• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لا تمايز ولا عليّة في العدم

عبد الجبار الرفاعي

لا تمايز ولا عليّة في العدم

هذا البحث هو بحث استطرادي، لأن موضوع الفلسفة هو الوجود، والبحث فيه في أحوال الموجود من حيثُ إنه موجود، والعدم في مقابل الوجود، فلا يكون البحث في العدم داخلاً في الفلسفة. وإنما يبحث بحثاً استطرادياً بتبع الوجود.
ولكن العدم وإن يكن له تحقق في عالم الأعيان لأنه يقابل الوجود _ولكن مما لا ريب فيه أن مفهوم العدم له تحقق في الذهن الإنساني، كأي مفهوم فلسفي آخر، إذاً العدم والمعدوم _وإن لم يكن له تحقق في الأعيان _ إلا أنه من المفاهيم الفلسفية التي تدخل في بناء المعرفة البشرية. فالبحث في العدم مهم في المعرفة البشرية.
والبحث هنا انما هو في إطار المفاهيم، لأن العدم مفهوم في الذهن، والذهن يميز هذا المفهوم عن غيره من المفاهيم، فما هو العدم إذاً؟ العدم هو لا شيء، ولذلك نقول أن لا تمايز في الأعدام ولا عليّة في الأعدام، فهنا دعويان:
الأولى: لا تمايز في الأعدام.
الثانية: لا عليّة في الأعدام.
1_ لا تمايز في الأعدام:
الدعوى الاولى: لا تمايز بين عدم وعدم، وهذه الدعوى بديهية، ولكن البديهيات نوعان، قسم غير قابل للاستدلال، وقسم منها قابل للاستدلال، ومنها هذه المسألة، مسألة أن لا تمايز ولا اختلاف بين عدم وعدم، فعلى الرغم من كونها مسألة بديهية نراها قابلة للاستدلال.
بيان الاستدلال، بماذا يكون الامتياز حتى يتميز شيء عن شيء؟ التمايز تارة يكون بتمام الذات كالأجناس العالية، فالجوهر يمتاز عن الكيف، والكيف يمتاز عن الأين، بتمام الذات، وتارة يكون التمايز بجزء الذات كالتمايز بين الإنسان والفرس، فكلاهما من جنس الحيوان، لكن فصل الفرس هو الصاهل وفصل الإنسان هو الناطق. ويكون التمايز تارة أخرى بالأعراض (المنضمات)، كالتمايز بين هذه الورثة البيضاء وتلك السوداء باللون، وهنا نقول انّ العدم لا ذات ولا حقيقة له لأنه بطلان محض. فإذا لم تكن هناك ذات للعدم ينتفي عنه التمايز بتمام الذات، والتمايز بجز الذات، كما ينتفي التمايز بالمنضمات.
العدم المطلق والعدم المضاف:
ولكن قد يقال اننا نشعر بالاختلاف والتمايز بين عدم السمع وعدم البصر. فمن أين نشأ هذا الفرق؟ الجواب: العدم نفسه ينقسم إلى عدم مطلق وعدم مضاف. والعدم المطلق: هو العدم بلا قيد وإضافة لشيء، والمضاف: هو العدم الذي يضاف إلى شيء كما في: عدم البصر، فالبصر شيء أضفت له العدم، والسمع شيء اضفت له العدم وهنا بما أن السمع موجود، والبصر موجود، وهما متمايزان، والذهن يُدرك الفرق بينهما، فعندما تنفي البصر، يشعر الذهن أن نفيه يغاير نفي السمع، وهذه المغايرة ليست حقيقية وذاتية وإنما هي مغايرة بالعرض والمجاز، لأن التمايز والاختلاف في الواقع بين وجودين هما السمع والبصر.
2_لا علية في العدم:
أي ان عدم الشيء لا يكون علة لعدم آخر.
فعندما نقول النار علة للغليان، أو الحرارة علة للتمدد، فالعلة تعني وجود شيء هو النار، وهكذا المعلول، إذاً العلة والمعلول أمور حقيقية، اما نفي الأثر والمؤثر فإنها أمور غير حقيقية، فكيف نقول عدم العلة علة لعدم المعلول؟
الجواب: هذا كلام مجازي وليس كلاماً حقيقياً، أي اننا نريد أن نقول هكذا: إذا لم يكن سبب فلا يوجد مسبّب، فمرّة نقول إذا وُجد الغيم وجد المطر، إذا وجدت العلة وجد المعلول، ومرّة أخرى نريد نفي وجود المطر، فنقول إذا لم يكن مؤثر لم يكن أثر، إذا لم تكن علة لم يكن معلول، إذا لم يكن غيم لم يكن مطر، فنعبّر عن هذا تعبيراً مجازياً، فنقول عدم العلة أي عدم الغيم علة لعدم المعلول، أي علة لعدم المطر، وإلا في الواقع لا عليّة هنا لأن عدم الغيم وعدم المطر، عدم وبطلان ولا شيء.
وهذا كما في القضية الحملية السالبة، ففي القضية الحملية الموجبة يوجد حمل حقيقي، حكم ثابت لموضوع حقيقة، أما في القضية السالبة عندما نقول: الإنسان ليس بحجز، فليس هناك حمل حقيقي، بل نفي الحمل، سلب للحمل، لا يوجد حكم على الإنسان، بل نفي للحكم، لكن مع ذلك نُسمي هذه القضية بالحملية السالبة، والشيء نفسه يقال في القضية الشرطية السالبة، فالتعبير عن الحملية السالبة بالحملية هو تعبير مجازي، لأنه ليس في الحملية السالبة إلا سلب الحمل، وكذلك في الشرطية السالبة.

المصدر: دروس في الفلسفة الإسلامية

ارسال التعليق

Top