إلّا أنّ القرآن الكريم كان ينادي قبل ذلك بقرون: أنّ الأرض أو الجبال التي عليها تتحرك كما يتحرك السحاب وتمرّ كما يمرّ. وذلك بقوله جلّ من قائل: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل/ 88).
وحركة الجبال ومرورها أو حركة الأرض هذه: هي في الحقيقة حركتان: حركة في دورانها حول الشمس على شكل اهليليجي أو قطع ناقص، وحركة أخرى أو مرور آخر مع الشمس وبقية كواكب المجموعة الشمسية بسرعة، 70.000 كيلومتر تقريباً في الساعة الواحدة على شكل لولبي في هذا الفضاء اللانهائي متجهة نحو النجمة المسماة بالنسر الواقع كي تبلغ مستقرها كما أخبرنا الله تعالى في محكم كتابه بقوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يس/ 38). ويعتبر انكشاف حركة الأرض بدورانها حول نفسها وحركتها أو دورانها حول الشمس من أروع ما اكتشفه العلم الحديث، وقد سبق القرآن هذا الاكتشاف ما يزيد على ألف سنة تقريباً.
ولا يراد بمرور الجبال في الآية المتقدمة: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً) ما يحدث يوم القيامة، ذلك لأنّه لا تبقى جبال إذا كان يوم القيامة حتى يراها الإنسان في ذلك اليوم فيحسبها جامدة. وهو القائل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) (طه/ 105)، وبقوله: (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) (المرسلات/ 10)، وبقوله: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (الواقعة/ 5-6).
ويقول حجة علماء الفلك: (سيمون) بشأن حركة الأرض ضمن المجموعة الشمسية: "انّ من أعظم الحقائق التي اكتشفها العقل البشري في كافة العصور هي: أنّ الشمس والكواكب السيارة التي هي في المجموعة الشمسية (مجموعتنا هذه) وأقمارها تجري في الفضاء متجهة نحو برج النسر، بسرعة غير معهودة لنا على الأرض، يكفي لتصورها أننا لو سرنا بسرعة مليون ميل يومياً، فلن تصل مجموعتنا الشمسية إلى هذا البرج إلّا بعد مليون ونصف مليون سنة من وقتنا الحاضر، وهذه دون مراء إحدى معجزات القرآن العلمية".
ودليل آخر على حركة الأرض قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأعراف/ 137).
ومعلوم أنّ مشارق متعددة ومغارب عديدة لا تحدث إلّا بحركة الأرض حول محورها حتى تكون كلّ نقطة منها تارة مشرقاً وأخرى مغرباً حسب حركة الأرض ودورانها بالنسبة إلى الشمس التي تُرى لبعدها ثابتة على وجه التقريب.
ويقول الله تعالى في آية أخرى:
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) (الصافات/ 5).
وفي آية أخرى أيضاً:
(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) (المعارج/ 40). مما يدل على أنّ كلَّ ما في هذا الكون من أجرام ومجرات وغيرها في حركة دائمة حول محاورها ولها مشارق ومغارب وهذا عين ما اكتشفه علم الفلك الحديث وعلم الفلك اللاسلكي بالنسبة إلى الأنجم النائية في أغوار الفضاء والمجرات كذلك.
وانّ الآيتين تدلان دلالة واضحة على حركة الأرض لئلا يبقى قسم منها في ظلام دائم والقسم الآخر في ضياء دائم.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (القصص/ 71-72).
وبما انّ الله تعالى أخبرنا في الآية القائلة: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (يس/ 38)، انّ الشمس تسير في الفضاء إلى حيث تستقر وهذا لا يتلائم مع دورانها حول الأرض حيث يخالف الجري الذي مآله الاستقرار في محل يعلمه الله تعالى، إذن وجب أن نقول إنّ الشمس بحكم الآية المتقدمة لا تدور حول الأرض، وبما انّ خروج الأرض من ظلام دائم أو خروج الأرض من ضياء دائم يتوقف على حركتها حول محورها، إذن يعلم من الآيات المتقدمة بعد الجمع بينها أنّ الأرض متحركة حول نفسها، أو حول محورها.
ويقول الله جلّ جلاله في الآية الآتية: إنّه لو كان في جهة من الأرض ليلٌ لكان في الجهة الأخرى نهار بصورة حتمية، وهذا لا يتم إلّا بدوران الأرض حول محورها أو بدوران الشمس حول الأرض. وبما أنّ الله أخبرنا أنّ الشمس تجري في الفضاء لمستقر لها، أي: ليس لها دورانٌ حول الأرض إذن وجب أن نقول: إنّ الأرض هي التي تدور حول نفسها ليتمّ الليل والنهار في كلِّ 24 ساعة.
والآية هي:
(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).
