنا النبيّ محمد (ص) الحرية بين أفراد المجتمع فيقول (ص): "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على يدهم نجوا ونجوا جميعاً". وها هو الإمام عليّ (ع) يحدّد مسؤوليته تجاه أعدائه الخوارج فيقول: "لهم علينا ثلاث: أن لا نمنعهم مساجد الله، وأن لا نحرمهم الفيء، وأن لا نبدأهم بقتال حتى يقاتلونا". هذه هي عظمة الحرية في الإسلام تُعطى حتى للأعداء، ولكنها تقف في وقت يعزم فيه الأعداء على قتال المسلمين، حينذاك تبدأ محاربتهم جسدياً ونفسياً واقتصادياً كما فعل رسول الله (ص) أثناء معركة بدر، ولكنّ للقتال في الإسلام شروطاً ومقاييس حضارية، قلّما نجدها عند الأُمم الأخرى.   مسؤولية الحاكم الإسلامي: الرئاسة في الإسلام مسؤولية عظيمة وثقيلة، وقد كثرت شروطها وقيودها على الحاكم المسلم بحيث لا يتمنّاها أي فرد، ولا يمكن أصلاً أن يتمنّاها لأنّ الحديث المشهور "إنّا لا نولّيها من طلبها" أصدق مثال على ذلك، وحساب الحاكم في الإسلام لا يتوقف عند حدود الحياة الدنيا، بل يتعدّاها إلى الآخرة حيث حسابه الشديد عليه لأنّه يتحمّل مسؤولية كل هؤلاء الناس الذين يقودهم ويتأمّر عليهم، والأحاديث التي تتناول الحساب في الحياة الدنيا عديدة، نذكر منها قول الإمام عليّ (ع): "حبُّ الرياسة رأس المحن"، ويقول أبو عبدالله (ع): "من طلب الرئاسة هلك"، ويقول (ع) أيضاً: "ملعون من ترأس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدّث بها نفسه"، ويقول الصادق (ع) أيضاً: "إيّاكم وهؤلاء الرؤساء الذي يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلّا هلك وأهلك". أمّا في الآخرة فتُحاسب كل أمّة مع إمام زمانها، عن الفضيل أنّه قال: "سألتُ أبا جعفر (ع) عن قول الله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) (الإسراء/ 71)، قال (ع): يجيء رسول الله (ص) في قومه، وعلي في قومه، والحسن في قومه، والحسين في قومه، وكل من مات بين ظهراني إمام جاء معه". وعن النبيّ محمد (ص): "يُدعى كلّ أناس بإمام زمانهم وسنّة نبيهم". سأل أبو ذر رسول الله (ص) ولايةً على المسلمين، فقال له (ص): "يا أبا ذر إنّها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلّا من أخذها بحقها". فالحاكم الإسلامي مسؤول مسؤولية كاملة عن كل من يعيش في ظل المجتمع الإسلامي عن تحقيق الأمن والأمان، الناس مأمونون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والحاكم مسؤول عن حمايتهم من الجوع وذلك بتقسيم فيئهم فيما بينهم، وعليه تحقيق العدل وإقامة الحق، وباختصار تحقيق دولة الله على الأرض. يذكر لنا التاريخ أنّه : "دخلت فاطمة زوجة عمر بن عبدالعزيز عليه فوجدته يبكي وينتحب من البكاء، فقالت له: ما يبكيك؟ فسكت وقال لها: إليك عني، فقالت: ما يبكيك؟ فسكت وقال لها: إليك عني، وفي المرة الثالثة قال لها: كيف لا أبكي وقد وُليت أمر هذه الأُمة وفيها الغريب الضائع، واليتيم البائس، والفقير الجائع، وأنا مسؤول عن هؤلاء جميعاً، وأخشى يوم القيامة أن آتي والله حسبي ومحمد (ص) حسبي، ولا تقوم لي عند الله قائمة من عذر. ثمّ بكى طيلة ليلته". أمّا ما هي أهداف الحاكم في الإسلام؟ وما هي مسؤولياته؟ وكيف يكون تعامل المسلمين معه؟ فيحدّد ذلك كلّه الإمام عليّ (ع) فيقول مخاطباً الله عزّ وجلّ: "اللّهمّ إنّك تشهد أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، أو طلب شيء من الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونقيم المضيّع من حدودك". هذه هي أهداف الحاكم في الإسلام: تطبيق معالم الدين الباهرة على الحياة، وإقامة أحكام الله العادلة بين الناس، لينعموا بسعادة الإسلام، ويرفلوا في ظلال عدالته ورحمته، فليس الهدف منها هو طلب السلطان لذاته، وليس الهدف من الحكم هو نيل أكبر قدر ممكن من الأموال وتحقيق المآرب الشخصية. وفي مقابل ذلك ينبغي على المسلمين مراقبة الحاكم دائماً ومساعدته في تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً، ليؤدي دوره الصحيح في إستقامةٍ وعدالةٍ وتجرّدٍ وخلوص لله سبحانه. يقول الإمام عليّ (ع): "فلا تكلّموني بما تُكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يُتَحَفَّظُ عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بين استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل".   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 53 و54 لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top