• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور الغيب في حياتنا

اسرة

دور الغيب في حياتنا

قال تعالى في صفة المتقين: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة/ 3).

التطبيق الحياتي: قواكَ المادّية والعقلية محدودة، فإذا لم ترتبط بالمطلق بشكلٍ أو بآخر بقيتَ محدوداً، إنّ الله تعالى أراد لحياتك أن تكون أوسع دائرة من الحياة المادّية، ففتحَ عليك باب الإيمان الشامل الكامل بكلّ ما غاب علمه عنك: كذات الله تعالى، وملائكته والدار الآخرة، ممّا أخبر عنه القرآن، وأرشد إليه الدليل، وعجزت عنه وسائل وأدوات القدرة المادّية.

اعتقادك بوجود أشياء غير منظورة من القوى والعوالم والأشياء بما لم يتيسّر لك رؤيته عملياً، وامتداد تفكيرك خارج السنن والتجربة، يموّنك بقوّة أكبر، ويسلِّمك بمدد أعظم يتجاوز حدود السائد والمألوف، ويدور في فلك أوسع من الفلك الدنيوي.

إنّ الغيب هو ارتباط عملي وحياتي بالله في المواقف الصعبة والعصيبة التي يعجز الإنسان على اختراق عقباتها، فالحياة لا تخضع دائماً للتفسيرات المادّية، خاصّة في عالمي (الرزق) و(الصحّة).

الغيب باختصار، هو وجود جانب روحي - غائب عن الحواس والعلم - يرعى الإنسان، يتدخّل في حياته.

وهذه بعض الأمثلة القرآنية:

1- دور الغيب في النصر:

قال تعالى في معركة حنين: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة/ 26).

التطبيق الحياتي: الألطاف الخفيّة في حياة كلٍّ منّا هي من بعض الغيب الذي يريد الله للمؤمن من أن تبقى عينه معلّقة به، وقلبه متّصلاً به، فالله تعالى هو الذي يفيض أسباب النصر، وبيده الأمر كلّه، فإذا عشتَ هذا الفتح الروحي في قلبك، عشتَ الفتح العسكري في حربك، بل في حياتك كلّها.

2- دور الغيب في البركة:

قال تعالى على لسان عيسى (ع): (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) (مريم/ 31).

التطبيق الحياتي: البركةُ بركتان: بركة من خلال عملك المبارك النافع الذي تنتفع وتثري وتصلح حياة الناس به، بما تمتلكه من طاقات خيِّرة تنجزها في خدمتهم.

وبركة تمثّل حالة غيبية روحية فيما تنفقه من مال، فيزكو وينمو ويتضاعف بأن يطرح الله البركة فيه، وفيما تبذله من علم وجهود وأوقات في خدمة الناس، فتزداد علماً وصحّةً وسعةً في الوقت. وعن النبيّ (ص): "العلم يزكو على الإنفاق"، أي أنّ الله يجعله علماً مباركاً، فيتّسع كلّما نفع.

3- دور الغيب في الخصب:

قال تعالى على لسان نوح (ع) لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-12).

التطبيق الحياتي: هناك علاقة وثيقة بين الإنسان وبين الطبيعة والغيب، أي ثمّة ارتباط بين المادّي والمعنوي، فقد يبدو الاستغفار لأوّل وهلة بعيد الصِّلة عن الرزق: (أمطار، أموال، بنين)، ولو صحّ هذا لما كان للدعاء والتضرّع وصلاة الاستسقاء معنى.

قال عزّوجلّ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الأعراف/ 96).

فالمراد من (تدخّل الغيب): الأثر العملي للإرادة الإلهية في القانون الطبيعي والاجتماعي، فيُعطِّله أو يُغيِّره من أجل مصلحة يُقدِّرها الله تعالى، وليس من الضروري أن يتوافق تدخّل الغيب مع رؤية الإنسان أو طموحه.

إنّ تدخّل الغيب لا يلغي القانون كلّياً أو يُعطّله أبديّاً، بل بقدرٍ معين، عند زمن معيّن، في ظرفٍ معيّن. كما أنّ تدخّل الغيب يهدف إلى تحقيق غايات سامية، منها:

أ- مصلحة عامّة، كالتدخّل الإلهي في حفظ الرسالة الإبراهيمية وسلسلة النبوّات المرتقبة من عقب إبراهيم ومن ضمنهم النبيّ محمّد (ص)، فأصبحت النار باردة ليخرج (ع) سالماً معافى.

ب- مصلحة خاصّة، كتدخّل الغيب لتحقيق غرض فردي، أو مصلحة جماعة، ممّا لا يتعارض مع الأهداف العامّة.

ت- دعاء الإنسان، فالإنابة إلى الله بصدق وإخلاص، توجب الرحمة وتستنزل الخير والبركة.

وبالإجمال، فإنّ الإيمان بالغيب رحمة من الله بعباده!! وقد تميّزت الأُمّة الإسلامية على ضوئه بأمرين، هما:

أوّلاً: أنّها أُمّة الغيب.

وثانياً: أنّها أُمّة السند.

وحين نربط بينهما، فنقول: إنّ الغيب إنما نستقبله من خلال سند موثّق محقّق عن عالمه المطلق الله جلّ جلاله، أي يصلنا الخبر بذلك من خلال شخص موثّق أو جماعة من الثقافات والصادقين في نقلهم المحقِّقين في أمرهم .

إنّ وسائلنا للعلم والمعرفة تنحصر بنوعين:

أ- المُشاهَد المحسوس: وهذا ما نعرفه ونميِّزه بتشخيص الحواس له.

ب- المنقول لنا: ويشترط فيه أن نطمئن إلى صدق ناقل الخبر.

ومن هذا النوع من المعرفة، ما حدّث به رسل الله وأنبياؤه (ع) من عوالم السماوات، والملائكة، والجنّ، ومشاهد يوم القيامة، وما حدّثونا به من صفات الله تقدّست أسماؤه .

ارسال التعليق

Top