فقوله تعالى: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا) يشير إلى حركة الأرض حول نفسها ودورانها حول محورها، ذلك لأنّ الليل والنهار يكونان على الكرة الأرضية في وقت واحد في موضعين مختلفين. والله تعالى لا يتردد في تعيين وقت يريد فيه إفناء الأرض وإبادتها: هل يكون ذلك في الليل أم في النهار، وهو خالق كلّ شيء والعالم بكلِّ شيء، عالم بما هو كائن وبما سيكون، إذن، يشير قوله تعالى: (لَيْلا أَوْ نَهَارًا) إلى أنّ قسماً من الأرض يتلقى أمر الفناء – من جانب الله تعالى – ليلاً، والقسم الآخر في نفس اللحظة يتلقى هذا الأمر نهاراً. وهذا لا يتم إلا بحركة الأرض أو دورانها حول محورها لحدوث الليل والنهار في نفس الوقت نتيجة هذا الدوران.. وقد نفينا دوران الشمس حول الأرض بالآية المتقدمة.
ويقول الله تبارك وتعالى: (وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) (يس/ 40). ومعنى ذلك: أنّ اللّيل لا يسبق النهار وكلاهما يحدثان في وقت واحد. حقاً، عندما انفصلت الكرة الأرضية بحالة نارية ملتهبة عن الشمس، كان الطرف الذي يلي الشمس نهاراً والطرف الآخر ليلاً، وعندما بدأت تدور حول نفسها وحول الشمس أيضاً بحكم الجاذبية على ما ثبت في علم (الميكانيك كان الطرف المتوجه إلى الشمس نهاراً والطرف الآخر ليلاً. فالليل والنهار كلاهما يحدثان في آن واحد دون أن يسبق أحدهما الآخر. ثمّ إذا أضفنا إلى هذه الآية قوله تعالى في سورة يس: (وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ)، هذه الآية: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان/ 62)، نعلم أنّ الليل يتلو النهار، فهما متعاقبان. وهذا لا يتم إلا بدور الشمس حول الأرض، أو بدوران الأرض حول محورها. وبما انّ الآية:
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) (يس/ 38). تنفي دوران الشمس حول الأرض ذلك لأنّ الشمس تجري لمستقر لها، ولا استقرار مع الدوران في نفس المدار، إذن: يُعلم أن لابد لتعاقب اللّيل والنهار من حركة الأرض حول محورها ليكون بصورة دائمة الطرف المتوجه نحو الشمس نهاراً والطرف الآخر غير المتوجه نحو الشمس ليلاً.
ومما لا مراء فيه: أن ليس للأجسام الصامتة، الصماء أن ترتب لنفسها حركاتٍ مترتبة منتظمة تحصل بسببها، أي بسبب دوران الأرض حول محورها، حياة على الكرة الأرضية، فتعيش النباتات والحيوانات عليها، إذن: يحكم العقل بصورة فطرية: أنّ الله تبارك وتعالى هو الذي أعطى هذه الحركات المنتظمة للكواكب والشموس كي تحصل بسببها حياة. ذلك، لأنّ الأرض لو كانت ثابتة، لبقي طرف منها متوجهاً نحو الشمس ولاحترق كلّ ما على الأرض من نبات وحيوان ولتبخرت المياه، وانعدمت نتيجة لذلك الحياة عليها وكذلك الطرف الآخر: الطرف غير المتوجه نحو الشمس لبقي في ظلام دائم وبرودة قارصة، وانجمد بسببها كلّ ما على الأرض من نبات وحيوان ومياه وانعدمت الحياة عليها أيضاً.
فالله تعالى جعل هذه الدقة المتناهية في الخلق: من تعاقب الليل والنهار إلى ما هنالك من ملايين الأنظمة والقوانين والخواص تذكرةً لمن أراد أن يذكّر وعبرةً لمن أراد أن يعتبر: لمن أراد أن يقوم بواجب الشكر تجاه نعمه التي لا تعد ولا تحصى فيشكر الله تعالى بصلاة يصليها وصوم يطهر به نفسه وزكاة يطهر بها ماله وخمس يؤدي به ما فرض الله عليه، وحج يتقرب به إلى الله، وانفاقٍ وبذل وقيام بحوائج الناس وأعمال صالحات، وبر الوالدين وصلة الرحم، وتسبيح الله تعالى وتقديسه.
فلا يعتبر بآيات الله تبارك وتعالى وما أودع في الكون من حركات وقوانين إلّا مَن آمَن ولا يؤمن حقاً إلّا مَن اتقى الله، ولا تتم التقوى إلّا بالقيام بواجب الشكر. ولكلّ عضو من أعضاء الإنسان شكر يناسب ذلك العضو، ولكلّ جارحة من الجوارح شكر يناسبها، ولكلّ ما مَنَّ الله على الإنسان من منصب وجاهٍ وعلم وكمال شكرٌ يناسبها، كما أنّ لكلّ ما منَّ الله على الإنسان من مال ومنال وأرض وعقار شكراً عملياً يناسبها. ولا يكفي قولك: الحمد لله، إذا منَّ الله عليك بدور متعددة حتى تُسكن في إحداها بعض المعوزين من أيتام وأرامل وغيرهم. فقد جاء في الحديث: "مَن كانت له دار، فاحتاج مؤمن إلى سكناها، فمنعه إيّاها، قال الله عزّ وجلّ: ملائكتي بخل عبدي على عبدي بسكنى الدنيا، وعزتي، فلا يسكن جناني أبداً".
المصدر: كتاب التكامل في الإسلام/ ج3
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق